.. توقفنا المرة الماضية عند الجدة ، واللقاء الأول ..
تخطينا هذا الجزء الآن .. ^^
..
أسرع بعض الزملاء للزميل الذي سقط .. لفحوا وجهه بالماء البارد ، وسقوه البعض منه .. عاونوه جميعا لينهض ، ويعود مجددا لسياط التدريب .. وأنا الآخر أجبر نفسي على إكمال هذا العذاب البدني .. كنت سأنهيه سريعا لو أنني أخذت كفايتي من النوم الليلة الماضية .. لكن وردة حالت دون ذلك ..
_ ماذا فعلت بي يا صغيرة ..!؟
لتسكني قلبي طويلا .. طويلا جدا.
*********************
_ أماني لم يعد لدينا ما يكفي من مال للأيام القادمة
قالت الجدة ذلك ، وهي تقلب صندوق مدخراتها السالفة بكفها المتعبة .
إلا أن أم عزيز قالت مطمئنة إياها ..
_ لا تقلقي يا خالتي .. سأتدبر الأمر
_ وكيف؟
_ أخبرتك لا تقلقي ، ودعي كل الأمور لي ..
في الصباح الباكر لبست عباءاتها .. غطاء يستر وجهها وخرجت أم عزيز كما تفعل كل مرة قبل أن يشعر بها أحد ..قاصدة إلى المكان الذي اعتادت أن تتسول فيه قبل خمس سنوات من الآن .. مكان يكتظ فيه الناس دائما في السوق الشعبية التي تبعد عن البيت ببضع كيلومترات .
اتخذت مكانها المعتاد بالقرب من الرصيف ، وكما يبدو أن الناس الذين عبروا أمامها في تلك الساعة قد اعتادوا وجودها حيث أنهم رموا بالنقود المعدنية فوق قطعة القماش المربعة أمامها ، ولم ينظروا لها حتى أو يتوقفوا لسماع دعواتها التي ارتفعت تطلب لهم الستر والعافية .
بقت يدها معلقة للمارين حتى شيئا فشيئا تكاثر الناس في المكان ، وحولها .. ارتفعت الأصوات .. أحدهم يلقي التحية على الآخر .. البعض يضحك من فلان ، وفلان آخر يتململ من الباعة الذين رفعوا الأسعار خلال إسبوع واحد .. صوت أبواق السيارات صنع ضجيجا مدويا في الطريق الذي ازدحم بالناس أصلا .. كلها مواقف اعتادت سماعها ورؤيتها أم عزيز ، وهي تمد يدها عادة كل يوم .
_ وعدت خالتي بأني سأتدبر الأمر .. والآن أشعر بالتعب .. أخاف أن أتراجع ، فأخذلهم جميعا ..
يا رب وفق عزيز .. ليعود لنا ضابطا كبيرا لينتشلنا من هذا العوز والحاجة ..
يا رب
حدثت نفسها بقلق ،وتمنت لو أن هذه الساعات الطويلة تنتهي على خير كما كل مرة ، وتعود بعد أن تشتري ما يمكن طبخه للغذاء .
لا تدري لم اليوم بالذات تشعر بالقلق والخوف ، وكأن أمرا كبيرا سيحدث .. حاولت أن تطرد هذه الوساوس حتى باغتها صوت رجل ما قد وقف أمامها دون أن تشعر بذلك ..
قال ..
_ لم تجلسين هنا وتمدين يدك للناس .. أنت محتالة ولا شك ..!
وأظنك تعملين لشركة نصب ما .. أنتم أيها النصابون تشكلون عصابة كبيرة في كل مكان ، وتسرقون الناس بطريقة تثير سخط الله والناس ..!
يا محتالة !
_ لا يا أخي .. اتق الله فيما تقول .. أنا محتاجة والله يعلم !
_ أيعقل أن لا يكون حالك قد تحسن خصوصا ، وأنا أراك منذ زمن طويل .. سنتان أو أكثر .. ثم ما نفع الجمعيات الخيرية في البلد .. لم لم تطلبي المساعدة منهم !؟
ما تفعلينه الآن .. يفسر أمرا واحدا وهو أنك محتالة ..!
_ يا أخي .. كف عني ما تقول ، واذهب إلى حال سبيلك.
صوته المرتفع جعل الناس يتجمعون ، وما بين مؤيد ومعارض .. مستعطف وناقم .. نشب عراك بين رجلين ، وهذا ما جعل أمر فرار أم عزيز من هذا المأزق ضرورة عاجلة .. فرت من أمام أعين الناس الذين انشغلوا بفك النزاع !
أسرعت الخطى دون أن تلتفت يمنة أو يسرة حتى وجدت نفسها أخيرا قد وصلت البيت فتحت الباب في عجل ، ولم تحسب حسابا أن يكون شخصا ما ينتظرها .. !
_ خالتي!
وضعها المزري .. جعل فاه خالتها فاغرا .. فتح بابا كبيرا للأسئلة التي ما أن تبدأ لن تنتهي .. قالت الجدة ، وهي تحاول استيعاب الموقف ..
_ أين كنت؟
صمت أم عزيز دفع الجدة أن تعيد السؤال أكثر حدة ..
_ أين كنت ..!؟
وما هذا الوضع المزري الذي أنت فيه ..!؟
عباءة مليئة بالثقوب !!؟
وغطاء وجه ..!؟
لا تخبريني أن ما أفكر فيه صحيحا.. قولي لا .. أرجوك ..!
عاودت أم عزيز البكاء ، واتخذت لها زاوية في الغرفة .. خلعت العباءة ، ووضعتها بجانبها .. قالت ..
_ .. ليتني أستطيع أن أقول لا وأن ما تفكرين فيه ليس حقيقيا أبدا .. ليتني أستطيع أن أخبرك أن هذه العباءة الرثة لم تلازمني لخمس سنوات مضت .. ليتني أستطيع ..!
شاركتها الجدة البكاء والندبة ..
_ أبعد هذا العمر .. نمد أيدينا للناس .. !؟
وافضيحتاااه..!
الله ينتقم ممن كان سببا لهذا العوز ..!!!
لعن..
انتفضت أم عزيز ، وقالت ..
_ لا تلعنيه يا خالتي .. أرجوك
_ أبعد كل هذه السنوات .. ترتجين منه خيرا .. !؟
أنه ابن عاق .. عاق يا أماني ..!
_ أطلبي من الله الهداية له يا خالتي لكن لا تلعنيه .. فأنا ما أزال أحبه!
_ لا تقتليني غيظا بهذا البرود ثم بما نفعك هذا الحب ؟
أخبريني!
تمدين يدك للناس .. ها ..!؟
تظهرين انكسارك أمام الخلق لأن الذي تحبينه ، وترفضين أن ألعنه .. باع بيتنا في القرية ، ويفكر أن يقتلنا من الجوع !
اعتدلت أم عزيز في جلستها ، وقالت ..
_ هل نسيتي يا خالتي .. ألست السبب في تغطرسه ، وتجبره هذا .. ألم تحشري رأسه بمواضيع الزواج وفتح بيت آخر .. هو فعل ما كنت تقرأينه على رأسه لأعوام مضت ..!
أنت السبب يا خالتي .. زارع الشوك لا يحصد الورد، أنت السبب!
لم تجد الجدة ما تقوله تبريرا عن كل ما مضى ثم تركت آخر نظراتها على المرأة التي تكومت في الزاوية .. تنتحب .. وخرجت يسبقها الخوف ، وقلة الحيلة .. عرفت مسبقا أنها تحفر حفرة كبيرة بجهالة لكنها أبدا لم تتخيل أن تكون هي أول شخص يسقط في هذه الحفرة دون أن تمتد يد أحدهم لينقذها .
