المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورانيّة
..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مساء طيب جميعا ..
طبعا .. ليست المرة الأولى التي أنشر فيها هذه الرواية ، ولكنها المرة الأخيرة إن شاء الله .. وعنوانها ثابت هذه المرة أيضا ..
نبدأ بعون الله ..
اليوم تصل أمي ، وأتوق بشدة لعناقها ..صوت البكاء القادم من الخارج .. قطع الكثير من الصمت والإنتظار . .عادت وأخيراً أمّي مع مخلوقة باكية ستزاحمني حبّها!
خرجتُ من غرفتي كالبرق بغية عناق أمّي , كانت الصغيرة بين ذراعيها وقد أقامت الأرض وأقعدتها ب صراخها
كانَ عناقاً قصيراً قبل أنْ تختفي معها خلف باب الغرفة الموصد،وقفتُ بحزن
ف أخذني أبي إليه ..قال لي وقد استقرّ رأسي بين كفّيه ..
_ لا تحزن .. كان يومهما متعب
أومأت برأسي موافقاً إيّاه
ثمّ تركني وخرج.
ف خمّنت أنّه سيخرج للتدخين لذا عدتُ إلى غرفتي , لأكتب شيئا جديدا في مذكّرتي .. كهذا اللقاء الباهت
ريم الصغيرة
كانت الأيّام بهذه الطفلة تزداد انضغاطاً وحدّة , فصوت بكائها كابوس مزعج يوقظني كل ليلة , ومرّات عديدة أخرج مستاءاً رغبةً في أن أرميها في النفايات البعيدة جدّاً عن البيت. لكنّي أعود خائباً حانقاً عند رؤية وجه أمّي المتعب..!
عجيبة تلك الآدميّة الصغيرة , فمن أيْن لها بهذه الحنجرة , وهي بعمر ال سنة فقط
إذ كانت تبلغ الأربعة شهور قبل السفر الذي دام 6 شهور عجاف قضيتها بالتنقّل بين القرية عند جدّتي والمدينة مع أبي الذي كان يعود بين الفينة والأخرى
,, يا إلهي,,
شعرتُ بالضيق وأنا أتأمّل وجهي في المرآة, وهالات سوداء تلفّ عيني بقسوة دون أدنى رحمة .. تحسستها بخوف , وشعور غريب أقرب للضعف تملّكني جعلني أقف لحظات طويلة أمام المرآة.. لحظات مشوبة بألم مرير.
فجأة.. توقّف البكاء.. ف تمدّدت على فراشي ونمت..!
في الصباح لم أستطع النهوض , وآلام كثيرة مصدرها رأسي المثقل..
_عزيز..
جاء صوتها أمّي يخترق باب غرفتي وانفلت كالكرة على رأسي المطرق. لملمتُ نفسي , ونهضت أحمل ثقل جسدي المرهق , وقبل أنْ أفتح الباب كانت قد استقرّت بطلّتها البهيّة أمامي وبين ذراعيها ريم البكّاية.. لكنّها هذة المرّة بدت ساكنة , وهي تنظر لي بعجب.. شعرتُ بذلك من عينيها المفتوحتين على اتساعهما , وفاهها الفاغر كذلك..
,, يا لها من طفلة!,,
دفعتها أمّي نحوي بشيئ من الإرهاق.. وقالت..
_ إعتن بها..لحين عودتي..
_ ولكن..
وقبل أن أكمل كانت قد ابتعدت وتوارت بجسدها خلف الباب , وتركتني معها.. إذ لا أوان للرفض..!
تبادلت وإيّاها النظرات فقد سكنت تتأمّلني بعيون عابسة , وملامح إختلطت بآثار الدموع ليلة البارحة. لا أزال في العاشرة , ولا خبرة لي في المخلوقات الصغيرة خصوصا الذين يشبهون ريم..!!
أخذتها لفراشي , وعيونها لا تزال تتفحص وجهي في خوف, وسكون مرعب.. حتى اعتقدت أنّها ماتت للحظة..!
أضطربت أنفاسي, وبحركة مفاجئة مني هززتها بقوّة جعلتها تبكي مرتعبة.. هذا ما أراح قلبي ..
عادت كما أعرفها.. ريم البكّاية..!
حاولت مراراً إسكاتها , فلم تكترث لي وراحت تزيد من جرعات بكائها المزعج.. ربتُ على كتفيها..
_ ماذا تريدين حبيبتي..!؟
لكنّها إنتفضت قهراً, وأعلت من صيحاتها الغاضبة في وجهيْ..!
ما أنتِ بالله..!
أيّ موقف وضعت نفسي فيه..! لم أمنع نفسي من الصراخ في وجهها .. تلك ردّة فعل لم أحسب لها حسابا سابقاً إلاّ أنّها لم تترك لي خيارا آخر..!
ذاك الصراخ جعل صيحاتها تتراجع رويداً رويداً حتى تلاشت . حالة من السكون والوجوم إعترتها ولا تزال تنظر لي برعب وتحبس أنفاسها المشحونة خلف أنف مخاطي وفم مقوّس..!
كانت البداية معها سيّئة..!
كنت سأكون أخا ودودا معها لو أنّها إستمعت لي فقط, فهي اختي الوحيدة والأخيرة على أيّة حالْ..!
فأمّي لن تقوى على الحمل والولادة مرّة أخرى.. كان حديثاً سمعته صدفة بينها وأبي ولم أعره إنتباهاً حينها وفي ذروة جنوني في القريةْ .. يومها كنّا في بيتنا القديم..!
آهٌ .. يا بيتنا القديم..!
مرت أحداث كثيرة .. لا بدّ ويأتي ذكرها فيما بعد.. !!
ساد الصمت الغرفة , ودمعة كبيرة شقّت طريقها فوق وجنتها المتورّمة .. إقتربتُ نحوها أكثر , وطوّقتها بذراعيّ.. قلت..
_ سامحيني..
عرفت أنّها لن تفهم ما أقول, ولكنّها ستعلم أنّي آسف وهي بين ذراعيّ الآنْ. لحظة وتلاحقت أنفاسها سريعاً, وانطلقت صيحة مهضومة منها.. جعلتني أشدّ على جسدها الهزيل الذي اختفى بين ذراعيّ وأنا أكرّر (آسف).
بحثتُ في كل الغرفة عن شيئ يسكتها.. فلم أجد..!
وقبل أنْ أفكّر إعتليت فراشي, وأخذت أقفز مرّات عديدة, وجسدها الهزيل يرتفع مع كل قفزة. بكت قليلاً ثمّ أصبح بكاؤها أنين خافت تلاشى مع قفزاتي المجنونة. وصوتي العالي الذي يهتف.. ب
ريم.. إضحكي..
