..
*****************
وردة ..
وردة ..!
أنا هنا .. لا تخافي ، ولا تحزني ..!
تعالي إلي ..
أنا عزيز ..
تعاااالي ...!
صحوت مفزوعا ، وألهث .. وكأني للتو خرجت من سباق جري معد لمسافة طويلة .. لم أستطع تمييز الوجوه التي اقتربت نحوي ..
_ وردة ..!
_ وردة بخير يا عزيز ..
وهي في البيت الآن .
الأهم أنت .. كيف تشعر ؟
_ أشعر بألم في رأسي ..
ولا أستطيع الرؤية بوضوح .
_ نعم .. هذا أثر الضربة التي سددها لك عباس بمضرب حديدي ..
والحمدلله .. أنك تجاوزتها ، ونجوت .
بعد محاولات عدة لتمييز الوجوه التي أحاطت بي .. استطعت أن أميز وجه الضابط المسؤول ، وهو ذاته الذي تحدث إلي قبل قليل .. وما زال يتحدث ..
_ عندي لك خبر سيجعلك تستعيد عافيتك بسرعة ..
تخميناتك كانت صحيحة جدا .. استطعنا أن نقتحم المحل ،وعبر منفذ سري وصلنا للمكان الذي كنت فيه ، ووجدنا عددا هائلا من الحبوب المخدرة ، والخبر الأسعد أننا قبضنا على عباس ، وأعوانه .
أتعلم .. أن ما حدث ما هو إلا محاولة غبية بهدف تشتيتنا عن العملية الأكبر ، وهي تهريب دفعة كبيرة من الحبوب المخدرة في ذات الطريق البرية ..!
.. عباس .. كان يشاغلنا عن المسألة الأهم ، ولم يفلح في مسعاه .. رجلنا الذي خطفوه .. أيضا وجدناه في أحد الممرات هناك مقيدا ، وفي حالة يرثى لها .. إضطر تحت وطأة التعذيب أن يخبرهم بأنك الضابط المسؤول ، وزودهم برقم هاتفك .
هكذا وصلوا لك بسهولة ..!
_ الحمدلله .. أن الرجل بخير ..!
_ الحمدلله ..
شد الضابط على كتفي .. وقال ..
_ سنغادر الآن لتأخذ قسطا من الراحة ، وبعد خروجك قريبا .. ينتظرك خبر سعيد آخر .
خرجوا جميعا ، وحاولت إغماض عيني قليلا .. ما جعلني أصحو هو صوت جدتي التي أسرعت نحوي باكية، وتبعتها أمي ، أم زاهر ، وريم ..
_ يا حبيبي ..
ماذا فعلوا بك ..!؟
_ لا تخافي يا جدتي ..
حادث بسيط .. كيف حال زاهر؟
_ زاهر بخير ..
هو في الغرفة المقابلة !
_ الحمدلله ..
_ الحمدلله..
_ ووردة .. كيف حالها ؟
_ بخير أيضا ..
لا تقلق ..!
اقتربت ريم بعينين مغرورقتين بالدموع ، وقالت بصوت تخنقه العبرة ..
_ أنا لست غاضبة ..
أسامحك ..!
ارتمت في حضني ، وأجهشت بالبكاء ..
_ يا صغيرتي !
بدأت أستعيد عافيتي ، وتهدأ روحي شيئا فشيئا .. ما لم أستطع تجاوزه حتى هذه اللحظة .. صورة وردة بوجهها المغمور بالدموع ، وأطرافها المرتجفة .. كم كسرني رؤيتها هكذا !
كانت الأحداث سريعة ومشوشة .. فقدت خلالها قدرتي على التفكير بشكل أسرع ، وأدرأ عنها شر من لا يخاف الله .
..
جاء أبا زاهر ، وزاهر ليقلاني إلى البيت .. زاهر خرج من المستشفى قبل يومين ، خرج بندبة بالقرب من عينه اليمنى ستلازمه زمنا طويلا .. حين وصلنا .. كن النساء ينتظرن وصولنا في الخارج .. عندما ترجلت من السيارة .. أسرعن إلي وأحطن بي عن يميني وشمالي .. هذه تطلب مني أن أتكئ على كتفها ، والأخرى تمسك بيدي ..
_ لست متعبا لهذا الحد ..
جدتي .. أمي .. ثم لو اتكأت على إحداكما كسرت لها ضلعا ..!
قلت ذلك ، وعيني تبحث عن وردة .. وردة التي منذ آخر كسر .. لم تظهر أمامي بعد ..
_ كيف أنت يا حبيبة!؟
بعد العناية الفائقة التي تلقيتها من عائلتي الطيبة .. عدت إلى العمل بكامل الصحة والنشاط .. تم تكريمي .. أصبحت بعد هذا اليوم .. ضابطا رسميا .. يشار له بالبنان .. وهكذا أضفت إلى ملفي العملي .. بصمة مشرفة ستبقى معي لسنين قادمة ..!