بعد هذه المعركة ..
جاءت أم زاهر تحمل صينية الإفطار إلا أن البيت كان هادئا على خلاف العادة بل بدا حزينا ، وداكنا ..
انتابها القلق ، فنادت ..
_ أختي أم عزيز ..
_ خالة أم سالم ..
أينكم ..!؟
خرجت ريم من غرفتها .. تتثاءب ، وتحاول أن تفرد الجزء الأعلى من جسدها .. سألتها أم زاهر ..
_ أين أمك وجدتك ..!؟
_ لا أدري .. ربما ما زالتا نائمتين .. سأتفقدهما ..!
قصدت غرفة أمها .. سمعت صوت الماء الصادر من الحمام .. فخمنت أنها للتو استيقظت .. وحين همت إلى غرفة جدتها .. كانت الأخرى على وشك الخروج .. بادرتها ..
_ جدتي .. أم زاهر هنا .. تنتظرنا للإفطار .
بعدها بلحظات خرجت أم عزيز التي اغتسلت ، وأبدلت ملابسها .. تبادلت والجدة النظرات ثم ألقت التحية على أم زاهر كما العادة ، واجتمعن حول صينية الإفطار ..
أصبحت عادة يومية منذ أن غاب عزيز .. وهي العادة الوحيدة التي تمنى لها الجميع أن تستمر حتى بعد عودة عزيز .. حين تنهدت الجدة وقالت بصوت مثقل ..
_ عساها عادة لا تنقطع ..
وأيدها الجميع .. بصوت واحد ..
_ يا رب
بعد هذا اليوم لم تتحدث أم عزيز مع الجدة .. ربما هروبا من نظراتها المخذولة أو خوفا من فتح ذلك الموضوع مرة أخرى ، فليس بالأمر المشرف على أية حال ..
كل واحدة منهما تجنبت أن تلتقي نظراتها بالأخرى أياما .. اعتكفت الجدة في غرفتها غالب الوقت بينما أم عزيز قضت يومها في التنقل بين المطبخ وغرفتها أو مع أم زاهر ..
ولأن المصائب لا تأتي فرادى .. بعد أيام طرق أحدهم الباب .. حين خرجت أم عزيز .. تملكها الخوف من الرجل الذي جاء يطرق بابهم في هذا الوقت من الظهيرة ..
بدا على الرجل الارتباك خصوصا أنه توقع أن يكون البيت مهجورا ، وهو ما أخبره به سالم قبيل الاتفاق .. تردد كثيرا قبل أن ينطق كلماته التالية ..
_ لا أعلم ما أقول لك يا أختي .. لكن هذا البيت بيتي الآن .. !
باعه علي أبا سالم قبل مدة من الآن .. واليوم جئت أتفقده ..!
_ ماذا تقول ..!؟
أين نذهب نحن ..!؟
لا مكان لنا .. غيره .. ثم كيف أتأكد أنك تقول الصدق .. أرني ما يثبت قولك ..!؟
انطلق الرجل إلى سيارته المركونة بالقرب ، وعاد يحمل ورقة مثنية بعناية .. قال وهو يمد يده بها إلى أم عزيز ..
_ هذه الورقة تثبت قولي .. ولا حاجة لي بالكذب ..!
بعد أن تفقدت أم عزيز الورقة ..صرخت بالجدة ..
_ خالتي .. خالتي
أسرعت الجدة لمصدر الصوت .. قالت بخوف
_ ماذا .. ماذا هناك !؟
لم تصرخين!؟
_ أنصبي العزاء يا خالتي .. بيتنا لم يعد بيتنا الآن ..!!
ابنك باع البيت هذا أيضا ..!
تفقدت الجدة الخارج .. كان الرجل ما زال واقفا .. قد علت ملامحه بوادر الارتباك .. قالت له الجدة بحدة
_ أنه بيتنا ونحن لن نخرج منه ..
اذهب لذلك الأحمق ، وأخبره بذلك ..!
_ سامحيني يا خالة ..
_ أنا أم ذلك العاق الذي باعك هذا البيت ..!
ولن أخرج منه إلا ميتة ..!
وقف الرجل يحدث نفسه ، ويضرب كفا بكف ..
_ سامحك الله يا سالم ..
أي ورطة أقحمتني فيها ..!!
إسمعي يا أم سالم .. أنا نويت الهجرة لذلك أود بيع كل ممتلكاتي هنا ، والرحيل بلا عودة ..
فهل بإمكانك دفع ذات المبلغ ، وتسترجعين بيتك ثانية ..!؟
لم تجب الجدة .. فأي حديث بعد هذه الكارثة سيكون بلا معنى .. بل اكتفت بالنظر وهي تشيع خطواته الراحلة ثم أدارت ببصرها حيث أم زاهر التي انهارت تماما في الداخل .. وقالت ..
_ هذا هو الحب يا عزيزتي .. باعنا جميعا دون أن يلتفت !
ودلفت لغرفتها .. بينما أم عزيز سلمت أمرها لبكاء مرير ، وهي تصرخ ..
_ اللعنة عليك يا سالم ..!
*****************
..
مر إسبوع آخر محملا بالأحداث .. الدموع واللعنة .. الانتظار والشوق ..
وردة التي كتبت الكثير من الرسائل خلال السنوات الماضية .. عن أي شيء وكل شيء منذ أن عرفت كيف تكتب .. وكدستها بين أشيائها الثمينة ..هي الآن تكتب رسالة جديدة أخرى مليئة بالحب والشوق .. تكتب الكثير مما لا تستطيع قوله واقعا .. الكلام المخبوء في صدرها والذي يجعل وجهها يحمر بشدة كلما حدثت نفسها به أو مر في خاطرها .. العامل المشترك في كل رسائلها كان عزيز بنوايا مختلفة ..
حين أتفوق .. سأطلب من عزيز هدية ثمينة ..!
حين أكبر قليلا .. سأطلب من عزيز أن يأخذني في نزهة شيقة ..!
أنا أحب عزيز .. لأنه طويل ويملك شاربا كأبي إلا أنه أصغر بقليل ..!
عزيز .. يهتم بي .. لأني متفوقة على الدوام ..!
عزيز .. عزيز .. عزيز ..!
كل شيء بدأ به منذ أن جبر كسر خاطرها لأول مرة حين زجرها زاهر لما كانت طفلة لم تختبر بعد ما تفعله كلمة طيبة واحدة في جبر الخواطر المكسورة .. هكذا فعل عزيز وهو يتبنى مشاعرها المتعثرة ويلملمها بين ذراعيه كما يفعل لريم تماما ..!
هذه الذكريات تبقى طويلا في رؤوس الأطفال وتصقل الآتي من المشاعر .. كما حدث للصغيرة وردة التي كبرت مغمورة بعزيز .. وما أكثر الرسائل التي كتبتها لأجله دون أن يدري .. هذه المرة قررت أن تكتب شيئا ناضجا .. مهندما ويليق برجل ضخم، وعطوف مثله ..!
_ مم .. ماذا سأكتب ..!
داخلها يضج بالكلمات لكنها لا تقوى على تشكيلها على الورق .. هذه المهمة تحتاج للكثير من الصبر والتروي .. هي تعلم في قرارة نفسها أنها قادرة على فعل ذلك لكنها حال كل البشر تحتاج للوقت فقط ..
أحبك عزيز !
_ وردة .. وردة
جاء صوت أمها من الخارج يسحبها عنوة من أحلامها التي بدأتها للتو ، ولم تكتف بعد منها ..
_ لم تفعلين ذلك دائما يا أمي ..!!