ما عادت تبكي , ولكنّها أيضاً لم تصدر أيّ استجابة أكانت راضية أم ناقمة..! ألاّ أنّي لم أتوقّف عن القفز, ولم أفقد الأمل..!
أغمضت عينيّ, ورحت أقفز عالياً وأنا أعدّ قفزاتي في شيئ من الحماسة ..فلا أخفيكم أمراً
أنّ القفز أعاد لي شيئاً من جنوني في القرية..!
صدرت ضحكة عالية من مصدر أعرفه..
نعم أعرفه..
فتحت عيني وقد كانت ريم .. تعتلي بجسدها الصغير وتضرب بكلتا يديها وهي تضحك هكذا تضحك وكأنّها لم تبك يوماً..!
يا الله .. إنّها معجزة..!
قفزتُ مرّات عديدة. مرّات لم تخلو من اللذّة , وهي تطير معي في الهواء ثمّ يرتطم جسدها الصغير بتلك الشراشف الملوّنة. حتّى خارت قوّايْ وارتميت على الفراشْ جثّةْ هامدة جعلت جسدها يطير في الهواء , وهي تضحك.
بعد أن أستعدت أنفاسي دفعت برأسي بين رجليها الصغيرتين , وأغمضت عينيّ بهوادة . شعرت بيدها الصغيرة تمسك شعري بقوّة , وتجول فيه بطريقة عشوائيّة فوضويّة وتشدّ عليه مرّة بعد أخرى.
,,آآآخ,,
وقع الخطوات خارج الغرفة جعلني أعتدل في جلستي , ومتأهّباً لما سأقوله ليقيني أنّها أمّي ..
إقتربت أكثر وفتحت الباب ودخلت..
وآثار تعب بدت واضحة جليّة على تقاسيم وجهها الحنون المتشرّب بالحمرة.. بلا مقدّمات قلت..
_ أمّي.. لقد جعلت ريم تضحك
وافتني بابتسامتها الباهتة , وعيونها الغائصة في التيه..
_ حقّاً..
_ نعم ..
جذبت ريم نحوها , وقالت..
_ وتعلّم كيف تجعلها تحبّك.. لا بدّ أن تحبّك..!
حملتها و خرجت..
تمدّدت على فراشي وتوسّد رأسي كفيّ , وعلامات إنتصار علت وجهي وراحة عجيبة تسللت إلى أعماقيْ..
ما أجمل الشعور بالنصر..
لأوّل مرة أشعر بالحنين لها ,, ريم,, على الرغم أنّا إفترقنا للتو. إلاّ أنّ حديث أمّي أحدث فرقاً في داخليْ . إذ من الآن وإلى أجل غير محتوم سأكون الأخ المحب دائما .
أووه.. كدت أنسى , فلم يبق إلا شهران على السنة الدراسية الجديدة, حيث أنّني سأنتقل إلى مدرسة المدينة بعد أنْ نقل أبي كلّ أوراقي من القرية إلى هنا مودّعاً فيها المقاعد الخشبيّة المهترئة , والزي المدرسي المتواضعْ. تململت في مكاني وأنا أفكّر في الأيّام المقبلة وأيّ ناس سأقابل ثمّ قطع صوت الأذان حبل تفكيري .. الله أكبر .. الله أكبر..
ف نهضت للصلاة..
_ عزيز..
خرجت بعد أنْ فرغت من صلاتي.. قلت ..
_ نعم أمّيْ
قالت وقد استوت بجسدها على الكرسي أمام المائدة..
_ الغذاءْ..
_ أين أبيْ..!؟
قلت بعد أن أتخذت الكرسي المقابل لها. رفعت حاجبيها وعلامة إستفهام كبيرة تلبّست ملامحها ..
_ لا أدريْ..!!!
بعد هذه الإجابة آثرت الصمت وتناولت غذائي.. لم تدار الأحاديث بيننا إلاّ من صيحات ,, ريم,, التي ترفض الغذاء. بعد أن أنهيت طبقي عن آخره حملته لأغسله .. لا أدري لم أشعر أنّ أمّي حزينة وأنّه من حقها عليّ أنْ أساعدها بالشيء القليل والذي ربّما أجيده..!
حين هدأت حرارة الشمس . خرجت للحديقة المجاورة لبيتنا , وهناك إلتقيت ب زاهر جارنا الجديد.. تحدّثنا طويلاً حتى نشأت بيننا علاقة أشبه بالألفة مشوبة برائحة الأصدقاء القدامى. أصدقاء القرية..!
وأنّى لي نسيانهم.. أنّ أصوات ضحكاتهم وكل تلك المغامرات المجنونة لا زال رنينها يطرب أذني وقلبي.. وستظل دائماً..!
كلّ تلك الأحاسيس وافتني دفعة واحدة , وأنا مع ,, زاهر,, ذا العشرة أعوام . كان طويل القامة ونحيل ك أنا . والغريب أنّي وهو نشترك في بعض الصفات لربّما شكّلنا ثنائيّا رائعا في الأيّام القادمة. كنّا منسجمين إلى أن لاح من بعيد أطياف لثلاثة أولاد بدأوا يقتربون شيئا فشيئاً نحونا. لاحظت بوادر خوف شديد على ملامح وجه , زاهر, في حين أطرافه بدأت ترتجف بلا توقف وهو يضغط على كتفي بشدّة , ويقول..
_ عزيز.. إهرب.. إظفر بجلدك
قلت مندهشاً..
_ أهرب..!؟ ممن..!؟
_ من عباس..
وابتعد هارباً.. حتّى صار نقطة سوداء إختفت تحت قسوة أقدام المارّة.. بعد لحظات كانت الأجساد المتفاوتة الإمتلاء ماثلة أمامي.. جسد ضخم وجسدين نحيلينْ..
قال الجسد الضخم بصوت يصطنع الرعب..
_ من أنت..!؟
_ عزيز
قلت ذلك , وتأمّلت وجوههم البائسة المكفهرّة. وجوه تلبّست الأقنعة ورافقت الشياطين هذا ما توهموه , وحسبوه حقيقة..!!
وذاته الجسد الضخم إقترب منّي أكثر حتّى صارت عيناه نصب عينيّ.. قال بتعنتر..
_ أين نقودك..!؟
نظرت له في عجب..وكأنّي لم أفهم لغته تلك.. هذا ما جعل الهيكلين الذين يرافقانه يضحكان بغباء..
_ إنّه غبي كالبقيّة..!
لم أمنع نفسي من إبتسامة ساخرة ظهرت بإصرار على وجهي المدهوش وقلت..
_ لا نقود لديّ..!