كل شيء يمر بسرعة إلا الوقت الذي يفصل بيني وبين وردة ، فإنه يمر ببطء بل يخيل لي أحيانا أنه لا يتحرك ..!
.. يعاندني ، ويصيبني بالتوتر والقلق ..
_ متى تتكرم علي بنظرة عطف ..
وتجمعني بحبيبتي النحيلة ..!؟
هي بحاجة لي هذه الساعة أكثر من أي وقت مضى .. ضعيفة هي دوني لا تقوى على مجابهة الحياة وحدها ، وأنا أشد ضعفا دون ابتسامتها التي تبعث لقلبي السكينة .
.. لم تزداد تغطرسا أيها الوقت ، وتقتلني خلالك ..!؟
أسرع ..
أسرع ..
أكاد أفقد عقلي ، وصبري !
***************
في أحد المساءات الباردة .. قرر أبا زاهر أن يقيم جلسة شواء في الحديقة الخلفية لبيتهم .. وافقه الجميع بلا مقدمات ..
.. فجأة أصبحت الحديقة مليئة بالأضواء ، والأصوات التي يحبها قلبي ..
أرخيت ظهري للخلف قليلا .. وجعلت أتأملهم جميعا .. الأبخرة التي تصاعدت من فوق اللحم ، وتراقصت في الهواء بغنج ودلال ، وفي رأسي تدور قصة عميقة وفاتنة .. بطلتها فتاة أخذت قلبي عنوة في أحد النهارات المطبوعة في ذاكرتي .
أنظر ..أبتسم ..أهز رأسي موافقا ، وأمثل دوري ، وكأني أسمع كل شي ، وأنا لا أسمع .. الأمر الذي أنا متيقن من حدوثه أن في هذا المكان الكثير من السعادة والحب .
قرع جرس الباب ، فدلف أبا زاهر ليرى ..
_ ترى من قد يكون
في هذه الساعة المتأخرة !
لحظات ، وعاد أبا زاهر بملامح متوترة .. وقف أمامنا لا يدري ما يقول .. والحقيقة أنه أصابنا جميعا بالقلق، فجعلنا نسأله ..
_ من الطارق!؟
قال بتردد واضح ..
_ أنه .. أبا عزيز ..!
ويبدو مريضا ..!
أسرعت أمي للخارج ، وتبعناها جميعا .. الرجل الذي وجدناه متربعا أمام الباب بدا عجوزا ، ومتعبا .. كان من الصعب أن أتعرف عليه بعد هذه السنوات .. وهو بهذه الهيأة المتعبة ، والخائرة القوى .
.. بعد أن رأته أمي .. تبدلت كل ملامح الغضب التي كانت واضحة في الداخل وقبل أن ترى شبه رجل يتوسد الأرض تعبا إلى ملامح لم أستطع وصفها بشكل دقيق لكنها بالتأكيد تضمر حب ورحمة ..
وقفت جدتي جانبا ، ولم تنطق بكلمة واحدة .. ربما هي الأخرى تراجعت عن الكثير من الكلام المخبوء في صدرها كل هذا الوقت ..
رفع أبي رأسه ، ومرر بصره بين هاتين المرأتين ثم قال بصوت متعب ..
_ أنا أحتضر ..!
أسرعت إليه ، وأسندته بيدي .. أخذ يتفحص وجهي باهتمام ثم قال ..
_ عزيز ..
أأنت عزيز!؟
_ نعم أبي .. انا عزيز ..!
شد على يدي التي تسنده ، ورسم على وجهه ابتسامة فخورة ثم قال ..
_ ما شاء الله ..
تبدو بصحة جيدة !
اكتفيت بالابتسام ، وأخذته إلى غرفتي .. تبعتني أمي ثم جاءت بعدها جدتي .. وقفتا تنظران إليه ، ولم تستطع أي واحدة منهما الحديث إلا أن أبي شعر بعجزهما عن السؤال ، فقال ..
_ أعرف أنكما تتساءلان لماذا جئت إلى هنا بعد هذه السنوات .. !
خسرت كل شيء .. زوجتي أو التي كنت أعتقد أنها كذلك ..سلبتني كل شيء .. وخلعت نفسها أخيرا .
بعد أن عرفت .. أن أيامي معدودة ..
جئت إلى هنا .. !
وأجزم يقينا أنكم ستحتضنونني بقلوبكم قبل داركم ..!
لا تقلقوا .. لن أتعبكم
لكن أطلب منكم أن تحاولوا مسامحتي فقط ..!
أمي لم تتمالك نفسها ، فأجهشت بالبكاء ثم خرجت مسرعة .. جدتي هي الأخرى ألقت آخر نظراتها المشفقة ، وخرجت صامتة .. أنا الوحيد الذي شعرت بعطشه .. رفعت رأسه نحوي وأشربته بعض الماء ..