_ وردة .. هيا جهزي نفسك .. سنذهب للمزرعة ..!
_ حقا !
ربما هذه النزهة تحتاجها كل العائلة .. فرصة واحدة للخروج من دائرة البيت والعمل لمكان يضج بالطبيعة والهواء .. وهذه النزهة طالت عائلة عزيز أيضا .. إن أي أحد لن يفهم طبيعة العلاقة بين هاتين العائلتين .. عائلتين من مكانين مختلفين جمع بينهما الحب والأخوة .. من الصعب أن تحدث هذه المصادفة الطيبة في هذه الأيام إلا أنها الآن حقيقة واقعة .
اجتمعوا جميعا تحت ضوء القمر الذي بان كقرص أبيض كبير، ولأن الجو كان صحوا وعليلا كانت رؤيته في هذه الأثناء تجربة مدهشة .
كما اقتضت العادة .. أن تجلس النساء في جانب ، والرجال في الجانب الآخر يفصل بينهما مسافة قصيرة لا تمنع من سماع بعض الأحاديث التي تدور بين المجموعتين .
استلم عم زاهر الكبير دفة الحديث .. بهذا قد أخذ مكان والده الذي توفي قبل سنة .. أخذ الكثير من أحاديثه وحكاياه القديمة حتى ملامحه أخذ منها الكثير ، وكما يبدو أن عادة سرد القصص ستبقى تنتقل جيلا بعد جيل .
أخذ يسرد تفاصيل حكاية قديمة للجالسين منهم أبو زاهر وزاهر وابن عمه راشد ، والحفيد الأول لعمه وهو الابن الأول لراشد .. كان راشد يكبر زاهر بعامين ، وأخته نهلة التي تكبر وردة بعام واحد .
النساء أيضا أخذن يستمعن للحكايات ، فالمسافة بينهما كافية جدا للاستماع والمشاركة .. بينما وردة ونهلة جلستا في زاوية بعيدة قليلا عن مكان الجلسة .
قالت نهلة ، وهي تحاول أن تخترق رأس وردة بنظراتها ..
_ أرى أن جاركم .. لم يأت مع عائلته !
_ تعنين عزيز!؟
_ نعم .. أعنيه!
سرحت وردة قليلا بخيالها ثم قالت ..
_ ذهب .. ليكون ضابطا كبيرا !
أطلقت نهلة صفيرا خفيفا بشفتيها .. وقالت ..
_ أووه .. ضابطا مرة واحدة ..!
_ نعم .. وضابطا كبيرا أيضا .
استرسلت نهلة في أسئلتها الفضولية حول عزيز ..
_ لم تخبريني .. كيف أصبح شكله الآن .. ألا زال نحيلا !؟
ضحكت وردة وحاولت أن تخفي ضحكتها بيدها ثم قالت ..
_ أصبح ضخما ومفتول العضلات لو ترينه يا نهلة ستقعين في حبه ..!
صفرت نهلة مجددا ..
_ واو .. سيد عضلات ..!
تداركت وردة ما قالته سريعا ..
_ لا .. لا .. لا تقعي في حبه ..!!
فهمت نهلة ما رمت إليه وردة ، وقالت مازحة ..
_ بل سيقع هو في حبي !
أثارت بقولها حنق وردة ..
_ لا لن يحدث ..!
_ بلى!
اطلقت نهلة ضحكة عالية قليلا ، وقالت ..
_ أمازحك يا ابنة عمي .. لا تغضبي !
_ لا تكرريها ..!
رمقت وردة نهلة بنظرة حادة ومهددة ، وكأنها تعني بها .. لا تحاولي أبدا ..!
حاولت نهلة أن تلطف الجو الذي بدأ نوعا ما يتكهرب.. بسؤالها
_ أتحبينه!؟
سرحت وردة بفكرها قليلا ، وقد رسمت إبتسامة خفيفة على شفتيها ثم تنهدت ..
_ هو أكثر ما أتمناه ..!
عاجلتها نهلة بسؤال آخر ..
_ أيحبك هو !؟
_ لا أعلم يا نهلة .. لا أعلم !
سؤال نهلة بقى يدور في رأس وردة طيلة الجلسة العائلية .. لم تفكر في هذا الأمر بهذه الطريقة .. كل ما كانت تفكر فيه أن تكون الشخص الذي يليق به .. غاب عن رأسها أن يكون الحب مختلفا تماما عن ضرورة أن تليق بالشخص المعني ..!
ثم سألت نفسها كثيرا ..
_ ترى .. هل يحبني !؟
صوت الطلق الناري الذي جاء من خلف سور المزرعة من الجانب الخلفي القريب من مزرعة عائلة عباس .. شتت تفكير وردة ، وجعلهم جميعا يقفون بخوف وقلق ..
قال عم زاهر موجها كلماته للنساء ..
_ اذهبن للداخل ..
امتثلن لما قال ، وأسرعن في خوف للداخل بينما وقف الرجال بتوجس .. صوت احتكاك عجلات السيارات بالتربة الصحراوية صنع ضجيجا في المكان ، ودب في قلوب عائلة زاهر خوفا أكبر ..
تساءل الجميع عن حقيقة ما يحدث خلف هذا السور ، وخصوصا أنهم يعرفون أن عائلة عباس موجودة في المزرعة هذا الوقت ..
الرجل الذي جاء يترنح فيما بعد .. زاد خوف الرجال الواقفين ..
_ ساعدوني ..!
قال كلمته تلك ، وهوى على الأرض ..
إقترب الجميع منه .. كانت الدماء تغطي نصف قميصه الأبيض أو الذي كان أبيضا قبل أن تعكر صفوه الدماء الغزيرة والتي نزفت من مكان ما .. بصدره أو بطنه .. لم يستطع الرجال تحديد مكان الإصابة ، وما إن كان سيبقى حيا أو يموت ..!
قال عم زاهر ..
_ سأتصل بالشرطة ..!
ولأنه كبير العائلة الآن ، ولأن ما قاله عين المنطق .. وافقوه .
بعد لحظات .. ضجت المزرعة بالرجال .. الشرطة وسيارة الإسعاف .. أخذوا أقوال الجميع، وصادف أن لا أحد كان موجودا في مزرعة عائلة عباس وهذا ما حير عائلة زاهر ،و فتح باب ألف سؤال وسؤال .. فهم يعلمون أن عائلة عباس تجتمع في المزرعة في هذا الوقت من السنة .
مشطت الشرطة المكان خلف سور المزرعة .. وجدوا الكثير من الدماء ، وبودرة بيضاء تناثرت بشكل كبير في الموقع ، وتوصلوا لنتيجة واحدة أن ما حدث خلف هذا السور ما هو إلا معركة بين تجار مخدرات ..!
من هم !؟
هذا ما اجتهدت الشرطة في الوصول إليه في أقرب فرصة ممكنة قبل أن يعيث هؤلاء الحثالة الخراب بين صفوف الشباب والشابات الذين ربما تغريهم كلمات هؤلاء المبهرجة ، ويتحولون لمجرد ضحايا للحبوب المخدرة أو غيرها من أشكال المخدرات ..!
كان الرجل وقبل أن يأخذوه في سيارة الإسعاف ما زال حيا لكنه مات بعد وصوله للمستشفى بلحظات قليلة .
مات وترك الكثير من القلق في قلوب الجميع ، وخطوة أخرى للوراء بالنسبة لرجال الشرطة .. ولأن ما حدث كان قريبا من المزرعة .. أصبح من الصعب المكوث في المزرعة حتى إشعار آخر .. لاحقا أرسلت الشرطة دورية تتفقد المكان فيما لو عاد أحدا يشتبه فيه ..!