ويديّ تفرغ ما في جيبي لا شيئ . هذا ما أثار حنق الجسد الضخم وسدّد لي لكمة قويّة أجّجت براكين غضبي . نظرت لكتلة اللحم الممتدّة بعلو مخيف أمامي , وبادلته اللكمة ذاتها بل وأقوى ممزوجة بحنق وغضب..!
صرخ في وجهي قلب كل موازين فكري الذي إحتار في تلك الأجساد التي جاءت من عوالم أخرى متلبسة المجهول لتسقيني كأس آخر من الحياة ها هنا.. وطوّق يداه حول رقبتي , وضغط بشدّة وعيناه تشتعل غضباً أشعرتني بالضعف , وصعوبة في التنفّس وبلع الريق . ربّما لا أزال أحلم.. كنت سأؤمن بهذا الإحتمال لولا الهيكلان اللذان يصفقان ببلاهة ويهتفان.. ب
يحيا عبّاس يحيا عبّاسْ..!
من التصاق الأكفف والأجساد, وحركة الأفواه العشوائيّة أفقدتني توازني , فهويت على التربة الباردة التي شهدت مصرع الكرامة في هذه المدينة التي ستأخذ منّي الكثير..! تمدّدت بجسدي المنهك على التربة دون حراك بعد أن هرب عبّاس الضخم وهيكليه , وهو يتوعّدني بانتقامٍ آخر أكثر بشاعة..
_ لم يولدْ من يتحدّاني بعد..!
أغمضت عينيّ, وتنفّست بعمق ..قلت في نفسي..
دائماً البداية سيّئة..!
شعرت بيد تنفض ما علق بملابسي من حبّات الرمل التي استعمرتني لحظة سقوطي. قال , زاهر, وهو مستاء..
_ لم لم تهرب..!؟
لم أجبه . ولملت نفسي وقمت مبتعداً بلا كلمة..
صرخ بي من بعيد..
_ إحترس يا عزيز.. ف عباس لن يتركك أبداً
قلت صارخاً..
_ إنّها البداية فقط..!
داهمتني أفكار مخيفة وعلى رأس تلك الأفكار كان الإنتقام لاستعادة الكرامة المغصوبة. ترى هل في داخلي عبّاس آخر..!!؟ لا يهم ف العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلمْ..!
دخلتُ البيت , وهناك وقف , زاهر, متسمّراً يحمّلق في اللاشيء . . بعينين تختزن الكثير..!
إلتقت عيناي بعينيّ ,, أمّي,, المتسائلةْ والتي وقفت خائفة بعد أن رأت حالتي المزرية , وقبل أن تنطق .. قلتُ
_ لا شيء
وابتعدتُ بأوجاع نفسي وجسدي, وثيابي المتسخة إلى غرفتي , وتركت الباب مفتوح..
أخذتُ حمّاماً ساخناً , ومياه سوداء نزلت من جسدي طهّرت تلك المياه أطرافه.. ذكّرتني تلك المياه .. بتلك الأيّام يوم سرقنا أنا وسعيدْ.. ,, حمار حجّي علي ,, وتناوبنا ركوبه حتّى وصلنا عيون الماء , ولولا انفعال الحمار ، وركله سعيد بقوة داخل عيون الماء ، و خوفي الشديد .. ما كان سعيد ليصبخ جثّة هامدة .. و لكانت تلك المغامرة من أجمل ما تكونْ إلاّ أنّها الآن ذكرى حزينة سوداء..!! مسحت الدمعة التي ظفرت وقلت ..
_ رحمك الله يا صديقي ..
آه.. يا ليت الزمان يعودْ.. وسعيد لا يزال حيّا يرزقْ..!
جفّفت جسدي المبلل, ولبست ملابسي , ووقفت أمام المرآة أتفحّص تلك الدائرة الحمراء المتورّمة قرب عيني , ورغبة قويّة في أنْ ألكم عبّاس مرّة أخرىْ..
_ تبّا لك يا عبّاسْ..
تنبّهت لنفسي , وقد وقفت أمّي أمامي متوجّسة , وبين ذراعيها ,, ريم,, التي ما أنْ رأتني حتى بدأت بالضحك والتصفيقْ..
ما أجملكِ..
جلستُ فوق الفراش , وهي اتخذت لها مكاناً بجانبي.. قالت وهي خائفة..
_ عزيز.. من فعل بك هذا..!؟
_ لا أحدْ.. قلت ذلك ويدي تخفي دائرتي المتورّمة..!
تنهّدت تنهيدة قصيرة وقالت..
_ لا تجعل المدينة.. تغيّرك ك أباكْ..!
_ ها .. أ اااا نا..!
نظرتُ لها , وقد اغرورقت عيناها بالدموع. لم تكن المرّة الأولى التي تبكي فيها , فعيونها المتورّمة تنبأ عن عشرات المرّات التي بكت فيها في ظلمة الليالي وحيدة .. فهذا لا يحتاج لأن أكون كبيرا ً لأفهم ذلك..!واسترسلت في حديثها,,
_لم يعد أباك إلى البيت منذ أسبوع ومؤكّد أنّه مع جدّتك تشحن عقله بمواضيع واهية وكلّها ضدّي بلا شك!! لا أعلم لم يصدّقها دائماً وفي نهاية كلّ مطاف أكون المذنبة..! مرّة تقول له بأنّي لا أحبّها ومرّة أخرى أتمنّى لها الموت.. !
بدت كاللبوءة الجريحة وهي تقوم وتقعد.. وتكمل حديثها ..
_ إنّه لا يأتيْ.. وأنا مريضةْ بحاجة لرجل يقف إلى جانبيْ , ويمدّ لي يديه وقت حاجتيْ..
وصمتت هنيهة.. وأنا أحدّق فيها ببلاهة..
قالت وهي تهمّ بالوقوفْ..
_ يا ليتك تكبر سريعاً...!
لمْ يكنْ في عقلي أيّ حديث من شأنه أن يخفّف من وجعها لذا شعرتُ بالغباء والضياعْ ..
ف يا ليتني أكبر سريعاً.. وأكن كما تشائينْ..!!!
كان الوقت منتصف الليل والأمر الذي جعلني أصحو فزعاً وأخرج من غرفتي كان صوت بكاء مرير وصراخْ إنبعث من غرفة والديّ لكن لم تكن ,, ريم,, وحدها بطلة البكاء بل شاركتها أمّي في قالب عزائيْ..!
كنت سأفتح باب الغرفة لولا صوت أبي الغاضب.. لذا تسمّرت مكاني لا أنا أذهب إلى غرفتي , ولا أنا أوقف هذا الصراخ والبكاء الذي علا بلا حيلة منّي. والفضول غلبني لمعرفة الأمر. كانت أمّي تتحدّث وقد إختلطت كلماتها بالبكاء,,
_ أعرف أنّك تخونني ,,
صرخ أبي هو الآخر ..
