محمد خضير لم يكن ساردا عراقيا بل هو سارد عربي، له اسم لا تخطئه عين من قرأ القصص والسرد وتعلم منهلا من الأجيال المختلفة
خضير يرى أن التجربة رهان على حاضر مثلما هي برهان على ماضٍ ودليل على ما سيأتي
احتفى الوسط الثقافي العراقي بثمانينية الروائي محمد خضير الذي يعد واحدا من أيقونات السردية العراقية ورائده من خلال عالمه المغاير للسرديات العراقية والعربية، منذ أن نشر أولى قصصه في مجلة الآداب البيروتية.
وأصبح خضير قمّة شاهقة في الثقافتين العربية والعراقية كونه صنع لنفسه أسطورة خاصة في كيفية كتابة النص الأدبي ليكون أبا ورائدا من رواد القصة العربية التي يبحث الجميع عن أية كتابة له سواء ما يتعلق بالتنظير الأدبي أو الإنتاج القصصي.
فمن هو خضير؟ وماذا يقول عنه الأدباء العراقيون والعرب؟ وما تأثيره على تطور السردية العراقية والعربية؟
خضير نال العديد من الجوائز الأدبية
صنع الجمال والذائقة
القاص والروائي أو كما يطلق عليه في العراق السارد محمد خضير ولد في مدينة البصرة عام 1942. حاصل على شهادة دار المعلمين عام 1961 ليمارس التعليم في محافظة البصرة وذي قار والديوانية جنوب العراق مدة تزيد على 30 عاماً، حتى أحيل على التقاعد.
نشر قصتين في مجلة الآداب البيروتية وحملتا عنوان "الأرجوحة" و"تقاسيم على وتر ربابة" ونشر كذلك في مجلة الأديب العراقي عام 1962. ترجمت قصصه إلى اللغات العالمية منها الإنجليزية والروسية والفرنسية، ونالت الجوائز كجائزة سلطان العويس في الإمارات عام 2004، وجائزة القلم الذهبي من اتحاد الأدباء والكتاب العراقية عام 2008.
يقول السارد للجزيرة نت إنه لا يستطيع أن يتحدث عن نفسه وخاصة في مناسبة كهذه، ويضيف "ما كتبته هو من أجل صنع الجمال والذائقة والمساهمة في تحريك الوعي" لكنه يستدرك "بكل تأكيد أنها تحيلنا إلى الشعور المهم في حقل الإنسانية، أهمية الكتاب والكتابة، شعور من يستقل قطارا وهو يحمل عدته من الكتب، ويبدو أن هذه العدة لها التأثير الكبير في ترك الأثر بأهمية جعلت الآخرين يحتفون بتجربتي من خلال عمري، وكأن هناك محطات نعبر لها بقطارات جديدة أو بذات القطار".
وهو يرى أن التجربة "رهان على حاضر مثلما هي برهان على ماضٍ وتكون هي دليل على ما سيأتي" لذا بحسب ما يراه فـ "الاحتفالية أو الاحتفائية هي مصدر سعادة ومسؤولية لا أملك أمامها إلّا أن أقول شكرا للجميع بلا استثناء".
ورغم أنه مقل في النشر، لكنه أصدر في مجال القصة "المملكة السوداء" عام 1972، "في درجة 45 مئوي" عام 1978، "رؤيا خريف" عام 1995، "تحنيط" عام 1998، "حدائق الوجوه" 2008، كما أصدر روايتي "سيرة مدينة بصرياثا" 1996، "كراسة كانون" عام 2001.
العذاري يرى أن خضير لا يكتب إلّا بعد أن يعكف على دراسة كلّ ما يتعلّق بتقنيات القصة ومصطلحاتها
ويقول عنه الناقد والأكاديمي الدكتور ثائر العذاري إن خضير "إيقونة السرد العراقية كونه مسكونا بالهم السردي من أن نشرت له مجموعته (في درجة 45 مئوي)" ويشير إلى أنه في هذه المجموعة أعلن عن هوسه بالفن والشكل والتقنيات بوصفها الأدوات الأنجع التي تجعل رسائل خضير عبارة عن تقنيات مدهشة كون القاص قادرا على كتابة قصص تكاد تكون خالية من الشخصيات البشرية بينما تأخذ الجمادات أدوار الشخصيات الرئيسة".
ويعد العذاري تجربة خضير بأنها" بداية مرحلة في تاريخ القصة العراقية" ويشير إلى أن من أجمل الوصفيات التي يمكن أن تطلق عليه أنه "ليس محض قاص يمتلك الحساسية المفرطة بجمال هذا الفن، بل هو قاص مثقف ومحترف، وهو أمر واضح في عمله".
