..
تلك الليلة كانت الأطول في حياة جدتي .. قضتها في البكاء والتحسب .. وأمي الأخرى اجتهدت في مواساتها وتهدئتها .
في تلك الليلة أيضا .. تزوج أبي بأخرى ..!
تلقت أمي خبر زواج أبي بالكثير من الصمت والصداع ، ولو أني شهدت على بكائها في غرفتها ليال كثيرة .
ما فهمته من قصة جدتي المضطربة أن عمي وأبي باعا بيتنا الكبير في القرية ، وتقاسما المبلغ .. طبعا جدتي كانت الضحية .. جاء بها أبي إلى هنا ، وذهب إلى عروسه الجديدة على عجالة ، ولم يلتفت لحال جدتي المتعب .. بينما عمي جهز عدة السفر للخارج كما كان يحلم من قبل ..!
وأظنه الآن.. متوجها إلى إحدى الدول الأوروبية التي كان يتصفح صورها في المجالات المتكدسة في غرفته فيما مضى .. لم تكن بيننا تلك العلاقة القريبة التي تجمع إبن الأخ مع عمه .. لذا لم أتحدث معه كثيرا .
ولأن جدتي هي خالة أمي الوحيدة .. جعلت أمي خلافاتهما الماضية في طي النسيان ، واستبدلتها بالكثير من العطف والرحمة . بالنسبة لي .. أحببت جدتي كثيرا على الرغم من مواقفها العدائية مع أمي سابقا .. إلا أنها كانت الدرع الذي يحميني في كل مرة أقع فيها في المتاعب . آخرها كانت لما سرقنا حمار حجي علي ، وموت صديقي سعيد .. يومها ضجت القرية بشدة ، وتحول الناس في بيتنا .. إختبأت أنا في حمام غرفتي بينما علت الأصوات في حوش البيت وخارجه ..
_ أين هو .. أين هو ..!!؟
اختلط السؤال وعلا بين الجموع .. ف خرجت جدتي لهم .. كانت قوية بما يكفي لتسكتهم جميعا .. قالت ..
_ إهدأوا رجاء ..
_ كيف نهدأ يا حاجة أم سالم . وحفيدك قد قتل ولدي الوحيد ..
قال ذلك أبو سعيد .. وأجهش بالبكاء ..
_ حفيدي لم يقتل أحدا ، ولم يسرق شيئا .. أخرجوا جميعكم ..
_ بلى وانت تعلمين ذلك .. كان هو السبب وراء موت ولدي وخسارة حجي علي ..
_ كان حادثا ، وكيف تتهمون طفلا في التاسعة بالقتل .. أين عقولكم ..!؟
_ لا تنكري حقيقة تدليلك لحفيدك حتى فسد سلوكه ..!
حاولت جدتي إخراج الناس من البيت ، ولكن تدخل الشرطة حينها حال دون ذلك .. كان الوقت في الظهيرة ، والناس في حج عظيم .. !
قالت جدتي بعصبية وخوف ..
_ حفيدي لم يفعل شيئا .. ولا يعرف شيئا ..ماذا تريدون ..!؟
_ هو الشاهد الوحيد ..
قال ذلك قائد الشرطة ، وأمر تابعيه بالبحث عني ، وجلبي ..
تبدلت لهجة جدتي حين رأتني بين إيديهم ..
قالت ..
_ حرام عليكم .. ما زال طفلا لترعبوه بهذا الشكل ..
نظر لي قائد الشرطة نظرة ساهمة وكأنه انصدم من جسدي النحيل ، وملامح وجهي المرتعبة ..ثم قال لجدتي ..
_ لن نأخذه لمركز الشرطة .. سأسأله بعض الأسئلة فقط ..
وجه نظره لي مرة أخرى .. وقال ؛
_ ماذا حدث ..!؟ لا تخف .. أخبرني بكل شيء لننهي هذه القضية .
شعرت بشفتي ترتجفان رغما عني .. حاولت تهدئتهما دون فائدة .. تبادلت وجدتي النظرات الخائفة .. وأسرعت لي وطوقتني بذراعيها .. قلت بعد أن هدأ روعي ..
_إإ اتفقنا أنا وسعيد أن نلعب مع الحمار ،وفي طريقنا للحاج علي وجدنا الحمار مقيدا في العامود قرب الدكان .. ولم يكن الحاج علي بالقرب .. لذا اخذناه معنا ..
_ حسنا .. وبعد ذلك ..
حثني قائد الشرطة على إكمال حديثي .. وأنا أحاول أن أستجمع كل الصور والأحداث بشكل سريع ..
_ ولما وصلنا لعيون الماء .. سمعنا صوت الحاج علي من بعيد يحثنا على إرجاع الحمار .. حاولنا الهرب .. لكن الحمار إنفعل فجأة ، وركل سعيد بقوة أسقطته في عيون الماء .. ارتبكت كثيرا وأنا أرى سعيد يصارع للخروج من الماء .. صرخت بأعلى صوتي للحاج علي بضرورة الإسراع لإنقاذ سعيد .. كنت أصغر بكثير من محاولة الدخول للماء وإنقاذه .. لما وصل الحاج علي .. كان سعيد قد سكن تماما .. حاول الحاج علي إرجاعه للحياة ، فلم يستطع .
_ حسنا .. أكمل ..
