اقترح الكونت برنادوت -عبر خطته للسلام في 27 يونيو/حزيران 1948- بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من القتال أو طردتهم القوات اليهودية إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم، فاغتيل في 17 سبتمبر/أيلول 1948م على يد منظمات صهيونية، حسب كتاب جديد.
مؤلف الكتاب السويدي يوران بورين يحمل نسخة من الترجمة العربية
ارتبط اسم الدبلوماسي السويدي الكونت فولك برنادوت بأحداث عام 1948م في فلسطين، والصراع الذي دار ولا يزال بين العرب الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الذين تدفقوا إلى فلسطين في العقود القليلة قبل النكبة، وقد انتهت تلك الأحداث بأحداث النكبة والتهجير في فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل.
وفي كتابه "جريمة اغتيال الوسيط الدولي في فلسطين/الكونت فولك برنادوت" (2022) الذي صدرت ترجمته العربية حديثا بترجمة سامح خلف عن اللغة السويدية، يقدم الكاتب السويدي يوران بورين تفاصيل دقيقة ووافية عن الظروف والأحداث التي سبقت حادثة الاغتيال، وما تبعها من تحقيقات وشهادات تلقي الضوء على كثير من تفاصيل ما حدث في فلسطين آنذاك.
ويكشف المؤلف في كتابه عن الأسباب والدوافع الظاهرة والعميقة التي أدت إلى انحياز الرأي العام الغربي عموما إلى الجانب الإسرائيلي على حساب الطرف العربي الفلسطيني.
كتاب "جريمة اغتيال الوسيط الدولي في فلسطين/الكونت فولك برنادوت"
وعن بدايات اهتمامه بقضية رئيس الصليب الأحمر السويدي فولك برنادوت، يقول يوران بورين "كنت مهتما بتاريخ الصراع في فلسطين ثم صادفت اسم الكونت فولك برنادوت، وقد تبيّن لي أنه بذل مجهودا كبيرا لكنه نُسي تماما، وهذا ما أثار فضولي في قضيته"، وأضاف بورين للجزيرة نت "حقق الكتاب نجاحا كبيرا عند صدوره عام 2012 ولقي تقييما جيدا. بالمقابل، يبدو أن الموضوع لم يكن مريحا للبعض".
ويقول الناشر والمترجم سامح خلف في حديثه للجزيرة نت "أعتقد أن هذا الكتاب وثيقة مهمة تلقي الضوء على جوانب قد لا تكون معروفة بما يتعلق بالمقدمات والأحداث العاصفة التي أدت إلى جريمة الاغتيال".
الناشر والمترجم سامح الخلف يعدّ الكتاب وثيقة مهمة في تناول الأحداث التي أدت إلى جريمة اغتيال الوسيط الأممي
الوسيط المقتول.. سيرة شخصية
يذكر الكاتب أن الكونت فولك برنادوت ولد في ستوكهولم في الثاني من يناير/كانون الثاني 1895م، وكان ضابطا في الجيش السويدي ورئيسا للحركة الكشفية، وهو أحد أفراد العائلة الملكية السويدية، فجدّه ملك السويد والنرويج أوسكار الثاني (1829-1907م)، واختارته منظمة الأمم المتحدة في 20 مايو/أيار 1948م ليكون وسيطا في فلسطين بين العرب واليهود بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
واستطاع أن يحقق الهدنة الأولى بين الطرفين في 11 يونيو/حزيران 1948م، ويشير المؤلف إلى أن بعض صفات برنادوت الشخصية لعبت دورا إيجابيا في النشاطات التي جعلت منه شخصية مشهورة عالميا، فقد كان منفتحا وصادقا وبعيدا عن التصنع، ولا يمكن الشك في ازدواجية مواقفه.
وردّ الكاتب تلك الصفات إلى البيئة التي نشأ فيها، فهو ينتمي إلى النخبة الاجتماعية العليا ببلاده.
لقد أعدمنا الكونت برنادوت
يقول الكاتب إن برنادوت اطلع على أحوال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا في شهر سبتمبر/أيلول 1948، ويضيف أن أعدادا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الفارّين من جراء الصراع أصبحوا يعيشون ظروفا مأساوية ويقيمون في الخيام والعراء وقد سلب منهم كل شيء باستثناء ملابسهم التي يرتدونها.
وتجدر الإشارة إلى أن وسيط الأمم المتحدة أبدى اهتماما بالغا بوضعهم، وكان قد عزم على طلب مساعدات دولية من أجلهم.
ويستشهد الكاتب في توصيفه لأحوال اللاجئين بما ورد في رواية "صباح في جنين" للمؤلفة الفلسطينية الأميركية سوزان أبو الهوى "أربعون جيلا من الذكريات والأسرار والفضائح. كل ذلك جرفه إحساس أناس آخرين بأحقيتهم بالمكان، أناس سيستوطنون الفراغ ويعلنون أن كل شيء، كل ما تبقى من فنون العمارة، والحدائق والآبار والزهور ومشاعر الراحة، كل ذلك ملك ليهود أجانب قدموا من أوروبا وروسيا والولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم".