هذه الحادثة لم تمر مرور الكرام بل انغرست في ذاكرة كل واحد منهم بل كان تخيل فكرة أن ما يفصل بين الخوف والموت سور فقط .. يبعث على الرعب.
انتهت النزهة سريعا جدا .. وعادوا إلى رويتنهم اليومي .. حاولوا شيئا فشيئا نسيان الحادثة أو تناسيها على الأقل ، والتعامل مع حقيقة ما حدث بروح رياضية وتسليم تام .. عاد كل منهم لما كان يفعله سابقا من أعمال .. تفكير وانتظار .. !
..
والانتظار هو ما كانت تبرع فيه عائلة عزيز مؤخرا ، فهم على كل حال يتوقعون زيارة ثانية للرجل .. مالك بيتهم الجديد ..! و لم يفكروا بعد في كيف يخرجون أنفسهم من هذا المأزق!
قالت أم عزيز موجهة كلامها للجدة ..
_ أفكر أن أخبر أم زاهر لتخبر أبا زاهر عن الأمر .. ماذا تقولين !؟
صمتت الجدة ، وفي عينيها تربص القلق ..
_ لا أعلم ما أقول .. أفضال هذه العائلة كبيرة علينا ،، ولا يمكن أن ننسى وقفاتهم الطيبة معنا .. أنه أمر مخجل أن أطلب منهم العون على الشخص الذي من المفروض أن يكون عوني وسندي !
_ ماذا نفعل إذا يا خالتي .. الوقت ينفذ منا ، ولم نحرك ساكنا ..!
عاودت الجدة الصمت ثم انتفضت وكأنها تذكرت شيئا من شأنه أن يخفف التوجس ..
_ قال الرجل أنه سيهاجر !
أم زاهر متسائلة ..
_ أتظنين أنه سيعود مجددا ..!؟
أو قد يسوي الأمر مع سالم ، ويتراجع عن قرار البيع ..!؟
_ إن شاء الله ..
يا رب !
****************
_ هيا أيها الأبطال .. إنكم تبلون حسنا ..!
عبارات القائد المحفزة لنا .. تزيد من عزيمتنا ..
يا أبطال ..!
أيها الأسود ..!
كلمات صغيرة بمضمون كبير .. ما تضمره يجعلنا بشكل غير مباشر لا نهزم ..!
الزحف .. تسلق الجدار الكبير .. الالتفاف بالحبال .. الوصول للجهة الأخرى مع الاحتفاظ بالقليل من الطاقة .. أمور مرهقة حتى بالنسبة لرجل ضخم مثلي ، وحرارة الشمس نجحت في ترويضنا وأيما ترويض ..!
متعب أنا جدا ، وأشتاق لأمي .. جدتي .. ريم الصغيرة ، ووردة ..!
آه يا وردة .. أنت لا تخرجين من رأسي أبدا !
_ عزيز عضلات ..!
كان صديقي عون من هتف لي من بعيد ، وتوارى خلف جسد زميل لنا .. يفعل ذلك كثيرا ومنذ أن تعارفنا وألصق بي لقب عضلات .. يومها عرفني الجميع بهذا اللقب !
كان هذا اللقب إلى جانب ثقله .. إلا أنه سلاح ذو حدين .. فعلى قدر عضلاتي يتوقع مني الجميع الأفضل دائما .. وبالنسبة للقائد ، فلقد كانت تطلعاته حولي كبيرة جدا تفوق تصوري !
.. واقعا.. هذا بالتحديد ما جعلني أبذل جهدا مضاعفا لدرجة الإعياء لأكون قريبا من استحقاق هذا اللقب ..!
عضلات ..!
أمر مضحك أن أتخيل هذا الجسد الضخم بجانب صغيرتي النحيلة وردة .. رغم أنها كبرت إلا أنها ما تزال تحتفظ بجسد نحيل في آخر مرة رأيتها فيه .. كانت نحيلة بشكل جعلني أفكر أن أرفعها للأعلى بيد واحدة فقط .
الجميلة والوحش ..!
هذا ما يمكن أن أعنون به صورة تجمعنا معا .. أدخل في نوبة ضحك هستيرية كلما تخيلت ذلك !
مساء هذا اليوم .. سأتصل لأمي .. اشتقت لصوتها .. لكل تفصيل صغير في البيت .. غرفتي .. كتبي .. دعوات جدتي ما تزال ترن في رأسي وتغمرني بالسكينة .. بكاء ريم في آخر مرة .. أتذكره جيدا ، وكأني أسمعه الآن .. صورتها وهي تلتصق بي ، وترجوني بألا أذهب .. تؤلم قلبي بشدة ، وتجعلني أتمنى لو تنتهي هذه الأشهر سريعا جدا ، وأعود إليهم على خير ..!
من الصعب أن يتخيل أي كان شعور رجل إعتاد أن يكون جزء مهما في حياة هؤلاء الناس ، واضطر فيما بعد أن يفترق عنهم لأمر مهم آخر إلا الذي جرب أن يكون مثلي وفي موقفي .. !
وما أدراك ما يفعل الفراق ..!
أدرت رقم الهاتف الذي أحفظه غيبيا .. وانتظرت .. جاء صوتها في الجانب الآخر كطبطبة حنونة .. تخفف من تعب اليوم كله ..
_ ألو ..
_ أمي .. كيف حالكم يا غالية ..!؟
جدتي .. ريم .. زاهر وعائلته ..
_ كلهم بخير يا حبيبي .. عد لنا سريعا فقط .
^ ووردة يا أمي ..
كيف صحتها ..!؟
_ هي بخير .. لقد تحسنت كثيرا .. لا تقلق ..!
كان صوتها مغمورا بضحكة حاولت إخفائها .. لكن أذني التقطتها .. ولم أعقب .. في الحقيقة كنت أتمنى لو تستطيع عيني أن تخرج للطرف الآخر من سماعة الهاتف .. وترى كل شيء دون الحاجة للسؤال ..
صمتي خمنته أمي انتظارا لتفاصيل أخرى حول وردة .. قالت ..
_ وردة تفوقت هذا العام أيضا .. بالأمس ظهرت نتيجة الإمتحانات ..
يا الله ..!
هذا الخبر قد أفرحني جدا ، وكما تعلمون أن كل شيء يخص وردة .. مهم بالنسبة لي ..!
_ مبارك لنا جميعا بهذه الذكية يا أمي .. بلغيها سلامي وامنياتي لها بالتفوق الدائم ..!
ثم قالت ، وكأنها تنبهني لأمر غفلته .. وارتكبت فيه غلطة فادحة ..
_ ريم متفوقة أيضا ..!
أووه ..كيف لي أن أنسى هذه الصغيرة ..
_ أنا آسف يا أمي .. أعذري سهوي عن سؤالك ..
أوصلي لها دعواتي ..
وقبلاتي الكثيرة ..!
جدتي أيضا ..!
_ حسنا بني .. سأفعل .. الأهم أن تكون بخير وعافية ..
_ أنا كذلك .. دعواتك وجدتي تحيط بي على الدوام .
سأذهب الآن .. كونوا بخير ..
_ وكن أنت أيضا ..!
في صباح اليوم التالي .. بشرت أم عزيز الجدة ، وأم زاهر أثناء جلوسهن للإفطار ببشرى اتصال عزيز الهاتفي ..
ثم قالت موجهة كلامها لأم زاهر ..
_ عزيز يسأل عن وردة كثيرا .. بلغيها ذلك .. واخبريها أن عزيز يتمنى لها كل التوفيق .
_ إن شاء الله .. وبلغيه سلامنا في المرة القادمة أيضا ..