ويمضي بالقول واصفا خضير بأنه "لا يكتب إلا بعد أن يعكف على دراسة كل ما يتعلق بتقنيات القصة ومصطلحاتها" ويزيد "لم يزل باحثا دؤوبا عن الشكل كما لو كان يشعر أنه لم يصل إلى شكله المنشود بعد".
الياسري: عينه السردية تقترب من الكاميرا السينمائية التي ترصد الأحداث وتحارب المركزيات
عرش السردية
لم تكن تجربة خضير وليدة مرحلة محددة، بل أصبحت لها جذور وأثر وتأثير، كما يقول الناقد الدكتور عمار الياسري، الذي يصفها بأنها من التجارب المهمة وخاصة مع القصة القصيرة التي شهدت "تحولات بنيوية كبيرة مما جعله يتسيد بنية التجديد في السردية العراقية".
ويذهب الياسري إلى أن خضير عمل على تحرير الشخصية القصصية من مرجعياتها السلطوية حين جعل من شخصية المهمش والمنسي والمقموع "بنية سردية مهيمنة" ويرى أن عين خضير السردية "تقترب من الكاميرا السينمائية التي ترصد الأحداث من جهة وتحارب المركزيات من جهة أخرى معلنة شعارها الآسر: أنا أصور إذن أنا موجود".
وأضاف بالقول إن خضير لم يكتف بتسريد الوثيقة بل عمل على سحرنتها نسبة إلى "الواقعية السحرية" ويرى بهذا الاتجاه أن القاص "لم ينشغل بلعبة التجريب المنشغلة بالعمارة السردية المشوهة زمانيا ومكانيا ولا بتفتيت الزمن إلى شرائح عصية على التركيب ولا على إعادة تشكيل الرواة، مما جعله يتربع على عرش السردية العراقية حتى أضحى رمزًا سرديا ومشغلا أكاديميا للعديد من الباحثين والنقاد".
سعدون: خضير لديه مشروعه الذي يشتغل عليه بطريقة ذكية من خلال سرد ماهر ورؤية دقيقة
فوتوغرافية اللغة
من جهته يقول الناقد علي سعدون إن خضير أرسى شيئا جديدا في النقدية، وأصدر كتابين نقديين مهمين هما "الحكاية الجديدة" عام 1995، "السرد والكتاب" عام 2010، معتبرا أنه يستحق الاحتفاء باللغة الفائقة في تجربته، فهي لغة تفيض بالثراء ولا تشحب أو يضعف نسيجها أبدا، وقدرتها في أن تكون هي ذاتها لا أن تكون خليطا من لغات مجاورة، متناظرة أو مستنسخة ومتشابهة حد التنافر.
ويتحدث سعدون عن علاقة ما يكتبه خضير مع القارئ إنه سيتركه "يندهش كونه سيرى السعي الدؤوب نحو التنظير عن رؤيته لسرده، وهي ميزة كونه لا يعمد إلى التنظير عن تجارب الآخرين كثيرا، إنما يسهب في تفسير وتأويل طريقته وأسلوبه" ويرى أن ثمانينية محمد خضير هي "الفوتوغراف الكبير الذي يشي بلمعان التجربة وبريقها الشاسع" ويزيد "له مشروع يشتغل عليه بطريقة ذكية من خلال سرد ماهر ورؤية دقيقة وناضجة ولفة متفردة سواء في نصوصه القصصية او النقدية".
ولم يكن خضير ساردا عراقيا بل هو سارد عربي، له اسم لا تخطئه عين من قرأ القصص والسرد وتعلم منهلا من الأجيال المختلفة.
فرج: الاحتفاء بخضير احتفاء بالمنجز السردي العربي كونه أحد رموز الأدب العربي
وفي هذا الإطار يرى الروائي المصري عبد النبي فرج في كتابة خضير أن لها سمات "تعبّر عن الولع باللغة الوصفية المتقنة، التي تعبّر عن مفهوم مبكّر للكتابة" ولهذا يصف كتاباته بأنه "يظلّلها مناخ كتابة ورؤى ومصائر وشخوص مختلفة".
وعن طريقته في الكتابة، يقول فرج "فيها خيط جوهري يربط كل هذه السرود في نسيج متّقن وغني" ويعبر عن هذه المناسبة بأنها "احتفاء بالمنجز السردي العربي كون السارد خضير أحد رموز الأدب العربي وصار اسمه أيقونة من أيقونات هذا الأدب" واصفا سردياته بأنها "توليفة شديدة التعقيد يمتح فيها من كل مصادر المعرفة باعتباره يمتلك ذهنا متوقدا وحواس مرهفة وخيالا من الأساطير، ليقدم لنا عملا سرديا باذخ الثراء".