..
بعد أسبوع رتب أبا زاهر لعزيمة أخرى دعا فيها كل الأقارب ، وكالعادة كان وجود عائلة عزيز أمرا بديهيا .. و ما كانت دعوتهم لتشكل ثقلا أو تكليفا ، وهم مجرد إمرأتين وطفلة .
هذه المرة لم يكن موضوع الشرطة والمزرعة هو سيد الجلسة بل كان أشبه بالفاصلة أو استراحة قصيرة بين حديث وآخر .. حتى أنه لكثرة ما ظهر كنتوء كاد يقارع أحاديث التجارة وأسهم البورصة ..!
دارت صينية الحلويات المتنوعة .. الشاي والعصائر الطازحة بين الجالسين ، وتعالت أحاديثهم المختلطة بأصوات النساء والرجال ..الضجة التي أحدثها حفيد عم زاهر وهو يضرب الألعاب ببعضها ، ويتمتم بكلمات غير مفهومة ، ويضحك .. أضافت موسيقى أخرى أكثر حدة .
ما كانت هذه الضجة لتشكل عائقا بالنسبة للفتاتين اللتين اتجهتا مؤخرا للغة الإشارة بالعيون ، وتجاذب الكلمات المشفرة أمام الآخرين دون أن يلاحظ أي أحد منهم شيئا أو يلتفت ، ولو بشكل عابر لما يدور بين هاتين الفتاتين ، وما يمكن لرأسيهما أن يصنعا في جلسة سرية واحدة ، فكيف إن تكررت اللقاءات..!؟
قالت نهلة ، وهي تضغط على يد وردة الجالسة بقربها ..
_ كوني جاهزة حتى ذلك الوقت .
مرت أسابيع من الشوق والانتظار، وجاءت اللحظة الموعودة ..أنه اليوم الذي سيدخل فيه عزيز إلى البيت في أي لحظة ..
وردة ونهلة أسرعتا إلى غرفة عزيز في ساعة مبكرة ، وشرعتا في تغيير الشراشف والأغطية ، ومسح الغبار من فوق سطح الطاولة .. الكرسي وخزانة الملابس .. بدا كل شيء بعد العناية الفائقة .. غاية في النظافة.
وردة التي لم تستطع أن تخفي مشاعر الفرح أخذت تدندن بأغنية قد حفظتها مؤخرا ..
_بتقول لي إيه خلاني أحبك، فكرك حاخبي وأحير قلبك، أبدا راح أقول،، قلبك عليا دنيا حنان ، ما لهاش بداية ولا نهاية، مهما افتكر دنيا الأشجان، انساها وأنت في دنياي".
.. أثارت إعجاب وتعجب نهلة التي قالت ..
_ واو .. الناس بدأت تحفظ الأغنيات العاطفية !
كنت حفظت أغنية عاطفية جديدة على الأقل ، وتركت عبدالحليم ينعم في قبره ..!
لم يبد على وردة الاهتمام بتعليق نهلة .. ف اليوم مختلف ، والمزاج يحتاج ان يكون جيدا بل رائعا .. القرار الذي اتخذته اليوم احتفاء بعودة عزيز .. يستحق كل هذا الهدوء والسكينة ..
_ اليوم سألقي التحية على عزيز ..
قالت وردة ذلك بعد أن توقفت عن الدندنة ، وتوجهت لنهلة بملامح جادة .. فبادرتها الأخرى ضاحكة ..
_ وعانقيه أيضا !
لأن وردة عاهدت نفسها أن تكون بمزاج جيد هذا اليوم .. جعلها تتجاوز كل تعليقات نهلة المحرضة على الحنق .. ما لا تعرفه نهلة أن وردة حلمت كثيرا بهذا المشهد .. أن تعانق عزيز ثم تتعلق برقبته ، ويدور بها كالأمس ..!
_ أريد رؤية ملامح وجهه ..
قالت نهلة وهي تتأمل الغرفة بعين فاحصة .. فعاجلتها وردة قائلة ..
_ لكنك فعلت !
_ هذا قبل سنوات طويلة يا غيورة .. قبل أن ينبت له شاربا، ويزداد طولا وضخامة ..!