الوحيدة التي تلقت كل ما قاله عزيز بفرح كبير ، وتمنت لو ينبت لها جناحين لتكون قادرة على الطيران وتخبر كل العالم بما شعرت به ، وأمها تخبرها بأن عزيز يبلغها السلام .. هي وردة .
وردة التي اعتادت أن تتعلق برقبة عزيز بذراعيها الصغيرين ، وهي ترجوه بأن يدور بها مرة أخرى بعد .. وردة التي كان صوت مطالبها يخترق أذن عزيز ثم تخرج من فمه كلمات الإجابة ..
سمعا وطاعة ..!
أسرعت للهاتف .. ضغطت على عدة أرقام ، وضعت السماعة بالقرب من أذنها ، وانتظرت .. جاء الصوت الأنثوي في الجهة الأخرى ..
_ ألو ..
_ ألو نهلة .. عزيز يحبني !؟
_ ماذا !؟
سؤال نهلة جعل وردة .. ترتب جملتها القادمة ..
_ أنت سألتني في المرة الماضية إن كان عزيز يحبني ..!
_ حسنا .
_ عرفت اليوم أنه يحبني!؟
_ كيف!؟
_ بلغتني والدته سلامه!
جعل نهلة تطرح سؤالا آخر ..
_ وهل السلام .. يعني الحب !؟
_ لا أدري!
ألا يعني ذلك ..!؟
ضحكت نهلة بصوت عال، وقالت ..
_ يا لك من ساذجة !
هذه المكالمة لم تزد وردة إلا حيرة أكبر .. قوست شفتيها ثم أغلقت سماعة الهاتف قبل أن تستأذن من نهلة!
ما يشغل رأسها الآن أهم بكثير من عبارات المجاملة قبل إغلاق أي حديث أو مكالمة .. ولم يبد أنها فكرت كثيرا بما قد تشعر به نهلة في الطرف الآخر حتى لو وصل الأمر للقطيعة .. ما يهم الآن ويعطل كل حواسها ..
_ كيف لها أن تعرف أن عزيز يحبها من هذه المسافة !؟
بعد ساعات من التفكير والتأفف توصلت لفكرة ما .. قفزت من مكانها ، وهي تحدث نفسها ..
_ لا بد من المحاولة!
أسرعت لمكتبها الصغير .. لتنفذ الخطوة الأولى من الفكرة .
_ حسنا ماذا سأكتب الآن ..!
تحركت من خلف المكتب .. دارت حول نفسها مرة ومرتين .. والقلم يسكن بهدوء بين شفتيها الرطبتين .. فكرت كثيرا بكلمات كبيرة تخترق قلب أي رجل خصوصا إن كان بحجم عزيز وتشعل في داخله حريقا ..!
_ سيد عضلات ..!
ضحكت ، واحمرت وجنتيها .. تلفتت خلفها ثم غطت وجهها بيديها الصغيرتين ، وضحكت بعمق ..
_ يا رب .. صيره لي ..!
يا رب
رقصت حول نفسها كثيرا ثم توقفت فجأة ، وكأنها علمت جيدا ماذا ستكتب في الورقة النائمة فوق مكتبها الصغير .. أسرعت مجددا وكتبت كلماتها دون أن تحرك شفتيها وكأن ما كتبته لا يحتاج لتهجئته مرارا حتى تثبت صحته .. هذا يعني أن ما كتبته بسيطا جدا لا يحتاج لبذل جهد كبير في فهمه ..!
أثنت الورقة من المنتصف .. جعلت كل نصف مساو للآخر .. رشتها بعطرها المفضل ثم أدخلتها في الظرف الذي كان ينتظر .. !
أخذت نفسا عميقا ثم أرخت كتفيها ببطء ورسمت ابتسامة ممزوجة بالحب والقلق ..
_ أحبك لو تدري!
في اليوم ذاته .. وبينما كانت عائلة زاهر مجتمعة في الصالة .. تشاهد التلفزيون ، وتحتسي الشاي ..
صوت جرس الباب في هذا الوقت بالذات .. صرف انتباه الجميع ..
في من يكون الطارق يا ترى !؟
نهض زاهر ليعرف من الطارق .. حين فتح الباب وجد رجلين بدا من مظهرهما أنهما من الشرطة ..
قبل أن يسأل .. قال أحدهما له ..
_ هذا بيت زيد الزامل ..
_نعم !
أنه أبي ..
أجاب زاهر ، وهو يتفحص وجههما ، وكأنه يحاول قراءة ما الأمر من وجهيهما .. ثم سأل..
_ ما الأمر؟
تفحص أحدهما الورقة في يده .. وهو يقول ..
_ نحن هنا بشأن قضية الرجل المصاب الذي سقط في مزرعتكم .. طبعا أنتم على علم أن وراء ما حدث عراك تجار مخدرات ..!
_ نعم
وأضاف ..
_ وصلنا مؤخرا أن في المزرعة القريبة لمزرعتكم .. حركة ليست طبيعية ، وكأنها اجتماعات مشبوهة.
رجالنا الذين يراقبون ذلك الموقع .. كتبوا تقريرا مفصلا حول ذلك ..
_ حسنا ..
قال ذلك زاهر وانتظر البقية من الكلام ..
_ زيارتنا المفاجئة هذه .. للتزود بمعلومات أكثر حول أصحاب تلك المزرعة .
باهتمام أجاب زاهر ..
_ بكل تأكيد .. سأطلعكم بكل المعلومات التي تريدون!
_ أيمكن .. أن تزورنا في المركز غدا .. لفتح ملف خاص بهذه القضية ..
_ إن شاء الله
انصرفت سيارة الشرطة ، وأغلق زاهر الباب ، ودلف للداخل حيث والديه الذين تطلعا إليه لمعرفة من كان الطارق الذي عكر لحظة راحتهم .
أبا زاهر لم ينتظر جلوس زاهر ، فبادره بالسؤال .
_ من كان؟
قال زاهر وهو يعتدل في جلسته ..
_ الشرطة
شهقت أم زاهر ..
_ الشرطة!
_ لا تخافي يا أمي .. هم فقط يحتاجون معلومات أكثر حول مزرعة عائلة عباس
قال أبا زاهر ..
_ لماذا ؟
_ قالوا أنهم يراقبون حركة مشبوهة في المزرعة ، وربما كان لها علاقة بقضية الرجل المصاب .
قالت أم زاهر ..
_ الله يكفينا الشر ..
أبا زاهر نظر إلى ولده الذي جلس بقربه .. وسأله ..
_ هل زودتهم بما يريدون!
_ غدا يا أبي .. في المركز ..
_ حسنا .. سأذهب معك ..!
أم زاهر القلقة قالت وهي تنظر لهما ..
_ حفظكما الله من كل سوء.
في اليوم التالي ، وفي المركز تحديدا .. جلس أبا زاهر وولده في مكتب المقدم .. وبعد التحية .. سألهم عدة أسئلة ، وأجابوا بالكثير مما يعرفونه ، وهم بجوارهم طيلة السنوات الماضية .
من الأسئلة المطروحة .. تأكد زاهر من كل ظنونه أن وراء كل ما حدث ، ويحدث .. عباس الأحمق .
ولأن زاهر يعرف أي شخص هو عباس.. التزم الصمت حول المعلومات التي تخصه بشكل قريب .. قال يحدث نفسه
_ عباس شخص متغطرس وخطر لا يمكن التنبؤ بأفعاله اللاحقة !
كل المعلومات التي دارت بين الجميع .. كانت عامة حول أخلاق العائلة ، ومعاملاتها ، وفي ما يعمل أفرادها .. ومن يكون صاحب المزرعة الفعلي .. وما إذا كانت هناك ملاحظات خاصة حول تحركاتهم طيلة السنوات الماضية حتى هذه الساعة .