_حينها الحاج علي .. صرخ بصوت عال يستنجد بأهل القرية .. الذين جاءوا وفودا قبل أن أهرب خائفا إلى هنا .
صمت قائد الشرطة ثم تبادل النظرات مع تابعيه ، وتركوا يدي ، وقبل أن ينصرفوا ..قال ..
_ القضية هذه المرة حادثا .. لكن ليست كل مرة ستكون كذلك ..
وجه هذا الكلام لي ولجدتي ثم أردف مجددا .. موجها الحديث لي بشكل خاص ..
_ إبتعد عن خلق المشاكل ما تزال صغيرا .. وطريق المشاكل طريق وعر ..!
انصرف ، والجميع ، وبقينا أنا وجدتي حينها أطلقت العنان لدموعي ما كان منها إلا أن طوقتني بعطف ، ودقات قلبها كطبول في يوم حشر .
بعد أن أخذوا أقوال الحاج علي .. أغلقت القضية .. وتم تعويض عائلة سعيد ولو أن لا شيء في الحياة يعوض عن فقد الروح .. !
قاطعتنا عائلة سعيد شر قطيعة حتى أن والدته .. اقتحمت البيت بغية ضربي ، ومهاجمة جدتي .. وأحمد الله أنه في كل مرة يحدث فيها هجوما من قبلها يكون أبي حاضرا..
هذه المواقف دفعت جدتي للاقتراح على أبي بضرورة الانتقال للمدينة ، وأخذي بعيدا عن القرية .. وافقها على الفور لما رآه بعينيه من شر في عيون أم سعيد .
أم سعيد الأم الفاقدة .. وأي فاقدة كانت ..!
دخلت أم سعيد في حالة طويلة من الحزن .. أفقدتها عقلها مع الوقت حتى وصل بها الحال أخيرا أن تهيم في الشوارع ، وتصيح بصوت عال ..
_ سعيد .. سعيد !
أين أنت يا ولدي ..!؟
عد .. فقد أتعبني غيابك ..!
أبا سعيد فقد السيطرة عليها تماما ، وأصبح هو الآخر يهرول في الشوارع والأزقة بحثا عنها ، وفي كثير من الأحيان يجرها جرا إلى البيت ، وهي تصرخ وتنتحب .. وترجوه بأن يساعدها في البحث عن سعيد .. أبنها الضائع ..!
وهو ينهرها في كل مرة ..
_ ماذا تقولين يا امرأة ..!؟
أبنك مات .. مات ..!
عودي لرشدك يا أم سعيد ، ولنرضى بقضاء الله وقدره ..!
أم سعيد تنظر إلى زوجها بصمت وذهول ثم تدخل في نوبة بكاء شديدة .. وهي تصرخ ..
_ أنت كاذب ..!
سيحرقك الله بناره ، وكل الناس التي تصدقك ..!
كلكم كاذبون ..!
سيحرقكم الله .. جميعا ..!
سعيد .. سعيد ..!
ما كان من أبا سعيد إلا أن أدخلها إلى البيت بقوة ، وأحكم إغلاق الباب بعد أن شعر أنه لا فائدة من هذا الحديث الذي يتكرر بشكل يومي بذات النسق المؤلم ، وهي تصرخ ، وتضرب بكلتا يديها على الباب ..
_ أفتح الباب .. !
ولدي سعيد يغرق ..!
تنهد أبا سعيد ، وأسند بظهره على جدار البيت ، وقد أنهكه التعب والأسى يقضم ملامح وجهه بشراسة .. قال وقد انهار على الأرض تماما ..
_ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أفوض أمري إليك يا رب .
بعد أيام سمعنا أن أم سعيد أحرقت نفسها ، وماتت متأثرة بحروق من الدرجة الأولى .. هذا ما أخافني كثيرا ، وجعلني أصحو كل ليلة مفزوعا وخائفا .. الكوابيس التي تحمل شبح أم سعيد جعلتني أنام ليال كثيرة مع جدتي التي ألم بها حزن شديد لما وصلت له حالتي النفسية والجسدية أيضا إذ فقدت الشهية لكل شيء حتى الطعام .. لو لم نستغفل الحاج علي ونسرق حماره ، ولو لم يكن سعيد صديقي لكان على قيد الحياة الآن .. ولما أقدمت أمه على الإنتحار حزنا عليه .. لكن قدر الله وما شاء فعل ..!
أعادني من هول الذكريات صوت بكاء جدتي الذي ارتفع بحدة بعد أن استيقظت من النوم مفزوعة .. وهي تقول ..
_ أماني .. ساعديني إن بيتنا يحترق ..!
لم يكن الحلم السيء الأول بل تعاقبت سلسلة لا تنتهي من هذه الأحلام منذ أن جاءت جدتي إلى بيتنا لتعيش بقية العمر معنا ..!
في الواقع .. كنت سعيدا جدا بهذه الإضافة .. أصبحنا عائلة من أربعة أفراد بدل ثلاثة ومن منا لا يحب العائلة الكبيرة .
تعاقبت الأيام ، واعتادت جدتي حياتها في المدينة بل سلمت أمرها لذلك رغما عنها ، فلم يكن الخيار بيدها على أية حال.
على الأقل أصبحت أسمع صوتها كل صباح ، وهي تصرخ بأسمائنا واحدا واحدا ..
_ أماني .
عزيز ..