_ نعم أخونك.. أخونك على الأقل أجد لديهنّ الراحة بلا دموع وتذمّر,,
ازداد بكاء أمّي , وصرخت بقهر..
_ أكرهك.. أكرهك
يومها لم أعرف معنى الخيانة إلا كلمة سيئة جدّاً تجعل أمّي وأبي في حالة صراع دائم ولسنوات طويلة. قال أبي وهو يدير مقبض الباب..
_ سأخرج بلاعودة..!
حين فتح الباب وجدني واقفاً في الحقيقة كنت متجمّداً لا أدري لما لم تسعفنِ رجلاي لحظة قررت الهرب إلى غرفتي وقبل أن ألتقي بوجهه الغاضب. قلت محاولاً تبرير موقفي الغريب
_ ما الأمر..!؟
سمعتُ البكــ ا ا
لم ينتظر إكتمال جملتي .. رمقني بنظرة سريعة وخرج..!
أسرعتُ إلى الغرفة لأجد أمّي قد رمت بجسدها على الفراش باكية والصغيرة في سريرها تبكي هي الأخرى مرعوبة. إذ أنّ الصراخ كان عالياً ما جعلها تصحو من نومها مفزوعة. مدّت يدها مستنجدة إياي
فجذبتها إليّ وأنا أطبطب عليها حتى سكتت أخيراً , ولا زالت عيونها مغمورة بالدموع. مسحتها بيديّ ووضعت رأسها على كتفي محاولة مني تهدأتها لكي تنام.. !
وقفت أراقب تلك المرأة التي أنهارت تماماً على الفراش , وأظن أنّها فقدت الإحساس بكل ما حولها .. أنا و ,, ريم,,.
كانت أمّي تحب أبي لدرجة الجنون إلاّ أنّ العلاقة بينها وجدتي لم تكن جيّدة , فأذكر يوم كنّا في القرية . كانت جدّتي تصرّ على أبي لكي يتزوّج بأخرى ويحرق قلب أمّي . وأمّي بدورها تثور وتنتحب عنده , وتقسم عليه في كل مرة ألا يستمع لها .كانت يتيمة الأبوين منذ زمن بعيد لذا شعرت أنه الملجأ الوحيد لها , وبعده ستشعر بالضياع. والأغرب من هذا والذي عرفته مؤخراً أنّ جدّتي هي الخالة الوحيدة لأمي وهي من ربّتها .فلمّا كبرت أمّي كان لزاماً على أبي الزواج بها حتّى يكون وجودهما في نفس البيت مطمئناً وعن الأقاويل.!
لم تتحرّك أمّي , فظننتها نامت. وريم نامت هي الأخرى لذا ذهبت بها إلى غرفتي لترتاح أمّي قليلاً..
كانت ريم نائمة بهدوء عجيب , وأنا لم أستطع النوم ليلتها لذا جلست بجانبها , ولا أعلم سبب انقباض قلبي إذ لا شيء حقيقي يدعو إلى هذا الشعور ..لكنني الآن خائف ولا أدري لم,,!!؟
إنتظرتُ قليلاً لربّما عاد أبي ونشبت حرب أخرى . لكنّه لم يعد . توسّدت كفّي بجانب ال ريم ولا أدري كيف نمت. الشيء الذي جعلني أنهض سريعاً خيوط الشمس التي هاجمت وجهي متسللة من فتحة صغيرة من ستار النافذة.
أووه .. فاتني وقت الصلاة..!!
لم لم توقظني أمي !؟
كانت الصغيرة لا تزال تغط في نوم عميق. صليت سريعاً , وذهبت أستطلع أمر أمّي. حين وصلت الغرفة كانت لا تزال بوضعيتها كما تركتها البارحةْ إقتربت منّها منادياً إيّاها..
أمّي .. أمّي..
إلاّ أنّها لم تجبن , ولم تتحرّك , وبدت ممسكة بقارورة الدواء خاصتها..أخذتها من يدها أتفحّصها كانت قد تناولتها عن آخرها ..
في ما كانت تفكر.. بحق السماء ..!؟
إنطلقت سريعا للهاتف, أدرت الأرقام بلا تركيز , ورحمة من الرب أنّي أحفظ رقم هاتف أبي..خابرته مرّات عديدة لكنّه لم يجب ربّما ظن أنّها أمّي ، وامتنع عن الإجابة ..!
ماذا أفعل يا الله .!
يا رب..!
قفز لعقلي ,, زاهر,, وانطلقت إليه بلا تفكير طلباً للمساعدة. طرقت بابهم بقوّة , فخرج هو ووالده.. قلتُ بخوف..
_ أمّي لا تتحرّك..!!
لم يترك أبا زاهر وقتاً للتفاصيل حتّى نادى أم زاهر . لحظات وكنّا جميعاً في المستشفى. كانت ال ريم بين ذراعيّ و لا تزال نائمة , وكأنّها نوت الهروب هي الأخرى..!
قالت أمّ زاهر وهي تمدّ يديها إلي..
إعطني الصغيرة لأحملها , فأنت تحملها منذ فترة.. مؤكّد أنّك متعب
لم أشأ مفارقتها إلاّ أنّه لم يكن من الأدب إحراجها , وقد مدّت يديها ..! كذلك شعرت معهم بأنّهم أهلي يكفي أنّهم تركوا كل أعمالهم ووقفوا هنا ساعات طويلة بلا خبر..!
كانت وجوههم القلقة تواسيني , وكلماتهم بين لحظة وأخرى تبعث على نفسي الطمأنينة..
,, لا تخف بني.. كل ّ شيء سيكون بخير إنْ شاء الله..
~ إن شاء الله
قال ذلك أبا زاهر وهو يربت على كتفي محاولة منه لتهدئة نفسي , وخوفي من فقدها .. أمّي..!
وقفنا طويلاً ..بعدها انفتح الباب وخرج الدكتور , لحقه أبا زاهر..
_ دكتور.. ما حال المريضة..!؟
_ الحمدلله.. تعدّت مرحلة الخطر.. كانت قد إبتلعت جرعة زائدة من الدواء.. لكنّنا أجرينا لها عمليّة غسيل للمعدة.. أأنت زوجها..!؟
_ لا جارها..!
_ على كلّ حال .. حمدأً لله على سلامتها..
_ الحمدلله..
ابتعد الدكتور.. وجاء أبا زاهر يبشّرني..
_ عزيز.. أمّك بخير..
هذه اللحظة إرتاح قلبي , وكأني سقطت من علو جبلٍ شاهق..