ثم قال المقدم ..
_ ألديكما أي فكرة حول سفر فاضل السامر إلى دولة أجنبية !؟
فاضل السامر هو والد عباس ، وبعد وفاة جده قبل عدة أشهر تسلم والده كل شيء .. كل الأملاك ، ومن بينها المزرعة .. أما عن سفره قال أبا زاهر ..
_ الحقيقة لا علم لنا بسفره ..
لكنه يسافر كثيرا ..!
_ ماذا عن ابنه عباس!؟
ألديكما ما تفيدان به حول عمله أو علاقاته خارج إطار العائلة ..!
أجابه أبا زاهر ..
_ عباس الابن الوحيد لهذه العائلة .. لا علم لي بما يعمل أو علاقاته .. معرفتي بجده رحمه الله الذي كان يمتدحه كثيرا في كل مجلس ، ولقاء .
هو بعمر ابني زاهر .. تقريبا ..!
ثم توجهت الأنظار صوب زاهر .. الذي قال سريعا .
_ لا أعرفه !
بعد أن سجل الكاتب الذي يجلس في الطرف الآخر من مكتب المقدم .. كل المعلومات ، والملاحظات .. سمح المقدم لزاهر وأباه بأن ينصرفا . قال ..
_ في حال تذكرتما أي شيء .. لا تترددا في المجيء ، والإدلاء به .
ربما وصلنا للخيط الأخير في هذه القضية ..!
_ مؤكد !
_ متى تعود يا عزيز .. !؟
حدث زاهر نفسه ، وهو يدير مقود السيارة في طريقه إلى البيت .. ورأسه يضج بالكثير الذي يجب أن يقال .. كل هذا الضغط الكبير مقدر له الانفجار ، وهو يتمنى أن تتأخر هذه الكارثة لحين عودة عزيز ، فهو الوحيد القادر على إيقافه !
التحاق عزيز بسلك الشرطة .. حادثة المزرعة .. سقوط الرجل المصاب أمام الجميع .. تدخل الشرطة في التحقيق في الأمر ،كلها أمور تنذر بنهاية الشيطان الأكبر عباس .. كل أفعاله المكروهة ستقصر من عمر رفاهيته ، وستقربه للهاوية سريعا ..!
هؤلاء الناس أمثال عباس نهايتهم متوقعة وإن تأخرت قليلا .. فكم من ضحية سقطت في يديه إما باستخدام قبضته أو حبوبه المخدرة ..!
كم عائلة دمرها هذا الطاغي .. وكسر بفعلته هذه .. قلب الأمهات ، وظهر الآباء ..
_ أتمنى له سقوطا مؤلما ..!
ما أكثر ما قاله زاهر بصمت .. ولم يشعر به والده الجالس في المقعد المجاور .. والده الذي قال وهو يحثه على الإسراع ..
_ أسرع يا ولدي .. اليوم حافل بالأعمال المعلقة!
_ حسنا يا أبي ..
في المساء .. ولأنها ليلة الجمعة.. خرج زاهر ووالده لتفقد أحوال أقاربهم كعادة ليالي الجمعة .. بينما النساء اجتمعن في بيت عزيز ..!
اجتمعن في الحديقة الخلفية للبيت ، وهذا ما جعل فرصة نجاح خطة وردة التي قررت التسلل لغرفة عزيز هذه الليلة كبيرة جدا لو نفذت بالطريقة المناسبة .
ولأنهن حين يجتمعن يتحدثن في كل شيء ، فقد تصدر موضوع الشرطة الذين قدموا إلى بيت زاهر في وقت سابق من اليوم بداية هذه الجلسة .. هذا الموضوع وغيره من المواضيع لم تكن أم زاهر لتخفيها عن أم عزيز والجدة .. فقد شاركتهن كل شيء بدء بالتفاصيل الصغيرة التي تحدث في كل بيت .
اندماجهن في تجاذب الأحاديث جعل وردة تتسلل بهدوء لتنفذ الخطوة التالية من الخطة التي رسمتها في رأسها بالأمس.
_ الأمر يحتاج للهدوء فقط .
هذا ما كررته وردة على نفسها ، وهي تتحرك بخطوات حذرة نحو غرفة عزيز .. أمسكت بمقبض الباب ثم أخذت نفسا عميقا .. فتحته ببطء لكي لا يصدر صوت احتكاكه ضجة تجذب لها انتباه إحدى تلك النساء.. رمت بنفسها للداخل سريعا ، وأغلقته مجددا ..!
نجحت في مسعاها ، وها هي الآن في غرفة عزيز ، ولها أن تفعل أي شيء من الممكن أن يطرأ على عقلها .. أن تتصرف ببلاهة أو أن تكون عاقلة .. ليس بالأمر المهم البتة طالما أن لا أحد هنا يملي عليها ما تفعل وما لا تفعل كوالدتها مثلا ..
يا الله ..
بعد ست سنوات عجاف ..انقطعت فيها عن المجيء إلى هذه الجنة ، فما زالت على حالها ، لم تتغير
لون الجدار الأبيض المائل للصفرة ..الأثاث الخشبي الداكن
كل شيء على حاله .. وحدها شراشف السرير التي تغيرت .
لكن لون الشراشف هو لون عزيز المفضل .. ما زلت أذكر لونه المفضل ..
الأخضر الزيتوني ..
جلست على السرير الذي جلست عليه مرارا من قبل .. فوقه كتبت واجباتها .. لونت الرسومات التي يختارها عزيز من دفاتر التلوين لتلونها حتى أنها سرحت شعره كما تفعل للدمى خاصتها .. زينته بالكثير من إكسسواراتها، وشرائطها التي تصنفها كقديمة بعد أن تشتري لها والدتها أخرى جديدة ..
_ عزيز ابق ساكنا .. أريد أن أضع لك شريطا زهريا ..
_ عزيز .. لا تقصر شعرك دعه طويلا .. أحبه طويلا ..
_ عزيز .. تبدو كالبنات ..!
عزيز الذي نام على ظهره ، وترك شعره تحت رحمة وردة لم يكن ليعترض أو يتذمر على الرغم من العنف الذي تتبعه وردة مع خصلات شعره المسترسلة الداكنة .. بل كان يظهر الكثير من اللطف والمحبة في كل مرة تحدث فيه هذه الهجمات العفوية من طفلة لحوحة كوردة ..
رسمت وردة ابتسامة عريضة ، وهي توجه نظرها للمكتب الخشبي الذي يتوسط الجدار المقابل للسرير .. هناك كانت تقف بالقرب من عزيز ليصنع لها قاربا ورقيا أو طائرة ثم بعد أن ينتهي تطبع فوق خده قبلة امتنان ، وتخرج مسرعة ..
_ سأريها لنهلة .. أخبرتها أنك تعرف كل شيء!
هنا في هذه الغرفة .. صنعت أولى ذكرياتها .. هنا كتبت كلمتها الأولى .. رسالتها الأولى .. أطلقت ضحكاتها العالية على أي دعابة يطلقها عزيز .. مارست هواياتها المتنوعة .. أظهرت فيه تمردها وأمنت العاقبة ، وقبل أن تدرك ذلك .. كان صاحب هذه الغرفة .. حبها الأول .
حاولت أن تخرج نفسها من دائرة الذكريات التي باغتتها بلا مقدمات .. لتجد مكانا آمنا لرسالتها العطرة .. وضعتها تحت الوسادة ثم فكرت فيما لو غيرت والدته الأغطية قبل موعد وصوله .. فكرت بالكتب .. أن تضعها في أحدها ، وخافت أن تبقى طويلا في الداخل قبل أن يفكر في قراءة أحدها إن لم يكن قد قرأها كلها أو ربما يتخلص منها بأن يتبرع بها لإحدى تلك الجمعيات الخيرية . عشرات المخاوف هاجمت رأسها المطرق ، وجعلتها في حيرة كبيرة .