ريم
أين أنتم ..!؟
ما زلتم نيام ..!؟
تتشاجر مع أمي حول ماذا سيكون الإفطار ..!
وماذا على أمي أن تطبخ للغذاء ..!؟
أين ستكون الأريكة الحمراء ، والطاولة الجانبية ..!؟
_لماذا تأخرت يا أماني ..!؟
_لماذا لا تجلسين معي يا أماني ..!؟
_غيرتك المدينة يا أماني ..!!
كنت تجيبين في الماضي على كل تذمري هذا بالسمع والطاعة ..!؟
لماذا الآن .. تكثرين من الثرثرة ، والتذمر ..!؟
كثيرا ما كنت أصحو على هذه السمفونية ، والحقيقة أنني عوضا عن التذمر مثلهما .. كنت أضحك ملء فمي .. أضحك بعمق ، ورضا .. أخيرا أصبح لبيتنا في المدينة .. رائحة كرائحة القرية ..!
_ رحمك الله يا سعيد ..
ورحمك أيتها القرية ..!
***********
وانتهت العطلة ، وعدنا للمدرسة .. وهناك بدأت سلسلة جديدة من الصراعات بطلها عباس العملاق ..
قلت أحدث نفسي حين استقبلتني نظراته من بعيد، وأنا أضع أولى خطواتي في داخل المدرسة ..
_ سيكون عاما طويلا جدا ..!
ولم أخطئ ، ف زاهر أيضا أكد لي قلقي ذاك بقوله ..
يا ويلنا من عباس ..!
عباس ذاك لم يصرف انتباهي عن تفاصيل المدرسة الجديدة .. كانت كبيرة جدا بحيث تطلق العنان لقدميك للركض كيفما شئت .. أيضا الرسومات التي تزينت بها الجدران بألوان الفرح كانت تبهج القلب رغما عن أنف .. ألف عباس ..!
لكن .. لا أدري لم لا أشعر بالراحة !!
كانت المواجهة الأولى بيننا .. عندما مر من أمامي ب وجهه الكبير ، وقال بصوت عال وهو يحدث الهيكلين الآدميين على جانبيه وكأنه أراد استفزازي ..
_ أحدهم هنا .. كان شكله القلق تلك الليلة مضحكا ..!
وأطلق ضحكة عالية جدا ثم أردف ..
_ كالنساء .. وأنا أكره النساء ..!!
وابتعد باهتزازات جسده الملفتة .. أما زاهر ف أمسك يدي قلقا .. في الواقع .. لم أكن أريد التصادم معه .. خصوصا هذه الأيام .. ف الأيام الأولى في المدرسة .. تبني شخصيتك التي تدوم حتى نهاية العام ، ولم أكن مستعدا لإفسادها ..!
مر اليوم الأول على خير نسبيا .. وعدت للبيت .. وفي البيت كانت الطفلة وردة ب رفقة ريم تلعبان في الصالة .. عندما انتبهت ريم لوجودي .. صفقت فرحا وأسرعت لي بخطواتها المتعثرة .. وتبعتها وردة ..رفعتها بفرح ، ودرت بها دورة قصيرة ..
_ إشتقت لي يا صغيرة .. ها ؟
كانت ضحكتها الجميلة إجابة كافية جدا .. انتبهت لوردة وهي تسحب قميصي ،
_ ماذا يا جميلة ..؟
قالت بصوتها الخافت ..
_ أنا أيضا .. إحملني ك ريم ..!
ضحكت ورفعتها ك ريم كما أرادت ، وأخذت بهما جولة صغيرة في البيت .. ذهبت للمطبخ كانت أمي تجهز الغذاء .. عندما رأت منظر الطفلتين بين ذراعي ضحكت بلطف ، وقالت ..
_ دائما وأبدا هكذا تكون ..!
اثارت بحديثها انتباهي ، فنظرت لها متسائلا ..
_ ماذا أكون يا أمي ..!؟
_ بطلهما يا حبيبي .. !
ضحكت ضحكة خفيفة .. وضحكت وردة أيضا ، وكأنها فهمت المعنى من وراء ما قالته أمي .. واقعا ..ليس من السهل أن تكون بطلا في حياة أحدهم .. لكنني أتمنى أن أكون البطل في حياة الجميع .. أمي .. جدتي .. ريم ووردة أيضا ..!
وردة ..!
تلك الصغيرة الجميلة ذات الشعر الأملس الأسود الكثيف .. كانت طريقة شعرها كالآسيويات .. قصة شعرها الأمامية تغطي جبينها كاملا .. بطريقة تأخذ بالقلب .. أحاديثها التي تأخذ طابع حديث الكبار تطرق عقلي في كل مرة يدور بيننا حديث قصير في لعبة ما ..
ذكية جدا هذه المخلوقة .. !
إعتدت رؤية وردة في البيت كل يوم بعد عودتي من المدرسة .. كانت رؤيتها في البيت تسر قلبي كثيرا جدا .. كانتا الصغيرتين تنشران البهجة في البيت كله .. بصراخهما .. ضحكهما وبكائهما أحيانا ، والحقيقة أن أذني ألفت موسيقاهما الصاخبة هذه ، وأدمنته .. ولأنني بطلهما الخاص ، فهما تصران علي اللعب معهما خصوصا أن كان اللعب يضم مكعبات بلاستيكية صغيرة .. كنت أستمتع كثيرا برفقتهما ، ولو أن زاهر نذر نفسه أن يكون مفسد الاستمتاع كل الوقت ..!