ألف حمد وشكر لك يا رب..
سأدخل لرؤيتها..!؟
قلت ذلك , وأنا أمرّر بصري بين ابا زاهر وأمّه, وقد أومأ لي هو الآخر, فانطلقت مسرعاً لها.. فتحت الباب ودخلت . كانت لا تزال تحت تأثير المخدّر لكن مجرّد رؤيتها يبعث على الراحة, وأن لم تتكلم هي بخير في النهاية. تناولت يدها بين كفّيّ , وأنا أتأمّل ملامحها المتعبة.. وأسئلة كثيرة شاغلتني حينها , فهل ما حدث بينها وأبي يستحق .. لتحاول الإنتحار هكذا بسهولة..!!
لماذا أمّي .. لماذا..!؟
ألم تفكري فينا.. أنا و ريم.. وكيف ستكون حياتنا دونك .. لا أعلم كيف يفكّرون الكبار.. إلاّ أنّ تفكيرهم ينمّ عن أنانيّة مطلقة , وفي الحقيقة قليلاً ما يفكّرون.!
طرقت الباب , ودخلت كانت أم زاهر , وجاءت تحثّني على الذهاب معهم للبيت, فأمي ستمكث في المستشفى يومان بعد ..تحت الملاحظة في حال حدثت لها أيّ مضاعفاتْ. لم أستطع الرفض لذا ألقيت عليها آخر نظراتي وأغلقت الباب .
في الطريق إستيقظت ,, ريم,, كانت مع أم زاهر في المقعد
الأمامي .. لحظات وعلا صوت بكائها..مؤكّد أنّها إستغربت الوجوه . فلم تكن بين ذراعيّ أمّي , أدارت أمّ زاهر رأسها للخلف لتراني , فمددت لها يديّ حين رأتني الصغيرة هدأت, ونظرت لي , وكأنّها تقول
ها أنت.. وجدتك..!!
ربّما فكّرت أنّها تلعب الغمّاية..!! أمر مضحك أنْ أفكّر هكذا أليس كذلك
تعالي حبيبتي..
و إنطلقت تلك الضحكة الحلوة تطرب صمت المكان.. وقلبي ..!
ياه... هل قلت أنّي أحبّ ضحكتها..!!؟
بل هي أكثر شيئ أحبّه على الإطلاق..!!
الحلقة الثانية..
توقّفت السيّارة عند منظر تلك الصغيرة الباكية ,والتي كانت برفقة زاهر الذي بدا متململاً , فقالت أم زاهر وهي تغادر السيّارة على عجل..
_ وردةْ حبيبتيْ
تبعناها أنا وأبا زاهر وكان جفلاً هو الآخر..
_ زاهر ماذا حدث!؟
_ آه يا أمّي.. منذ أن استيقظت وردة ولم تجدك نذرت نفسها للبكاء ..!
ياللصغار..!!
أخذت أمّ زاهر الصغيرة , ودخلت بها البيت . وبقينا نحن الثلاثة في صمت حتى بادر أبا زاهر..
_ إبقَ معنا للغذاء..
إرتبكت قليلاً ثم قلت..
_ ربّما يعود أبي ولا يجد أحد في البيت..
ربت على كتفي وقال..
_ إفعل ما يريحك.. لكن بيت زاهر هو بيتك , وهو مفتوح لك بني
_ حسناً
ودخل , ووقف زاهر ينظر لي رغبة منه في معرفة ما حدث من عينيّ ثم قال..
_ كيف حال أمّك..!؟
قلت وأنا أشدّ ظهري المتعب , وريم بين يديّ..
_ أنّها بخير.. لكنّها ستبقى في المستشفى ليومين بعد ..
_ الأهم انّها بخير
_ نعم الحمدلله
وافترقنا على أمل اللقاء فيما بعد إذ كان عقلي مشوشاً حينها ولم أعرف كيف أتصرّف أو ماذا كنت سأقول لأبي لحظة عودته أو ماذا سآكل !؟ الخجل فقط ما منعني من أن أبقى معهم أهل زاهر أتنعّم بإحساس العائلة الحقّة..!
وها أنا في غرفتي الآن مع ريم التي بدأت تثرثر بلغة الصغار وهي تضرب الشراشف الملوّنة فوق سريري , وكأنّها تجادل أحداً.
..كان منظرها مضحك..
ساعات طويلة مرّت ولم يعد أبي أو يتّصل بنا وكأنّ ما حدث بينه وأمّي كان حجّة للهرب..! شعرت بالجوع ورحت أفتّش لي وريم عن طعام من الثلاّجة , فوجدت تفّاحتان لا غيرهما كانتا وحيدتين في فراغ الثلاجة.
.. يا إلهي .. لا طعام لدينا..!!
أخذت تفّاحة , والأخرى كانت من نصيب ريم , والتي أخذت تتناولها بنهم. كنت قد عزمت الذهاب إلى بيت زاهر طلباً للغذاء , فقفز زاهر من عقلي يطرق الباب.. حين خرجت .. وجدته واقفاً وبين يديه الطعام الذي أحب ..الدجاج المقلي والأرز , وكأنّه قرأ أفكاريْ، وهرع إلي مسرعا ..!
_ أحبّك زاهر..
قلت ذلك وعينيّ على ذلك الطبق الذي يضم كل ما لذ وطاب.. بينما وقف هو ينظر لي ولم ينطق. شعرت بالخجل ، وهمست له ..
_ تبّاً للجوع
دخلنا ضاحكين, وبعد أن إلتهمت الغذاء . أراد زاهر رؤية غرفتي , فأخذته إليها .. قلت وأنا أفتح الباب
_ لا شيء مدهش فيها !
تحدّثنا كثيراً في كلّ شئ يشغل عالمنا الصغيرهذا ..حتّى شعرت ريم بالملل وأطلقت صيحاتها التي ما أن بدأت لم تنتهِ.. حاولت معها بشتّى الطرق لكي تهدأ , ولا فائدة..
_ إهدئي حبيبتي..
وهي تبكي بلا توقّف , وتقول ماما..!
أوووه .. يا صغيرة لو تعلمين ما حدث لماما.. وفي أي مكان هي الآن..!
حملتها للخارج , وزاهر معي.. أخذت أمسح على شعرها , وهي ما تزال تبكي بحرقة..
بالله .. ما بك يا صغيرة ..!؟
قال زاهر حينها..
_دعنا نأخذها إلي أمّي .. لها قدرة عجيبة على تهدئة الصغار
_ ربّما هي مشغولة..
_ لا .. لا تخف ,, ف أختي وردة لها بالمرصادْ..!
_ حسنا.