_ ترى أين أضعك أيتها العطرة !؟
دارت في الغرفة ، وهي تهمس للرسالة ، وتتنهد ثم خطر لها أن تدسها في ألبوم الصور ، وفكرت بأنه المكان الأنسب الذي لن يطلع عليه أحد إلاه .. ولأنها تعرف كل تفصيل في هذه الغرفة لم تتعب في إيجاد الألبوم .. فتحته .. كانت دهشتها كبيرة حين وجدت الصورة التي تضمها بعزيز وريم قد رسم رمز قلب أحاط بوجهها وريم وهما بين ذراعيه .. لم تكن منتبهة للصورة كما ريم بل صرفت نظرها لعزيز الضاحك بدهشة .. حاولت تذكر الحادثة ، فلم تستطع .
_ لماذا كنت تضحك يا عزيز .. ولم أنظر إليك هكذا !؟
أخبرني ..
بحجم الحزن الذي داهم قلبها وهي ترى الصورة هذه .. وجه عزيز بشاربه الصغير .. ابتسامته العريضة الرائعة .. كانت سعادتها .. بعدها قررت أن تضع الرسالة بالقرب من الصورة ليكتمل المعنى .. رمز القلب ورائحة العطر .. ملامح وجهه السمحة ، وعيونها التي عانقت وجهه بحب .
كان عليها أن تغلق الألبوم الذي تمنت لو كانت تملك متسعا أكبر من الوقت لتتصفحه على مهل ، وتغرق مع كل صورة وذكرى إلا أنه كان عليها أن تسرع قبل أن تنتبه والدتها لغيابها ..!
أعادت الألبوم لمكانه السابق .. أودعت آخر نظراتها للمكان .. أخذت نفسا عميقا جدا ، وكأنها أرادت أن تستنشق رائحة المكان لتبقى في داخلها لأطول فترة ممكنة ثم خرجت .. تمكنت أن تنفذ ما كانت ترسم له ، وعادت منتصرة إلى حيث تركت النساء ، وهن يناقشن موضوع رجال الشرطة الذي لم ينته بعد ، ولم يبد أنه سينتهي قريبا .. بل كان هو الموضوع الوحيد الذي امتد حتى آخر الجلسة . حتى باغتتها أمها بسؤال مفاجئ ..
_ أين ذهبت يا وردة ..!؟
إرتعش جسدها كاملا .. حاولت أن تجد إجابة سريعة ، ومقنعة .. قالت ..
_ إلى دورة المياه يا أمي ..!
..
في اليوم التالي .. جعلت وردة تتقلب على فراشها رغبة منها في أخذ قيلولة الظهيرة ، وأن تغمض عينيها لفترة قصيرة تعوض فيها أرق الليلة الماضية .
سكنت حركتها ، وأغلقت عينيها ببطء .. بهذه الحركة كانت مستعدة جدا أن تمتطي عالم الأحلام ، تهرول في مراعيه الخضراء لتقطف من وروده أخيرا ..
_ يا رب .. دعني ألتقي بعريز هذا الحلم أيضا . !
الطرقات السريعة التي طبعها الطارق على مساحة الباب المغلق .. عكرت صفو الولوج لعالم الحلم .. اعتدلت بجلستها ، وقبل أن تصدر الأذن للطارق المجهول كانت نهلة قد دخلت وأغلقت الباب خلفها ..
_نهلة!
قالت وردة باندهاش .. وهي تنظر للفتاة الطويلة الضاحكة .. التي تحركت شفتيها الآن ..
_ العزومة في بيتكم هذه الليلة!
اعتدلت وردة باهتمام ..وقالت ..
_ لم أكن أعلم .. ولم تخبرني أمي بهذا ، على كل حال أهلا و سهلا..!
قالت نهلة ، وهي تتذكر شيئا ..
_ لا أظن أن والدتك تعلم ، سمعت أبي قبل قليل يحدث والدك عبر الهاتف ، ويتفقان ..
اتفاق طازة !
أسرعت نهلة ، وقفزت على السرير في الجهة المقابلة لوردة ، وقالت ..
_ أخبريني !
_ ماذا؟
_ عن عزيز!
هو ما تبرعين فيه على أية حال!
عبارة نهلة أثارت غيظ وردة ..
_ ماذا تعنين!؟
أنني لا أعرف شيئا آخر ..!؟
_ لا .. ليس هذا القصد .. إنما أحاديثك التي تدور حول عزيز مليئة بالتفاصيل الشيقة ، وأنا أحب التفاصيل ..!
ما قالته نهلة .. حرض وردة على الابتسام ، فكل حديث يأتي فيه ذكر عزيز يكون سببا رئيسيا لابتساماتها الدافئة و مثار اهتمامها..
عبارات نهلة دائما ما تمس قلب وردة ، وتجعلها بلا تفكير .. تذيع كل ما يدور في رأسها دفعة واحدة لنهلة فقط .. وربما الأخرى عرفت مسبقا المفتاح الخاص لرأس وردة!
.. والحقيقة أن هذه المراوغة لم تشكل أي إعاقة لوردة التي ما أن تبدأ في الحديث عن عزيز .. لا تتوقف .
_ أحبه يا نهلة .. أحبه فوق درجـة الجنون!
تأملت نهلة وردة المتنهدة .. ثم قالت ..
_ هو يحبك أيضا .. !
_ أتظنين!؟
_ بل واثقة من ذلك .. !
يا رب
حاولت نهلة ممازحة وردة كالعادة ، وهي تطلق عبارات تثير حنقها .. قالت لها وهي تتمدد بدلال على السرير ..
_ أريد أن أراه!
لم تتمالك وردة نفسها فسددت ضربة خفيفة ليد نهلة المرتخية بقربها .. وقالت ..
_ لا تتحدثي عنه بهذه الطريقة!
أدارت نهلة ببصرها لوردة الحانقة .. وقالت ..
_ ما بها طريقتي!؟
_ مليئة بالحب!
_ ألا يحق لي .. أن أحب زوج ابنة عمي المستقبلي!
_ لا
_ لماذا؟
_ لأنه زوج ابنة عمك المستقبلي، فهو مُـلك خاص لي فقط .
ضحكتا بصوت عال ، وكل واحدة منهما تسدد ضربات خفيفة ومداعبة للأخرى .. ربما هذا ما جعل أم زاهر تفتح الباب بخوف ، وتتأمل الفتاتين المتعاركتين!
_ ماذا دهاكما!؟
في المساء اجتمعت العائلتين حول مائدة الطعام .. وكما هو متوقع كان موضوع الشرطة محور الحديث العام ..!
إعادة أخرى للأحداث بتفاصيل أكثر دقة .. الرجل الذي جاء مصابا وسقط في المزرعة .. الوجهة التي جاء منها .. صوت الضجة الصادرة من الخارج .. احتكاك عجلات السيارات بالقرب من مزرعة عائلة عباس .. الطلق الناري الذي جاء من المكان نفسه .. المعلومات المستجدة حول الاجتماعات المشبوهة في ذات المكان .. كلها تشير لحقيقة واحدة أن فردا من هذه العائلة له علاقة مباشرة بكل هذه الفوضى الغامضـة..!
قال عم زاهر ، وهو ساهم يفكر ..
_ ما سمعت أبي رحمه الله يذكر شيئا مريبا حول هذه العائلة خصوصا، وأنه كان يجلس في المزرعة لأشهر عديدة ..!