قلت له وهو يستحثني على الخروج ..
_ ما بك زاهر .. لم دائما تفسد لعبنا ..!؟
_ لعبنا!؟ اي لعب هذا بالله عليك ..!!
هيا لقد تأخرنا .. المباراة قد بدأت على أية حال ..!
استأذنت من صغيرتي ، وأنا أعدهما بالعودة مجددا .. وانصرفت وزاهر ..!
غابت الشمس ، وحين عدنا .. كانت ريم نائمة بينما وردة قد جمعت ألعابها في كيس صغير ،ووقفت تنتظر .. عندما رأتني قالت ..
_ ريم أفسدت بيت المكعبات الذي صنعته أنت .. حاولت إصلاحه فلم أستطع ..!
ابتسمت في وجهها الجميل ، وقلت ..
_ سنصنع بيتا آخر أجمل غدا..
أليس كذلك ..!؟
ضحكت بفرح ، وخرجت راكضة ، وهي تقول ..
_ حسنا ..!
في اليوم الثاني ، وفي المدرسة تحديدا ..لم يضيع عباس أي فرصة لمضايقتي بل بدأ حقا خطواته الأولى لذلك .. بشكل خبيث وقبيح كوجهه .. كان لما دخل المدير ومساعد المدير للصف بعد ان استقرينا في مقاعدنا .. تهامسوا فيما بينهم ثم قام أحد الطلبة لا أعرف اسمه إذ لم يتسنى لأي منا ذلك ،وهو اليوم الثاني لنا في المدرسة كما تعلمون .. وبملامح كئيبة أشار لي بيده ..
_ هذا ..!
أشار لي المعلم أن أقف .. ووقفت جاهلا الأمر .. ثم قال مساعد المدير ..
_ أأنت من سرق مصروف زميلك هذا ؟
على الفور قلت ..
_ لا .. لم أفعل ..!
حينها أسودت الدنيا أمام عيني.. وشعرت بقلبي يخفق بسرعة قهرا وغيظا ..
تبا لك يا عباس ..!
هذه التمثيلية السيئة .. خلفها شخص فاشل ، والحقيقة لا أعرف فاشلا بقدره ..
حسنا .. أنا لا أدين له بشيء ..
ليس أحدا .. يستحق أن نظن به خيرا ..!
أمر المدير المعلم بتفتيش كل الطلاب حينها حتى في النهاية وجدوا الضالة في حقيبتي .. كيف وصلت للحقيبة ومتى .. لست أدري ..!!؟
وقفت مذهولا مما حدث كما سكن الجميع متوجهين بأنظارهم حيث أقف .. !
خرج المدير ، وأشار لي مساعده بأن أتبعه ، وخرجت وتبعني سريعا زاهر .. زاهر الذي كان برفقتي طيلة اليوم .. قال وهو يضغط على كتفي ..
_ لا تخف .. أنا معك ..!
وفي مكتب المدير .. وقفنا جميعا المدير ومساعده ، أنا ..زاهر والطالب الذي أدعى بأني سرقت مصروفه ..
كرر المدير سؤاله للطالب المدعي ..
_ أأنت متأكد أن زميلك هذا من سرق مصروفك ..!؟
ارتبك ثم قال ..
_ نعم ..
_ وكيف عرفت ..!؟
بلع ريقه ثم قال ..
_ لقد رأيته ..!
المدير باستغراب ..
_ رأيته ..!؟
ارتبك مجددا ثم قال ..
_ لا لم أره .. عباس هو من رآه ..!
_ من عباس !؟
قال المدير ذلك وركز بنظره على الطالب ..
_ صديقي !!
قال الطالب الذي بالكاد أعرف شكله ،وهو يضغط على يديه بارتباك واضح .. أمر المدير مساعده بضرورة إحضار عباس ..إلا أن الطالب بكى ثم توسل المدير بعدم إحضاره .. قال
_ لا تحضروه أرجوك .. سيضربني بشدة
_ اهدأ .. وأخبرني بالقصة ..
قال المدير ذلك ، وتغيرت ملامح وجهه الهادئة إلى ملامح جادة ..
_ عباس أخبرني أن أفعل ذلك .. أن أضع مصروفي في حقيبة زميلي هذا وأن أدعي أنه سرقني ..
قال المدير ..
_ لماذا ؟
_ لا أدري ..
قال الطالب ذلك بملامح خائفة بينما وقفنا أنا وزاهر جانبا .. بصمت والحقيقة لا شيء يمكن أن يقال تعليقا لهذه الحادثة الحمقاء .. طلب منا المدير الإنصراف بينما الطالب بقى برفقتهم .. خرجت وزاهر من الباب ، وتجاهلت تماما ما حدث في الداخل .. بينما زاهر شعر بالغضب والضيق .. سمعته يقول ..
_ تبا لك يا عباس .. ليتني أستطيع تسديد لكمة قوية لوجهه القبيح ..!
كانت الضربة العلنية الأولى من عباس التي لم أنو الرد عليها ولا بأي شكل من الأشكال بل عوضا عن ذلك أكتفيت بالصمت فقط ثم توالت الكثير من الضربات .. أبطالها في كل مرة الكثير من الأغبياء وحسب .. بعد هذه التمثيليات الفاشلة لم أعره انتباها جادا .. ومن كان يتخيل أنني بسبب هذا الفاشل سأكون مشهورا في المدرسة كلها ، والطالب النجيب في نظر المدير بشكل خاص .