وذهبنا إلى أمّ زاهر وقد كانت تجلس مع وردة الصغيرة التي نثرت ألعابها بفوضويّة , وأخذت تلعب بسعادة.حين رأتنا أم زاهر مقبلين وقفت , ولو أني أجزم أنّ صوت بكاء ريم هو ما جعلها تقف..!
قالت بملامح قلقة..
_ ماذا بها..!؟
أجابها زاهر متزعّماً دفّة الحديث..
_ لا ندريْ.. كانت تلعب ثمّ بكت فجأة..!!!
مدّت يديها نحوي , فناولتها ريم , وأنا مرتبك إثر صراخها القويْ.. ف أخذت تتفحّص يديها , ورجليها .. وهي تقول..
_ ربّما عضّها البعوض.. فالجو حار والبعوض منتشر..!
لكنّها سرعان ما أصدرت ضحكتها, وقالت
_ يا للطفلة المسكينة..
قلت بخوف ..
_ ما بها..!؟
_ لا تخف بني.. إنّها تحتاج حمّاماً فقط...!
هدأت نفسي لحظتها ثمّ تنبّهت ل زاهر الذي أخذ يشدّ يدي ويقول..
_ دعنا نلعب في الخارج
إلاّ أنّي وقفت أنظر لأم زاهر التي طلبت منّي أن أجلب لها بعض ملابس ريم, فخرجت مسرعا حيث منزلنا , وجمعت كل ما سقطت عليه عينيّ من ملابس وأغراض تخصّ ريم وعدت بالسرعة ذاتها.. أخذتهم أم زاهر وهي تبتسم قائلة..
_ يا لك من أخ حنون.. سوف تكون ريم محظوظة بك..
إحمرّت وجنتاي خجلا, وتسمّرت في مكاني قليلا ،وابتسامة راضية لونت وجهي المتعب, فكم أحب المدح , فهو يبعث في نفسي الراحة ، ولا أسمعه كثيرا .. سمعته من أمي أول مرة .. وهذه المرة شعرت بها مختلفة ..
.. كم أنت حنون يا عزيز.. نعم
_هيّا يا عزيز..قبل مغيب الشمس
كان زاهر يشدّني للخارج, وأنا في عالم آخر. بينما أم زاهر تلوّح لنا، وتحثّنا على الذهاب.
خرجنا وتركت ريم في مكان أستطيع أن أأتمن أهله عليها , فليس الأهل من تربطنا فيهم صلة الرحم والدم بل من يقفون معك في أحلك أيّامك.
وأيّ أهل لديّ أنا ..
عم طمّاع سرق ما سرق من الثروة التي تركها جدّي مناصفة بينه وأبي وجدّتي التي لا تترك فرصة إلا واستغلّتها ضد أمي. وأب هارب . هؤلاء كل ما أملك..!
لعبنا بالكرة في الحديقة القريبة حتى أنهكنا التعب والعرق, إذ أنّ الجو كان حارقاً جدّاً سبّب لنا الإعياء , فرمينا بجسدينا على الرمال لنستعيد طاقتنا المهدورة قبل ذهابنا للبيت. أوشكت الشمس على المغيب, ونحن لا نزال على وضعنا لم نتحرك. حتى علا صوت الأذان, فانتفضنا واقفين.
حين عدنا كانتا الصغيرتين تلعبان برضا وسعادة. وقفت أم زاهر بجانبهما تستعد للصلاة.. لم أشأ إزعاجها , فاستأذنت زاهر للذهاب إلى البيت، واتفقنا أن نلتقي بعد السباحة والصلاة.
لم أكن حزيناً ك الأمس ربّما خائفٌ من المجهول لكن لست حزيناً. عند عودتي مرّة أخرى وافتني ضحكة ريم التي أحبّها وكأنّها موسيقى ما تطرب مسمعي. وقفت قرب الباب ،ف وجدتها من بعيد لا تزال تلعب مع وردة. حين رأتني أم زاهر دعتني للدخول.
ذهبت هي إلى المطبخ كما قالت.
ووقفت أنا بجانبهما،وهما تلعبان , ولما انتبهت ريم لوجودي أطلقت ضحكتها المرحبة إياي, في حين وردة رمقتني بنظرة وابتسامة صغيرة. شعرت أنّها طفلة نبيهة أو ربّما لأنّي لم ألتق بأطفال في مثل عمرها قط. قلت مداعباً إيّاها..
_ سألعب معكما
لم تنطق , فاعتقدت أنّها لم تسمعنِ , فعاودت قولي..
_ أود اللعب معكما..
نظرت لي , وهي تصنع بيتاً من مكعبات بلاستيكيّة, وقالت..
_ لا
قلت , وقد تقوّس فمي..
_ لم..!؟
لم تجبْ , وضلّت تصنع البيت باهتمام, وريم تعبث بالدمية.. جاء زاهر منادياً إيّايْ ..ولمّا رأته وردة قالت لي..
_ إلعب مع زاهر هو كبير بحجمك..!
نظرت لي وهي تبتسم, إلاّ أنّه هالني طريقة تفكيرها , وردّها الذي جاء يغيّر الفكرة التي غُرست في عقلي منذ جاءت في عالمي ريم والتي تقول أنّ الأطفال لا عقل لهم.. فقط دموع..!
فكرة محطّمة اليس كذلك..!!
لكنّها قد تغيرت بفضل عقل الفذّة وردةْ والتي دخلت عقلي منذ الآن.
وفي غرفة زاهر طال تأمّلي في تلك السيّارات الألكترونيّة , والتي ترتبت بجانب بعضها بعضا الصغيرة منها والكبيرة , فلا أذكر يوماً أن ابتاع لي أبي سيّارة إلكترونيّة أو أيّ شيئ من شأنه أن يكون هديّة لولدٍ صغيرْ . فكم كانت غرفتي فارغة إلاّ من سرير وطاولة ومرآة أرى فيها وجهي كل صباحْ..!
كانت باهتة أو هكذا شعرت وأنا اتأمّل كل تلك الأشياء الملوّنة منها والسوداء , والتي أثّثت غرفة زاهر بطريقة تجعلك تتأملها بلا ملل.
قال زاهر , وهو يتوسط سيّاراته الإلكترونيّة..
_ إختر واحدة , ولنبدأ التحدّي
مرّرت نظري عليها كلّها , وتناولت واحدة بلا تدقيقْ , وبدأنا اللعب . ساعات طويلة قضيناها نلعب بين مهزوم ومنتصر وضحكاتنا العالية تقطع حدّة صراخنا .حتى جاءني صوت بكاء ريم مخترقاً الباب المغلق وعلى إثره وقفت قلقاً . فاستغلّ زاهر وقوفي وانقضّ بسيّارته محطّماً سيّارتي التي تقلّبت بقوّة. وصرخ فرحاً..