صمت وردة جعل نهلة تجتهد في البحث عن صورة حديثة له .. لكنها لم تجد بل بدلا من هذا وجدت ألبوم الصور .. وهنا أسرعت وردة نحوها ، وتشاركا تصفحه .. كانت الصورة التي تضم وجهي وردة وريم بعلامة قلب مثار تعليقات نهلة المازحة هذه المرة .. قالت
_ كنت دائمة التعلق به ..!
ضحكت وردة ضحكة صغيرة ثم قالت ..
_ بل عزيز كان يحب أن يرفعني للأعلى ..
_ حقا .. دعينا نغير الموضوع قبل أن يسقط فوقنا السقف ..!
لكن لماذا كنت تنظرين لعزيز .. هكذا ..!؟
تبدو الدهشة على وجهك ..!!
الكثير من الأسئلة وجهتها نهلة لوردة التي اكتفت بإجابة واحدة بعد محاولة التذكر عبثا ..
_ لا أذكر .. !
_ أووه ما هذه أيضا .. رسالة !
قالت نهلة ذلك ، وكادت ترفع الرسالة إلا أن وردة منعتها من ذلك .. قالت بارتباك ..
_ لا تفعلي ..
هذه أسراره الخاصة .. ليس لنا شأن بها ..!
نظرت نهلة لوردة بغرابة ، واستفهام ثم سألتها ..
_ متأكدة ..!؟
_ نعم متأكدة ..!
_حسنا ..
لم تخف وردة أي شيء تفكر فيه إلا أمر الرسالة .. لم تكن مستعدة بعد للحديث بشأنها ، وخصوصا أن ما كتب فيها ليس بالأمر العظيم الذي يدعو للمفاخرة به .. أدارت نهلة الألبوم .. صورة بعد صورة ، وكل صورة كانت تضج بالذكريات التي طمستها العادات والتقاليد شيئا فشيئا .. كم كانت الحياة سهلة ، وبعيدة عن التعقيد ، والوساوس . وكل فعل كان يخرج من القلب بلا تكلف أو نوايا مبطنة .. وأن كلمة أحبك بالتحديد حين يتفوه بها أي أحد كان يعنيها جملة وتفصيلا .
فجأة .. أطلقت نهلة صرخة ، وقالت ..
_ وجدت صورة حديثة لعزيز ..
كانت صورة صغيرة بخلفية بيضاء .. من المؤكد أنه التقطها لتجديد بياناته الحكومية .. رغم أنها صورة رسمية إلا أنها لم تخف وسامته ، وملامحه السمحة .. لحيته المصففة بعناية أكسبته وقارا وهيبة ..!
_ واو .. زوجك المستقبلي وسيم جدا !
تبادلت وردة النظرات الراضية مع نهلة ، وكأنها ملكت العالم بين يديها .. في لحظة ..!
مدت وردة يدها ، والتقطت الصورة .. قالت وهي تضعها في جيبها ..
_ هي لي الآن !
صوت الزغاريد التي جاءت من الخارج جعلت الفتاتين تقفان بسرعة خاطفة .. قالت وردة لنهلة ..
_ وصل .. مؤكد !
وصل ..
سأفقد وعيي من التوتر يا نهلة ..!
أسرعت نهلة للباب ، وفتحته قليلا بحيث تتمكن من رؤية ما يحدث في الخارج ، وهي تشير لوردة بيدها أن تقترب .. قالت ..
_ تعالي يا وردة .. وانظري!
أسرعت الأخرى ،وقربت رأسها من فتحة الباب .. كن النساء يحطن بالرجل المفتول العضلات ، ويعانقنه ..
وما بين عناق وزغردة .. هطلت الكثير من الدموع ورقصت القلوب و ارتوت بدمع اللقاء.
_ دعينا نخرج ..
وقوفنا هنا لا معنى له ..!
قالت نهلة ذلك ، وهي تمسك بيد وردة ، وتسحبها للخارج حتى انتبه لهما الرجل الواقف هناك .. وكم بدا رائعا وهو يبتسم ..!
**************