أكملنا اليوم ، وعدت إلى البيت .. كان البيت الملاذ الوحيد الذي يبعث على نفسي السعادة والرضا خصوصا حين تستقبلني الصغيرتين بضحكات حلوة كالعسل .. !
لما رأتني الصغيرة وردة .. جاءت مسرعة ، وهي تقول بسعادة ..
_ لقد صنعت لك بيتا كبيرا .. عزيز
أخذت تجر بنطالي بيدها الصغيرة ..
_ تعال لتراه .. سيعجبك حتما ..
_ الله .. ما أجمله !
_ خذه أنه لك ..!
دفعته نحوي ، وعينيها تلمعان سعادة وفرح .. واستطردت ..
_ حين تكبر كأبي ستصنع واحدا لك ..
_ وتعيشين معي ..!؟
سألتها مازحا ، وانتظرت ما يمكن أن تقول هذه الطفلة ..
صمتت لوهلة .. ثم قالت
_ لا
_لم!؟
_ لأنك لست أبي ..!!!
الحقيقة لم أتوقع إجابة كهذه .. كنت أتخيل أنها ستجيب ب نعم ربما لاعتقاد سابق أن الأطفال لا يفكرون .. وهذا الاعتقاد تصر وردة الصغيرة في كل مرة على جعله خاطئا دائما .
في البدء كنت متعلقا ب ريم كثيرا لأنها أختي الصغيرة والوحيدة كما تعرفون ثم بدأ تعلقي ينصرف مع الأيام للصغيرة وردة .. فلم أكن اتخيل أن أعود للبيت بعد المدرسة او اللعب ولا أجدها تلعب وتدندن أحيانا .. تزجر ب ريم ثم تعانقها أحيانا أخرى أو تقرأ علي قواعدها الخاصة بلعبة ما .. لم يكن التعلق ذاته .. كان شيئا مختلفا .. شيئا لم أعرف له معنى ..!
هكذا مرت الأيام ، وكبرنا معا .. وأصبحت وردة فردا مهما في البيت ، وفي حياتي .. فلم أكن أتحمل تأخرها عن موعد مجيئها .. كنت أطرق باب بيتهم في كل مرة يحدث فيها ذلك ،وحثها على المجيء بحجة أن ريم تريدها .. أصبح من الصعب رؤيتها كالسابق لذلك اضفت إلى قاموسي اليومي عبارات مثل ( ريم تريدها .. ريم تنتظرها .. ليفهم الجميع بشكل واضح أن وردة فردا مهما في البيت ..!
****************
أنا الآن في العشرين من عمري .. قطعت شوطا كبيرا جدا ، وأنا أحاول إكمال دراستي على أكمل وجه ، والخروج سليما من كل أفخاخ (عباس الأحمق) .. خصوصا في المرحلتين الابتدائية والإعدادية .. لأنني لم أره مجددا في المرحلة الثانوية وذلك بسبب انتقالي لمدرسة أخرى ، واختلاف تخصصاتنا .. حافظت على تفوقي والحمدلله مر كل شيء وأصبح ماض .. و لا أنسى أن صغيرتي وردة الآن في الخامسة عشر .. ما أزال أذكر أول مرة التحقت فيه للمدرسة ، وعادت بزيها المدرسي الأنيق لتخبرني عن يومها الأول ، وأسماء صديقاتها اللاتي تعرفت عليهن .. كم كان وجهها جميلا حينها ، وهي تصف يومها المدرسي بعفويتها الرائعة .. ولأن يومها فقدت أمها مولودها الذي كان من ذوي الاحتياجات الخاصة كما أخبروها المستشفى ، وزاهر ليس جيدا في التدريس كنت أنا الخيار الأمثل لدور (المدرس) الذي سيتابع معها دروسها .. وهذا ما جعلها بقربي كل الوقت .. لذا أنا أشتاق لها الآن ، وأكاد أجن من هذا الوضع الجديد ..!
عزيز .. لدي الكثير من الواجبات .. أنا أولا ..!
عزيز .. إنكسر قلمي .. أعرني قلمك ..!
عزيز .. أريد أن أحفظ القصيدة اليوم .. ساعدني ..!
كم كانت ذكية ولحوحة هذه الصغيرة ، و لا أدري لم يرفض الجميع فكرة أن تكون معي ..!؟
ما جعل وجودها بجانبي صعبا هو قرار إلباسها للحجاب ،وما يترتب عليه من قوانين وأحكام حتى اختفت عفويتها التي تأخذ بقلبي شيئا فشيئا ،فلم تعد تركض لي وتقفز في حضني .. أو تجلس معي على سريري لتسرح لي شعري ، وتضع لي إكسسوارات خاصة بالبنات .. لم يعد يحدث ذلك لأنها أصبحت كبيرة الآن رغم أني ما ازال أراها تلك الصغيرة التي سكنت قلبي ..!
أصبحت ضخما وطويلا بشكل لافت ، وهو ما عبر عنه زاهر في وقت سابق بقوله لي ..
_ أصبحت مخيفا يا رجل ..!