_ لقد هزمتك.. أنت مهزوم.
في الحقيقة لم يكن في عقلي حينها إلاّ صوت البكاء المنبعث من الخارج . قلت ل زاهر..
_ ريم تبكيْ..
_ لا تغيّر الموضوع.. لقد هزمتك..
قال زاهر ذلك , وهو يمسح على سيّارته التي بدت لامعةْ..
_ لا زاهر .. أنا قلق عليها .. أريد الذهاب لرؤيتها..
وقبل أن نخرج أنفتح الباب , وكانت وردة تمسك بيد ريم التي أغرقت خدّيها بالدموع , وكانت خائفة.. قالت وردة وهي تقترب إليّ بها..
_ لم أؤذها.. لكنّها تريد ماما
حين سمعت ما قالته وردة , فتحت ذراعيّ على اتساعهما , فركضت ريم إليّ باكية وارتمت في حضني ما كان منيّ إلاّ أن طوّقتها بحنان
_أتريدين ماما..!؟
ستأتي قريباً,,!
_أتريدين اللعب بالسيّارات ها..؟,,
قلت لها ذلك , وأنا أرفع السيّارة المقلوبة, فمدّت يدها باهتمام..وجذبت السيّارة إليها.
ضحك زاهر , وقال ..
_ أتريدها أن تشهد هزيمتك مرّة أخرى..!؟
_ لا تضحك كثيراً.. كنت سأهزمك لو لا صوت بكاء ريم حينها..
_ لا تحاول..هزمتك على أية حال..!
وضحكنا..
جلست ريم في حجري , ولم يبدو عليها أنّها تنوي النهوض , في الواقع كنت أستمتع بوجودها قربي . وقفت وردة قليلاً ثمّ ذهبت مسرعة , وعادت وقد جمعت بعض ألعابها, وتوجهت نحو زاهر الذي زجرها بعنف حين حاولت أن تجلس في حجره.
صراخ زاهر جعلها تبكي متألّمة , وكأنّه جرح قلبها.. وقد جرحه فعلا.. قلت
_ ماذا بك زاهر أنّها مجرّد طفلة..؟
قال وهو يتأمّلها بغضب..
_ والأطفال.. ليسوا من ضمن إهتماماتي..!
,, لا أعلم متى ستكبر.. هي في الخامسة الآن .. ولا زالت تتصرّف ببلاهة..!
_ هونك زاهر.. !!لا زالت طفلة..!
قلت ذلك وأنا أمدّ لها يدي..
_ تعالي
جاءت , وهي تحمل ألعابها بين يديها الصغيرتين ,وأجلستها بحجري بجانب ريمْ.. وقد تبادلتا الضحكات والألعاب. فجأة ودون سابق تخطيط أصبحت أمّاً ثانية لطفلتين , وعليّ تدليلهما دائما, فدموعهما تضعفاننيْ..!
قال زاهر , وهو يتأمّل منظرنا..
_ ماما عزيز.. أريد أن أجلس في حجرك أنا كذلك..
إبتسمت , وأنا أشعر بالمسؤوليّة إتجاه هاتين الآدميتين القزمتين. صحيح أنّ حجمهما صغير لكنّ الإهتمام بهما يتطلّب مسؤوليّة كبيرة , وكبيرة جدّاً.
طرقت أمّ زاهر الباب, ودخلت , توقفت تتأمّل منظر الصغيرتين وأنا ..وهي تبتسم
قالت ..
_ هيّا للعشاء يا صغار
كنّا صغاراً حقّاً لكنّني بالنسبة لهما الصغيرتين الأخ الكبير.. وهذا يكفي..!
مرت الأيام الثقيلة ،وعادت أمي إلى البيت ، وإن كنت أراها لا تزال متعبة إلا أنها الآن بخير ، وقد زال الخطر ..
ساعدتها أم زاهر على الإستلقاء فوق فراشها .. وأنا بقيت أنتظر ، وقلبي يخفق بقوة لم أكن متأكدا حينها سبب ذاك الخفقان .. أهو الفرح ..!؟ أم الخوف !؟ لم أكن أعلم ..!!
إنتظرت قليلا بعد أن دلفت أم زاهر إلى المطبخ لتعد طعاما خفيفا لأمي .. واستجمعت كل قواي وفتحت الباب ..
كانت نائمة أو هكذا ظننت من منظر العيون المغمضة ..لكنها لم تكن كذلك .. لما هممت بإغلاق الباب نادتني ..
_ عزيز ..
تنبهت لصوتها ، ودخلت بعد أن أغلقت الباب خلفي .. أشارت لي بجانبها ، وجلست ..
أخذت يدي بين كفيها ، وفوق وجهها المتعب إرتسمت الكثير من التعابير ..
_ كيف حالك؟
_ أنا بخير أمي .. وأنت..!؟
_ الحمدلله
قالت ذلك ، ومررت يدها حول وجهي ، وكأنها تعاود استذكار ملامحي ..
_ إشتقت لك وريم ..
_ ونحن كذلك أمي .. ونحن كذلك ..
واختبأت في حضنها أبكي .. كانت فرصة لأن أبكي ، وأذرف كل الدموع الحبيسة كل تلك الأشهر التي مضت ..
_ إشتقت لحضنك أمي .. ولأن أبكي ..!!
قالت وهي تمسح فوق شعري..
_ أنا آسفة .. إغفر لأمك المتعبة زلاتها ..
طرق الباب قطع حبل العتب .. وكأنه يقول .. هذا الموضوع إنتهى . . ويجب أن يكون ف طي النسيان .. وقد نسيته .. أو تناسيته ..
قالت أم زاهر وهي تطل برأسها من خلف الباب مبتسمة ..
_ الطعام جاهز . .
إستأذنت بحجة الذهاب لرؤية ربم .. وخرجت مسرعا قبل أن تلمح أم زاهر دموعي ..
لا أدري لما كنت أعتقد أن الرجال لا يبكون .. !!
بعد يومين رتب أبا زاهر رحلة إلى مزرعة العائلة محاولة منه لتغيير جو الكآبة الذي تعرضنا له مؤخرا .. في البدء لم توافق أمي متعذرة بأبي لكنها وبعد إلحاح أم زاهر وافقت في النهاية ..
في الحقيقة كنت بحاجة لهذه الرحلة ..كنت أريد استنشاق هواء نظيفا .. كنت أريد التنفس ..!!
في الصباح إنطلقنا ، ووصلنا قرابة المساء.. إستقبلنا جد زاهر لأبيه بحفاوة والجميع .. لم نشعر بالغربة ونحن بينهم ، وهذا جعلني أستنشق جرعات كبيرة من الهواء .. وأزفرها ببطئ ..