وعن تأثير اغتيال الكونت برنادوت على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، يقول المؤلف في حديثه للجزيرة نت "نعم، أنا مقتنع بذلك. لقد أدركت الحكومة الإسرائيلية أنه سيكافح بقوة من أجل قضية اللاجئين، وهي مسألة عزيزة على قلبه، وفي رأيي إن اهتمامه بقضية اللاجئين كان السبب الذي دفع الحكومة الإسرائيلية إلى أن تترك المجال مفتوحا أمام القتلة من عصابة شتيرن. وهكذا، بعد التخلص من برنادوت، اختفى اللاجئون وقضيتهم بعيدا".
ويشير المؤلف إلى اقتراح برنادوت -عبر خطته للسلام في 27 يونيو/حزيران 1948- بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من القتال أو طردتهم القوات اليهودية إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم.
وأثارت هذه الاقتراحات حفيظة اليهود فاتفقت منظمة "أرغون" الصهيونية التي كان يرأسها رئيس وزراء إسرائيل (فيما بعد) مناحيم بيغن (1913-1992)، ومنظمة "شتيرن" برئاسة رئيس الوزراء (لاحقا) إسحق شامير (1915-2012) على اغتيال الوسيط الأممي السويدي الكونت برنادوت، ونُفّذت بالفعل حادثة الاغتيال في 17 سبتمبر/أيلول 1948م، ورحل الكونت عن عمر ناهز 53 عاما.
وحين سمع مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) سولز بيرغر، مساء يوم 17 سبتمبر/أيلول 1948، نبأ الاغتيال دوّن على الفور ومن دون تردد في مذكراته: "منظمة شتيرن".
برنادوت.. الوصية الأخيرة
يؤكد يوران بورين أن برنادوت كان مدركا تمام الإدراك للمخاطر التي يعرض نفسه لها، ويقول الكاتب إنه كان هناك تصور عام داخل القيادة الإسرائيلية بأن برنادوت يشكل تهديدا على وجود إسرائيل.
لذلك، وقبل سفره الأخير إلى فلسطين -حسب المؤلف- اتفق مع زوجته إستيل على جميع إجراءات الجنازة؛ في حال عدم عودته حيا. وحسب الاتفاق، ينبغي أن تكون الجنازة بسيطة، وأن يقتصر الحضور على عدد قليل من الكشافة، وألا تلقى أي خطب، باستثناء كلمة القس.
ويبيّن الكاتب أنه في اليوم التالي لاغتيال برنادوت، تلقت الصحافة الرسالة التالية "إننا نعتبر أن جميع مراقبي الأمم المتحدة أعضاء في قوات الاحتلال الأجنبية، ولا يحق لهم الوجود في أراضينا". وأشار بورين إلى أن عصابات"شتيرن" التي أسسها البولندي أبراهام شتيرن (1907-1942م) شنّت عمليات عسكرية ضد قوات الانتداب البريطاني، وهاجمت القرى العربية وخطوط السكك الحديد، وذلك من أجل إجبار البريطانيين على القبول بقيام دولة يهودية من خلال الإرهاب، ونتيجة ذلك قتل شتيرن نفسه على يد البريطانيين عام 1942، وردّت منظمة شتيرن بقتل اللورد موين في القاهرة؛ الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، عام 1944، وهو بالنتيجة الممثل الأبرز لسلطة الانتداب.
وعلق رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل (1874-1965) مستنكرا "الجريمة المخزية" رغم جهود بلاده من أجل مستقبل الصهيونية.
الأمين العام للأمم المتحدة.. الدور المشبوه
يعود يوران بورين للحديث عن الدور الذي لعبه الأمين العام للأمم المتحدة تريغفه هالفدان لي، في الفترة من عام 1946حتى 1952، فالأمر الذي لم يكن برنادوت يتخيله هو أن يعمل رئيسه المباشر ضده سرا بالتعاون مع إسرائيل.
ويذكر الكاتب أن تريغفه لي (1896-1968) كان مؤيدا بشدة للصهيونية، ومنحازا بالكامل إلى الجانب الإسرائيلي، ومن المؤكد أنه لم ينظر بعين الرضا إلى شروع فولك برنادوت في تجاهل قرار تقسيم فلسطين رقم 181.
وأضاف بورين "قبل أن تتبنّى الجمعية العامة قرار التقسيم بزمن طويل، انحاز الأمين العام علنا لفكرة التقسيم، وتفاوض بلا خجل مع الوكالة اليهودية، وقال لوفدها: لا يوجد حل آخر، يجب أن تنشأ دولة يهودية".
المؤرخون الجدد.. تصحيح التاريخ
يقول المؤلف في كتابه إنه على مدى 3 عقود أعقبت إنشاء "دولة إسرائيل"، كان هناك في العالم الغربي، كما في إسرائيل، تصور -لم يخضع للنقاش- للأحداث وفق الرواية الإسرائيلية الرسمية، تضمن الادّعاء بأن "الأمم المتحدة قررت إنشاء دولة يهودية، فلم يقبل العرب بذلك، وهاجموا على الفور اليهود والمستوطنات اليهودية، وتصرفت القوات اليهودية بشكل دفاعي باستمرار، ولم تهاجم الفلسطينيين ما لم تتعرض لهجوم".