من كان يظن أن يتحول الجسد النحيل إلى هذه الكتلة الضخمة الفارهة في الطول .. والحقيقة أن هذا التحول دفعني للالتحاق بأحد النوادي الرياضية القريبة ..لذا لم تعد فكرة الجلوس واللعب مع ريم التي بلغت ال ١١ فكرة سديدة كذلك .. هي الأخرى انشغلت بصديقاتها ودراستها ،فلم تعد تنام معي بألعابها منذ أن التحقت بالمدرسة .. ولأنني الشخص الوحيد الذي أنهى الدراسة ،فكنت أشعر أن يومي طويلا بلا الصغيرتين اللتين كبرتا دون أن أدرك ذلك ..أما زاهر فقد انشغل منذ سنتين بالعمل مع أبيه في التجارة التي لم اعرها انتباها يوما !
وانشغلت أنا بتضخيمي .. وهذه إحدى حسنات الفراغ ..!
كان الحلم بأن أكون ضابطا يشغل حيزا كبيرا من تفكيري ، وعالمي المربع هذا .. إذ قفز أيضا على جدران غرفتي التي تزينت بصور ورسومات الزي العسكري .. أعلم أنني لم أخبركم عنه قبلا ذلك لأنني رجحت أن يكون ربما أمنية عابرة .. لكنها لم تكن كذلك يوما .. هذا ما جعلني أتقدم بأوراقي منذ تخرجي حتى اليوم ولأن حرف ال (و) يلعب دورا مهما في بلادي جعلني فارغا طويلا وأنتظر كالآخرين ..!
الإنتظار صعب ، والتفكير يقتلني ببطء ..ووردة هي الأخرى تزيد الأمر سوءا بانقطاع زياراتها الحلوة .. أنا مستاء كثيرا ، وأشعر أن قرار عدم مجيئها للبيت والجلوس معي .. قرار غير عادل بحقي على الأقل ، وأنا الذي اعتدت تدليلها ومعانقتها متى ما شئت ..
لا أعرف سببا واحدا يجعلهم يخشون وجودها معي ..!
هي ابنتي .. لو يعلمون ..!
خرجت بغية أن أطرد كل هذه الأفكار من رأسي دفعة واحدة .. وأروح عن نفسي قليلا .. عند خروجي .. التقيت بجدتي .. كانت في طريقها إلى المطبخ لتشرب الماء ..أمسكت بيدها ، قلت وأنا أجلسها على الكرسي ..
_ سأحضره لك .. إستريحي هنا فقط ..
لحظات، وكان كأس الماء في يدها .. قالت لي بعد أن ازدردت الماء عن آخره ..
_ لا أدري أين ذهبت أماني ..!؟
_ أظنها في بيت زاهر .. يا جدتي ..
صمتت ثم بادرتني بالسؤال ، وهي تتفحص وجهي بقلق ..
_ ما بك يا عزيز .. وجهك مصفر ..
_ لا شيء يا جدتي .. ربما إرهاق ..
قلت ذلك ، وأنا أرخي برأسي علي الكرسي .. مسحت على رأسي بعطف .. قائلة ..
_ حفظك الله من الإرهاق والتعب .. هذا ما يخلفه السهر يا بني .. إترك هذه العادة .. أ
أرجوك !
_ حسنا .. جدتي
تنهدت تنهيدة صغيرة ثم وضعت رأسي في حجرها ، وأخذت تمسح فوقه بحنو .. لم تكن المرة الأولى التي أفعل فيها ذلك ، فلقد اعتدت منذ زمن على أخذ قيلولة الظهيرة واضعا رأسي في حجرها مستمتعا بحكاياتها التي تحمل رائحة أزقة القرية ببيوتها وطينها ..!
قالت ضاحكة ..
_ أتذكر ..بالأمس كنت تنام في حجري .. اليوم أصبحت كبيرا جدا لن تكفيك المساحة ..!
_ تعنين أصبحت عملاقا !
وضحكنا معا .. قالت وهي تمسح فوق رأسي مجددا ..
_ أعيذك بالله من عين الحاسدين
ما لم تكن تعلمه جدتي وأنا بقربها .. رغم هدوئي الظاهر هو أن داخلي يحترق ..ولا أجد بالقرب ما يخمد ذلك الحريق ..!
في المساء زارني زاهر .. وخرجنا نتمشى قليلا .. كنت بحاجة لهذه الجولة الصغيرة بشدة ..
_ ما بك يا رجل لم لم نعد نراك .. !؟
قال زاهر ذلك ، وهو ينظر لي منتظرا جوابا قانعا وصريحا ..
_ لا أدري يا صديقي .. عقلي مشغول جدا هذه الأيام .. أنتظر القبول ..!
قال وهو يضغط على كتفي مطمئنا إياي ..
_ سيقبلونك يا عزيز .. لن يجدوا أفضل منك .. صدقني !
_ إن شاء الله يا زاهر .. إن شاء الله ..
_ سأنتظر العشاء من الآن ..
_ تفكر في بطنك دائما ..
فتشاركنا ضحكة عالية قطعت بحدة الهدوء المخيم في طريق العودة ..
لو يعلم زاهر أنه أنقذني من أفكار رأسي التي لم أصدق أن تهدأ .. هدأت فقط ، ولكنها لم تنتهي بل تتفاقم كلما أغلقت على نفسي الغرفة ، وغرقت في الفراغ ..!