جلس الجميع في الخارج إذ كان الجو لطيفا ، والحديث المدار كان شيقا ، ف جد زاهر هو من استلم دفة الحديث هذه المرة .. حدثنا عن حياته التي بدأ فيها فقيرا معدما ، ويتيما لم يجد منذ أن عرف الحياة يد أب تمسح فوق رأسه ، وتربت على كتفه .. كنت أصغي له مهتما ومتأثرا إلا أن الجميع لم يكونوا كذلك ..
همس لي زاهر..
_ عزيز .. قم لنرى الطيور
_ إصمت .. جدك يتحدث ..
_ وماذا في ذلك .. هذه القصة ستسمعها كثيرا .. أنا أحفظها عن ظهر قلب .. سأخبرك بها لاحقا .. قم الآن ..
_ لا
رضح لأمري متململا ،وهو يتمتم بعبارات جده اللاحقة ..بينما عدت بنظري للجد الذي غاص إلى أعماق روحي بحديثه .. ولا أدري لما شعرت أنه يتحدث عني بشكل أو بآخر .. الفرق أن أبي .. هو الحي الميت..!!
حتى قطع روعة الحديث صوت الصراخ الذي جاء من صوب النساء.. والذي علا في اقترابه .. كانتا أمي وأم زاهر .. جاءتا مذعورتين..
_ وردة وريم ضاعتا ..
إنتفضت واقفا والبقية ، وكأن صاعقة ما ضربت جسدي المرتعش ..
_ هااا .. ريم ووردة ..!!
حالة استنفار اجتاحتنا حينها ، وانطلقنا حيث كانتا قبلا.. جاءت إبنة عم زاهر الصغيرة.. وهي تشير لجهة ما ..
_ لقد ذهبتا هناك ..
_ هناك..!؟ أين..!؟
_ هناك حيث الأرانب. .
_ أي أرانب .. بالله عليك..
كانت تجري ونحن نتبعها مذعورين .. حتى خرجنا من حدود المزرعة للمزرعة الأخرى .. حينها قال جد زاهر.
_ يا الله .. إنها مزرعة أبا فاضل ..
لديهم كلااب حراسة..
_ هااا
قلت ذلك وأسرعت كالمجنون .. وألف فكرة مميتة أدارها عقلي تلك الساعة .. شعرت بأني سأفقد الوعي ..
وصلت قبل البقية لبوابة المزرعة كانت مقفلة ، ف خمن جد زاهر أنهما لم تأتيا هنا .. كنا سنستأنف المسير لو لا صوت بكاء ريم الذي جاء من خلف سور المزرعة ..
_ ريم .. ريم
هذا صوت ريم لم أكن أتخيل ، ولم أكن لأخطئ صوتها ..
طرقنا جميعا بكل ما حولنا البوابة الصلبة .. وأنا أناديهما ..
_ رييييم .. وردة
فجأة فتحت البوابة .. خرج الرجل العجوز ، وأسرع إليه جد زاهر..
_ الحاج مسعود ..صديقي
نعتذر عن الإزعاج .. لكن .. وقبل أن يكمل جاء العامل الآسيوي ومعه ريم و وردة وبين يديها صندوق كرتوني صغير.. وخلفهم كان عباس صاحب الجسد الضخم..!!
لما رأتني ريم جاءت راكضة إلي ، وتبعتها وردة .. قال الحاج مسعود .. الحمدلله أن حفيدي عباس رآهما .. كانتا خائفتين وتبحثان عن أرانب.. !!
وأكمل ضاحكا .. تبحثان عن الأرانب .. والصغيرة تخافها ..
لم ينطق عباس إلا أن عينيه قالتا كلاما كثيرا ، وهو يسدد لي نظرات ملتهبة ..
واقعا لم أكن مستعدا له .. قلبي لا زال متعبا ..!!
مدت لي ريم يديها ، فأخذتها لأعلى ، وعدنا بعد أن شكرناهم .
في الطريق كانت ريم بين ذراعي ووردة تمشي بجانبي بينما البقية تقدمونا .. ولم يعاتبهما أحد .. هما طفلتان على أي حال ..
قلت لوردة..
_ لم خرجت وريم ولم تخبري أحدا!؟ .. أنا علي الأقل..!
لم تجب ، وركزت نظراتها على الأرنب الصغير في الصندوق بين يديها .. لذا لم أتوقع منها إجابة . .
وواصلت حديثي..
_ من الخطأ أن يخرج الصغار دون إذن الكبار ، ولا بد أن يكون معهم شخصا كبيرا.. خصوصا في الليل ..
لم تبدو ع ملامحها رغبة في الحديث خصوصا بوجود الأرنب ..
قلت وأنا أشد على كتفها وجسد ريم ..
_ أتعرفان أني كنت سأموت دونكما..!؟
ترى .. أتعرفان ..!؟
في المزرعة إستقبلتنا النساء بفرحة مشوبة بالدموع .. أمي وأم زاهر ترأستا قائمة الندبة ..
ناولتهن الصغيرتين ، وأنا أهم بالإنصراف جاءت تشد ثوبي تلك الصغيرة ..
توقفت ..
_ ماذا بك يا وردة ؟
قالت ، وقد إغرورقت عينيها بالدموع
_ آسفة ..
_ هااا ..
وربي هي تفكر كالكبار .. وتعتذر..!!
وضعت وجهها الملائكي بين راحتي ، وقلت محاولا تهدئتها ..
_ لا عليك يا صغيرتي .. لا عليك ..
هيا اذهبي للداخل .. ماما تنتظر.. وابتعدت أنا بينما وقفت هي مكانها قلقة..
ما كان مني إلا أن عدت لها مجددا ..
_ ماذا بك الآن..!؟
لم تنطق . . أمسكت يدها لأدخلها البيت ، وقد تقوس فمها.. قالت ببؤس
_ لم أكن أريدك أن تموت ...!!
. تأملتها برهة ..
_ تعالي
إرتمت ع صدري بثقل وجعها .. أقلت وجعها !؟
لا أعلم بما كانت تفكر ، وقد إختلطت ملامح وجهها الملاك بخوف وقلق الكبار أو هكذا تخيلت ..!
_ سامحيني ي صغيرتي ..
لم تتغير ملامح الحزن على وجهها إلا أنها استدارت هذه المرة ودخلت للبيت دون كلمة ..
وعدت أنا الآخر حيث البقية .. جاءني زاهر مسرعا..
_ عزيز
_ ها
_ عباس يا عزيز .. عباس
_ ماذا به؟
باستياء قال ..
_ أنسيت ما حدث بينكما قبل أيام؟
_ لا لم أنس .. لم أنس