أظن أن ما يحدث من أحداث كلها مستجدة لا جذور لها ..!
هذا ما جعل زاهر ينطق ..
_ أنا متيقن أن وراء كل هذه الفوضى .. عباس !
قال أبا زاهر نافيا أن يكون لعباس صلة بالأمر ..
_ لا أظن ذلك .. جده كان يمتدحه كثيرا .. !
سمعت جده مرة يقول أن حفيده عباس يعاني من الكآبة ، والقلق .. فهو سقط ضحية لطلاق والديه منذ أن كان في الخامسة من عمره .. تخلت عنه أمه وتزوجت بآخر بينما والده انشغل بأعماله وسفره .. لذا لم يحظ هذا الشاب بعطف والديه ، وبقى برعاية جده حتى تركه هو الآخر ، وعاد وحيدا مجددا .. الحياة ظلمته كثيرا .. لا تفكر في أن تظلمه أنت أيضا يا ولدي!
أعترض زاهر ، ودافع باستماته عن رأيه ..
_ لا تتعاطف معه يا أبي .. هو شيطان آدمي .. وهو وراء ما يحدث ..أنا على يقين من هذا يا أبي !
ثم أن ما تعرض له في طفولته دافع قوي لأن يجعله في دائرة الشبهة .
قطع عم زاهر هذا التوتر بأن قال ..
_ لن نسبق الأحداث .. الأمر بيد الشرطة الآن .. وسننتظر ما يتوصل له التحقيق ..!
وإن كان لعباس صلة بهذه القضية .. ستعرف الشرطة ذلك إن عاجلا أم آجلا ..!
تمتم زاهر ..
_ الشرطة لن تفعل أي شيء .. عزيز من سيفعل ذلك ..!
أسرع في العودة يا صديقي ..!
أمتد هذا الحديث الممل كما وصفته الفتاتين لما بعد العشاء .. هذا ما دفعهما للهرب من هذا الكابوس الذي خيم على البيت ليومين !
_ أووف كيف يتحملون إعادة التفاصيل مرارا وتكرارا ..!
قالت وردة ذلك ، وأيدتها نهلة بقولها ..
_ شعرت بالإعياء .
_ ماذا أقول أنا .. وأنا أواجه هذا الكابوس المزعج منذ يومين !
تمددتا على السرير بجانب بعضهما ، وسرحت كل واحدة منهما تتأمل السقف ، وتترك لأفكارها حرية التنقل والعبث .. بحركة مفاجئة اعتدلت نهلة على جنبها وأسندت رأسها بكفها .. وقالت لوردة التي ما زالت تعبث بعينيها في مساحة السقف متسائلة ..
_ متى يعود عزيز!؟
أجابتها وردة بعد أن اعتدلت على جنبها هي الأخرى ..
_ بعد شهرين من الآن !
لماذا تسألين يا مشاغبة؟
أجابتها وهي تضحك ..
_ أريد المجيء لرؤية من أسر قلبك!
هي تنجح دائما في إثارة حنق وردة وغيرتها .. قالت بحدة ..
_ ما شأنك به .. !؟
_ فضول لا أكثر ..!
_ لتعلمي فهو الرجل الخاص بي ، وهو ليس عرضة للنظر !
ضحكت نهلة ، وقالت ..
_ ماذا ستفعلين لو أخبرتك أني أريد رؤية غرفته أيضا .. يا غيورة !
لم تتمالك وردة أعصابها ، فانفجرت في وجه تلك الفتاة التي تضحك بصوت عال ..
_ كفى !
لكن تلك الفتاة لم تتوقف عن الضحك البتة .. قالت في غمرة ضحكها ..
_ يا غبية .. هي فرصتك لتتفقدي غرفة زوجك المستقبلي !
تذكرت وردة أمر ألبوم الصور ، ورغبتها الشديدة في تصفحه مرة أخرى .. ثم قالت لنهلة الضاحكة ..
_ من الصعب دخول غرفته !
_ لا تخافي .. دعي الأمر لي !
_ ماذا ستفعلين !؟
_ لا عليك!
أسرعت نهلة للباب ، وخرجت .. تبعتها وردة بقلق ..
_ ماذا ستفعل هذه المجنونة!
توجهت نهلة لبيت عزيز ، وهناك التقت بأم عزيز .. كانت تحتسي الشاي في هدوء قبل أن تهاجمها نهلة بطلبها الغريب ..
_ يا خالة .. إسمحي لنا .. أنا ووردة بتنظيف غرفة عزيز قبل عودته .. من المؤكد أن تكون الغرفة مليئة بالغبار و تحتاج تهوية .
تفاجأت أم عزيز بهذا الطلب لبرهة إلا أنها سريعا ما ابتسمت بلطف ، وقالت ..
_ لا أدري كيف نسيت ، كلامك صحيح ،حسنا .
عندما وصلت وردة كان الأمر أي كان هو .. قد تم .. عرفت ذلك حين غمزت لها نهلة الضاحكة من هناك .. وكادت أن تسقط من فرط التوتر والقلق .. !
كيف لشخص واحد أن يكون مدجج بكل هذه الأسلحة البهلوانية التي تسبب كوارث مزمنة في الدماغ ، وتزيد من ضربات القلب .. أن يكون مشحون باللامبالاة بأولئك المعنيون بالرقة ..!
_ متى تكفين عن حركاتك المجنونة يا نهلة!؟
قالت وردة ذلك ، وهي تضع يدها على صدرها .. تتحسس بذلك قلبها الذي يكاد أن يخرج من مكانه من فرط الخوف .. جاءت نهلة مسرعة .. وقالت ..
_ تم الأمر!
_ وأمي يا نهلة !
_ ماذا بها !؟
تنهدت وردة ، وأجابت ..
_ أمي لن توافق على هذا الأمر!
_ ليس من المهم أن تعرف ..
أنا لن أخبرها وأنت لن تفعلي!
سرحت وردة قليلا .. تنهدت ثم قالت ..
_ حسنا !
المسايرة لكل ما يحدث ، وإن كان غريبا ويأخذ بالنفس يعني موافقة عمياء ، وراضية عن كل تفصيل فيه بل أنه أمنية كانت مخبأة لوقت طويل في الكف التي كثيرا ما ارتفعت في سكون الليل ، وتسأل الله بكل تضرع أن تحدث!
وحدثت ..!
.. الكثير من الفرص ضاعت لأنها لم تقتنص بالشكل الصحيح ، واللحظة المناسبة إلا أن وردة قررت بكل ما أوتيت من قوة أن تتمسك بهذه الفرصة الصغيرة التي جاءتها على طبق من ذهب ، وتخيلت في رأسها أنها ستخطو خطواتها الواثقة نحو غرفته دون الحاجة للتلفت يمنة ويسرة أو القلق من أن تطالها عين والدتها ، وتهاجمها بالتهم والعتب ، وتضعها في دائرة المغضوب عليهم حتى قيام الساعة .. دون الحاجة لأن تسمع عبارات مثل ( من سيتدارك هذه الفضيحة ويلملمها بهدوء ..!؟)
كل شيء ولو صغيرا لا يسير وفق توجهات والدتها يقع تحت بند الفضيحة ، ولا تفسير آخر له ، وأن ما يضمر من نوايا حينها ليس ذا أهمية بالنسبة لها ..!
_ سأتمسك بهذه الفرصة مهما حدث!
قالت وردة ذلك بجدية تامة ، وهي تفضي مكنون رأسها لنهلة التي بادلتها النظرات المشجعة!
**************
التعديل الأخير تم بواسطة نورانيّة ; 25/May/2022 الساعة 2:30 pm