أهو الفراغ فقط من يخلق هذه الأفكار .. هل أسلم بذلك ، وأقنع نفسي بأن وردة إحدى تلك الأفكار التي يجلبها الفراغ ..!؟
لا ، لا ليس الأمر هكذا قطعا .. وردة ليست فكرة هي حقيقة أجهل فقط كيف أتعامل ، وأسيطر على أوضاعي معها .. هي الحقيقة الحلوة التي لازمت قلبي كل هذا الوقت ..!
لم أستطع النوم ، وجعلت أتقلب على فراشي ، ورأسي يكاد ينفجر .. أشعر أنني متعب بل مريض رغم أن حرارة جسدي طبيعية جدا .. لكنني متعب وأتعرق بشدة .. ما كان مني إلا أن خرجت قاصدا غرفة جدتي .. لما اقتربت من الغرفة وجدت الضوء يتسلل من الفتحة أسفل الباب .. فألصقت رأسي بالباب أسترق السمع .. كانت جدتي تبكي ..!
طرقت الباب دون تفكير ، وناديتها بصوت خافت ..
_ جدتي .. !
هدأت ثم طلبت مني الدخول ..
_ تعال يا عزيز .. أدخل
فتحت الباب ودخلت .. كانت تجلس وسط السرير ، وفي يديها صندوق صغير مفتوح ، وفي داخله حفنة من الذهب كانت قد ادخرتها لليوم الأسود ..!
قالت وهي تنظر لي بعين دامعة ..
_ هذا كل ما تبقى لي ، وأنوي بيعه لمصاريف البيت ..
جلست بجانبها ، وقبلت يديها .. قلت محاولة مني لطمأنتها ..
_ قريبا .. سألتحق بالعسكرية ، وأكسب الكثير من النقود ، ولن تكوني بحاجة لبيع ذهبك يا جدتي ..
مسحت على رأسي ، وقالت بحنو أم ..
_ ربي يوفقك يا حبيبي ..
ثم استرسلت بحزن ..
_ والدك قد نسينا ، فهو لا يسأل ولا يأتي
يشبه أباه كثيرا .. لا يفكران إلا بنفسيهما .
لم أملك أي تعليق شاف حينها ، فاكتفيت بالصمت ولا شيء آخر ..!
*************
بعد أسبوعين وصلتني ورقة القبول ، وكان من الطبيعي أن أطير فرحا .. لكن شيئا من هذا لم يحدث .. أعترف أنني لست على طبيعتي مؤخرا بل من فترة ليست بالقصيرة ، ومنذ ان انقطعت وردة عن مجيئها إلى غرفتي بل البيت بشكل نهائي ..!
وردة .. وردة ..!
لم أصبح تفكيري معلقا بهذه المخلوقة عوضا عن مستقبلي ..!!؟ كل شيء يتحدث عنها .. كل المواضيع التي تطرق رأسي لا بد وأن يتخللها اسمها ..
القانون و .. وردة!
الزي العسكري و .. وردة !
رفع الأثقال و .. وردة !
كوب الشاي و .. وردة !
سبع بيضات مسلوقة و .. وردة !
ترى متى أستعيدني من داء التفكير فيها ..!
خرجت هاربا من أفكاري .. لأخبر الجميع عن القبول ، وهناك ارتفعت زغاريد أمي وجدتي حتى أن أم زاهر جاءت مسرعة ، وهي تقول بملامح مسرورة ..
_ أفراح دائمة يا رب ..ما أمر هذه الزغاريد !؟
قالت جدتي وهي تعانقني ..
_ أبننا أصبح ضابطا يا أم زاهر .. زغردي ..
زغردت هي الأخرى ، وشاركها الجميع .. قلت وأنا أضحك ..
_ ليس بعد يا جدتي .. أمامي ستة شهور من التدريب بعد ..
صمتت ثم قالت مستفهمة ..
_ ستة شهور؟
_ نعم جدتي .. ستة شهور من التدريب في المعسكر ..
_ وستغيب عنا كل هذا الوقت؟
قالت ذلك وهي تنظر لي بملامح قلقة ما كان مني إلا أن طوقتها بذراعي ..
_ لا تخافي يا غالية .. ستمر بسرعة، وسأعود لكم إن شاء الله ..
تنهدت تنهيدة قصيرة ثم قالت ..
_ حفظك الله
قالت أم زاهر محاولة منها بتغيير جو القلق المخيم على وجهي جدتي وأمي ..
_ سأطبخ الكثير من المأكوت الشهية هذا المساء .. بهذه المناسبة
_ لا تتعبي نفسك يا أم زهر .. كنت قد وعدت زاهر بعشاء في مطعم قريب ..
_ تعبك يا ولدي راحة .. أنت بمنزلة زاهر
سأطبخ !
ابتسمت خجلا ، وحاولت أن أهرب بوجهي المحمر لمكان ما .. في طريقي إلى غرفتي .. التقيت ب وردة .. !
الله
كم كنت أنتظر هذه اللحظة منذ أيام .. أيام من الشوق والقلق ..