ويوضح بورين أن الباحثين الإسرائيليين في الثمانينيات بدؤوا -بمساعدة وثائق الأرشيف التي أتيحت حديثا- التشكيك في هذا التصور؛ منهم بيني موريس صاحب كتاب "ولادة مشكل اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949″، حيث يعترف هذا المؤرخ بأن ولادة المأساة الفلسطينية مرتبطة بسياسة التهجير القسري التي اعتمدتها الحركة الصهيونية.
وكذلك إيلان بابيه من جامعة حيفا الذي عنون أحد كتبه حول الموضوع بـ"التطهير العرقي لفلسطين"، وآفي شلايم اليهودي ذو الأصل العراقي صاحب كتاب "الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين"، وسيمحا فابلان صاحب كتاب "ولادة إسرائيل: الأسطورة والواقع"، وتوم سيغيف وآخرون ممن عرفوا باسم "المؤرخين الجدد"، إذ أكدوا بالوثائق قصة مختلفة تماما عن الرواية الإسرائيلية الرسمية.
ويرى الكاتب أن الحركة الصهيونية بدأت تتعرى بفعل دور نخبة قليلة من "المؤرخين الجدد" حاولوا استعادة مقدمات المأساة الفلسطينية بعيدا عن تأثير الدوائر الرسمية الصهيونية.
وحسب الرواية الجديدة، يؤكد بورين أن القوات اليهودية لعبت دورا بارزا في دفع الفلسطينيين إلى الفرار، "وكثيرا ما نُسفت القرى وسُوّيت بالأرض لإفساح المجال أمام إقامة المستوطنات اليهودية، وأفرغت المدن الكبيرة من سكانها العرب واحتل المهاجرون اليهود منازلهم".
من جهته، يقول البروفيسور خالد الحروب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة نورثويسترن "مع الأسف كان الصوت الفلسطيني مغيّبا بسبب العنصرية الأكاديمية وتجاهل صوت الضحية، فالإسرائيليون كانوا الجلاد والمستعمر الذي يصوغ خطاب وتاريخ الشعب الواقع تحت الاحتلال".
وأضاف في حديثه للجزيرة نت "إن المحتل الإسرائيلي لا يحتل فقط الأرض ولكنه يحتل التاريخ والخطاب ويحتل الوصف وتصدير هذا الوصف للعالم، وهؤلاء المؤرخون تجرؤوا ونقلوا جزءا من التاريخ المسكوت عنه".
الأكاديمي الفلسطيني خالد الحروب يرى أن الصوت الفلسطيني كان مغيّبا بسبب العنصرية الأكاديمية وتجاهل صوت الضحية
برنادوت.. في غياهب النسيان
يلفت المؤلف إلى أن السلطات السويدية كانت ساخطة على الإسرائيليين لأنهم لم يظهروا في رأيها أدنى اهتمام بإلقاء القبض على القتلة، ويعتقد بأن هذا السبب وراء تأخر السويد كثيرا عن الدول الغربية الأخرى في الاعتراف بإسرائيل.
وفي نهاية المطاف قدمت الحكومة الإسرائيلية أخيرا اعتذارا رسميا للسويد، ثم طبعت العلاقات بين الجانبين، ودفنت قضية برنادوت في غياهب النسيان، فهل يعني ذلك أن تأثير قضية فولك برنادوت على العلاقات السويدية الإسرائيلية انتهى تماما؟ يجيب المؤلف للجزيرة نت "نعم، يمكن للمرء أن يقول ذلك".
وأما موقف العائلة المالكة السويدية فهل تغير من إسرائيل؟ يقول يوران بورين "أعتقد أن العائلة المالكة لا تزال تحافظ على مسافة معينة". ويشدد الكاتب على أنه بعد أكثر من 60 عاما من الصمت والمراوغة، حان الوقت لتصحيح التاريخ حول دور الحكومة الإسرائيلية في قضية برنادوت.
والمؤلف السويدي يوران بورين (Göran Burén) ولد عام 1946 في محافظة يوتيبوري غربي السويد، درس علم الاجتماع والدراسات الأدبية والتاريخ في جامعتي "لوند" و"أوميو".
وقد برز بورين في البداية كاتبا روائيا فنشر عددا من الأعمال الروائية، وذلك قبل أن يتجه إلى الكتابة في المواضيع التاريخية، وفي عام 2012 صدر كتابه هذا "جريمة اغتيال فولك برنادوت" (Mordet på Folke Bernadotte) الذي أصبح مرجعا مهما عن قضية الاغتيال المروعة هذه التي عُدّت واحدة من أبشع جرائم الاغتيال السياسي.
وفي عام 2017 صدر للمؤلف أيضا كتاب آخر بعنوان "القيمة المتساوية لجميع البشر" (Alla människors lika värde)، وهو كتاب يتحدث عن عن واقع اللاجئين الفلسطينيين.