_ باركك الله يا ولدي ..
وحفظك .
_ ماذا تريد أن تأكل يا أبي!؟
_ لا شيء يا ولدي ..
أريد ورقة صغيرة ، وقلم
أحضرت له ما أراد ثم تركته ، وخرجت .. كان علي أن أجد مكانا آخر أبات فيه هذه الليلة .. أريكة الصالة لا تكفي حجمي على أية حال .. فكرت في زاهر كملاذ وحيد وأخير ألجأ إليه في هذه الساعة المتأخرة .. أخذت هاتفي ، واتصلت له ..
_ ألو
_ ألو زاهر ..
سأبات عندك هذه الليلة ..!
رحب بالفكرة ، فأسرعت إليه .. ولأنه ظن أن الجميع في غرفهم .. لم يخرج لاستقبالي ، ولم يخطر ببالي أن أصادف وردة ..
_ وردة !
ارتبكت .. الصدمة أثقلت لسانها ، فلم تنطق .. وأخذت تنظر لي بذهول، وتتحسس رأسها الحاسر .. أما أنا ، فشاغلتني بإلحاح فكرة أن أعانقها ، وأسألها وأنا أمسح فوق شعرها المنسدل كخيوط حريرية ..
_ كيف أنت يا مهجة القلب ..!؟
وأطلب منها أن تنسى تلك الحادثة بتفاصيلها الموجعة ، وأن تكون مطمئنة على الدوام ما دامت بجانبي ..!
صوت الباب الذي انفتح فجأة جعلها تسرع إلى المطبخ القريب .. ما كان مني إلا أن حثثت الخطى نحو زاهر قبل أن يشعر بوجودها بينما صورة وجهها بشعرها الأملس داعبت خيالي كثيرا قبل أن أنام .
.. في الصباح الباكر ، خرجت قبل أن يشعر بي أحد .. عندما وصلت للبيت .. وجدت أمي تقف بالقرب من باب غرفتي ، وببن يديها صينية تراصت فوقها الأطباق .. قالت بعد أن رأتني مقبلا نحوها ..
_ لقد أعددت فطورا خفيفا لوالدك ..
خذه له .
_ حسنا .. أمي
ناولتني الصينية ، وقالت ..
_ لا أعلم مما يعاني .. لكن حالته لا تبشر بالخير .
عزيز ..
عليك أن تأخذه إلى المستشفى اليوم .. لنعرف حقيقة ما يعانيه .
_ إن شاء الله ..
دخلت للغرفة، ويبدو أن أبي ما زال نائما .. وضعت الصينية جانبا، ومشيت على أطراف أصابعي لكي لا أزعجه .. فتحت الخزانة على مهل ، وأخرجت بدلة العمل ..قبل أن أخرج سمعت أبي يناديني ..
_عزيز ..
التفت له .. كان يحاول أن يعتدل في جلسته .. أسرعت وساعدته ثم قال ..
_ أريد الماء ..
أشربته من كأس الماء الذي وضعته بالقرب منه البارحة ، وقلت له ..
_ أبي ..
لقد صنعت لك أمي فطورا خفيفا .. عليك أن تأكل .
.. وأنا علي أن أستعد للذهاب إلى العمل ..!
_ ما عملك يا بني؟
_ ضابط
_ ما شاء الله ..
أسعدتني والله !
الحمدلله الذي أطال بعمري لمثل هذه الساعة . !
_ الحمدلله ..
علي الذهاب الآن ، وسأعود سريعا لأجلك ..!
شد على يدي ، وقال بأسى ..
_ سامحني يا عزيز ..
سامحني إذ غبت عنك في وقت حاجتك لي .
لم أجد أي كلمات مناسبة لذا اكتفيت بالصمت .. ما لم أحسب له حسابا هي دموعه .. شعرت بها ملتهبة ، وهي تشق طريقها على وجنتيه .. أخذ يكرر ..
_ سامحني ..
ثم دخل في نوبة سعال شديدة .. حاولت أن أشربه الماء ، فلم تهدأ بل زادت حدة .. ما كان مني إلا أن رفعته ، وأسرعت به إلى المستشفى .. وبعد الفحص والمعاينة .. قال الدكتور ..
_ يعاني فشلا كلويا حادا ..حالته حرجة ، ومتأخرة .
لم لم تحضره قبلا ..!؟
_ كان أبي غائبا لسنوات طويلة ، وبالأمس عاد بهذه الحالة .
نظر لي الدكتور بنظرة معزية ثم قال ..
_ لا أدري كيف اقول لك هذا .. لكن أباك يحتضر الآن !
ولا شيء يمكن أن نقدمه له إلا معجزة ..!
**********