ماذا تفعلين بي يا وردة ..!؟
تغيرت ملامحها كثيرا .. في الواقع تبدلت ملامح تلك الطفلة لأخرى أكثر أنثوية .. الحجاب حجب عني تلك الخصلات الحريرية التي طالما زينت جبينها .. رغبت كثيرا بمعانقتها كما كنت أفعل في الماضي كلما جئت من الخارج ، وكانت موجودة في البيت برفقة ريم .. رغبت في ذلك بشدة .. لكني لم أفعل ..! لأنها لم تعد ببساطة تلك الطفلة اللحوحة .. حبيبتي الآن أكبر .. أنثى جميلة قد أخذت بقلبي للمرة الألف ..!
_كيف حالك يا وردة !؟
أردت أن أقول يا صغيرة ، ولكن الأنثى التي أمامي الآن بعثرت كل أفكاري دفعة واحدة حتى وجدتني أقول وردة فقط دون أي إضافة ..
_ وردة الصغيرة ..!
_ وردة الجميلة !
_ وردة قلبي الأبدية ..!
قلت وردة فقط ..!
.. وهي تلقت سؤالي بصمت ، ولم ترفع برأسها لتراني ، ولو على سبيل النظر العابر .. بل أنها مرت من أمامي ، وكأنني تحولت إلى شبح فجأة حتى أنها لم تلق التحية أو تسألني عن حالي ..!؟
لماذا يا وردة ..لماذا؟
لما وصلت لباب الغرفة سمعتها تتحدث مع والدتها .. كانت توبخها على مجيئها هذا الوقت ..
لماذا جئت !؟
تعرفين أن عزيز هنا .. لا يجوز أن تترددي هنا كثيرا بوجوده ماذا سيقولون عنك ..!؟
حسنا أمي .. تعالي بسرعة .. أبي يريدك !
هيا ..!
خرجتا مسرعتين ،ووقفت أنا حائرا وكل ما بي قد علق في اللحظة التي تجاوزتني فيها وردة وراحت في طريقها دون صوت ..!
أعرف أنني أفكر بعاطفة زائدة ، ولكن لم لا يفهم الجميع أن وردة ليست إبنة الجيران فقط ..هي الطفلة التي أحببتها ، وشكلت جزء مهما في حياتي ..!
في المساء ذهبت مع زاهر إلى المطعم كما وعدته .. لم أكن في مزاج جيد لكني حاولت بشدة أن أكون طبيعيا قدر الإمكان ..
تحدث زاهر في الكثير من المواضيع التي لم أكن منتبها كما يجب لمعظم تفاصيلها .. لست بخير ولا أعرف كيف أخرج نفسي من هذه الحالة ..!
أنتبه زاهر لشرودي ، فقال ..
_ ما بك عزيز .. أحوالك هذه الأيام لا تسر عدوا ، فكيف بي وأنا صديقك الوحيد ..
_ أفكر في الأيام القادمة يا صديقي .. لا شيء مقلق ..
أنا بجانبك دائما متى ما أردت أن ترمي بثقل صدرك ، وأنت تعلم ذلك ..
قال ذلك زاهر وهو يضغط على كتفي ..
_ وخير صديق أنت ..!
في هذه اللحظة مر بجانبنا عباس وقد فقد الكثير من وزنه .. في الواقع لم أكن لأتعرف عليه لولا صوته الناشز ..
قال بخبث ..
_ اووه .. يا لحظي العاثر .. هنا الفاشل الكبير وصديقه الغبي ..
بالمناسبة .. متى أصبحت ضخما هكذا .. أظن أنك تأكل البشر عوضا عن الطعام ..!
قهقهه بخبث ..
فرد زاهر بغضب ..
_ لأول مرة أرى أحدا يصف أحدا بصفاته المشهورة ..!
كانت المرة الأولى التي أرى فيها زاهر غاضبا ، ويوجه للآخربن ومن بينهم عباس هذا الكلام .. حاولت تهدئة الأمر إلا أن عبارات عباس الخبيثة والمستفزة قد أوصلت الأمر إلى عراك تدخل فيه كل الذين شاهدوه ومن بينهم انا لفض النزاع .. !
كنت مصدوما بزاهر .. متى أصبح عصبيا هكذا وهو الذي كان دائما يطلب مني أن أتمالك نفسي ، ويبعدني بهدوء عن أي عراك محتمل بيني وبين عباس المتغطرس هذا .. ما الذي حصل .. لتتبدل أدوارنا بهذا الشكل المحير ..!؟
عباس الذي تلقى عدة لكمات على وجهه بقبضة زاهر .. أخذ يردد بصوت عال وهو بين أيدي مجموعة من الرجال ..
.. سأنتقم منك .. لم ينته الأمر ..!
أما زاهر فقد بدا مذهولا من تسارع الأحداث لتصل في النهاية إلى هذا العراك .. ومع أخبث مخلوق على وجه الأرض ..!
عباس ..!!!
في طريق العودة لم نتحدث .. وقبل أن نفترق .. طلب مني ألا أخبر أحدا ، فلم أفعل ..!
كانت تلك آخر ليلة نلتقي فيها ،وأتذكرها له .. وقد مرت على خير رغم ذلك ..!
.. في الصباح الباكر .. خرجت من غرفتي لألقي التحية على الجميع قبل أن أذهب للمعسكر .. استقبلتني أمي بالبكاء وشاركتها جدتي .. أما ريم فقد التصقت بي ، وهي تبكي ..
_ لا تذهب .. أرجوك ..!
لا بد لي من الذهاب يا صغيرتي .. ألا تريدين لأخيك أن يلبس زي الشرطة ..وتفتخرين به .. ها ..!؟