تدل أطلال "التيبيروس" التونسية على اعتماد التنظيم العمراني منذ العصور الغابرة (الأناضول)
على بعد 10 كلم من مدينة الدهماني في محافظة الكاف شمالي غربي تونس، تنتصب أطلال موقع التيبيروس الأثري لتروي تاريخ مدينة تعاقبت عليها أمم وحضارات منذ عصور ما قبل التاريخ.
المكان الذي أصبح الآن يسمى "مدَيْنَة" (تصغير كلمة مدينة)، يعود إلى عهد الإمبراطور الروماني الثاني تيبيريوس (حكم بين عامي 14 و37 م)، وكان ملجأ للعائلات الفينيقية الثرية التي هربت من بطش الرومان.
تبعد التيبيروس نحو 190 كلم عن العاصمة تونس، وهي قرية نوميدية (نسبة لمملكة نوميديا الأمازيغية القديمة في شمال أفريقيا) أصبحت تحت نفوذ إمبراطورية قرطاج أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، وتقع على الطريق الرابطة بين قرطاج وتبسة (بالجزائر)، وازدهرت في عهد الإمبراطور الروماني هادريان (حكم بين عامي 117 و138 م).
وتدل آثارها، التي تمتد على مساحة تقدر بمئتي هكتار، على اعتماد التنظيم العمراني منذ العصور الغابرة، وعندما استوطنها الرومان جعلوا منها مدينة كبيرة ومركزا تجاريا مهما.ويشير ممثل المعهد الوطني للتراث بالكاف (حكومي) عبد الكريم الأبيري إلى أن المواقع الأثرية التي تزخر بها المحافظة لعبت دورا اقتصاديا وتاريخيا ومعماريا خلال الحضارات التي تعاقبت عليها، مثل مائدة يوغرطة (بمدينة قلعة سنان الحدودية مع الجزائر والتي تبعد نحو 235 كلم عن العاصمة تونس) والمقابر الجلمودية بمدينة اللاس (165 كلم عن العاصمة تونس) وحمام ملاق، وأهمها وأعرقها الموقع الأثري "التيبيروس".
منطقة التيبيروس كانت ملجأ للعائلات الفينيقية الثرية التي هربت من بطش الرومان (الأناضول)
عهد الإمبراطور هادريان
ويضيف الأبيري، في تصريح لوكالة الأناضول، أن مدينة التيبيروس منحها الإمبراطور هادريان وضعية "بلدية" (وضع قانوني يدل على أهمية المدينة واعتبارها من مدن الإمبراطورية الرومانية) وشهدت على يديه ازدهارا كبيرا.
ويوضح أن "المدينة أصبحت مقر أسقفية بين القرن الرابع والقرن السابع الميلادي، وهجرت المدينة بعد ذلك، إذ تحول سكانها للإقامة في مدينة "إبة القصور"، وهو الاسم القديم لمدينة الدهماني المجاورة، مما سمح بالاحتفاظ بعدة آثار".
موقع أطلال التيبيروس التونسية عرف عددا قليلا فقط من الحفريات الأثرية (الأناضول)
ويضيف أنه "إلى جانب قصص الرحالة التي تصف مدينة التيبيروس، لم يشهد الموقع التاريخي إلا قليلا من الحفريات الأثرية بدأت للمرة الأولى في 1908، قبل أن تتوقف لتستأنف لاحقا في 1912، وهو العام الذي اكتشف فيه جزء من المنتدى الروماني وشارع رئيسي وبوابة كبيرة عليها نقش مخصص لهادريان".ويلفت الأبيري إلى أنه "تحت رعاية المعهد الوطني للتراث في تونس، نفذت فرق إسبانية وإيطالية حفريات في الموقع عامي 2006 و2007، توجت بنتائج متميزة وإصدار الكثير من البحوث التي تبين مدى أهمية هذا الثراء الاقتصادي والاجتماعي".
وبعض الحفريات الأخيرة أثبت أنها تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، لأن هناك امتدادا لمنطقة "المدينة" (التيبيروس) إلى حدود الموقع الأثري في مدينة مكثر في محافظة سليانة المجاورة.
الإنسان البدائي
ويشير الأبيري إلى وجود "مقابر جلمودية وأدوات من حجر الصوان، مما يدل على وجود الإنسان البدائي، لكون المدينة عرفت حضورا بشريا منذ عصور ما قبل التاريخ".
ويقول "معالم التاريخ القديم لا تزال قائمة، وعينك لن ترى على مساحة 200 هكتار إلا آثارا وأطلالا لمدينة رومانية وأخرى لمملكة نوميدية، وهنا كان مسرح يتسع لـ3 آلاف متفرج لم يبق منه سوى الأسس وبعض العناصر المعمارية، كما أن معبد المياه ما زال شامخا أمام الساحة الرئيسية للبلدة".ويتابع "نجد أيضا مجاري المياه المتنوعة في المدينة المحاطة بسبعة عيون، ويحتوي الحي الأثري على مجموعة من المنازل الأرستقراطية موزعة بتناسق على سفح الهضبة".
شواهد تعاني النسيان
من جهته، يقول فرحات الخميسي، ناشط في المجتمع المدني بمدينة الكاف، "رغم القيمة التاريخية لمدينة التيبيروس التي تعد من أهم وأجمل المدن الأثرية والتاريخية في تونس، فإن المنطقة ما زالت تعاني النسيان، ولم يتم استغلالها وتوظيفها لخدمة السياحة".
واعتبر الخميسي أن استكمال الحفريات وصيانة المنطقة الأثرية من شأنه أن يعيد تسليط الضوء على قيمتها الحضارية، إذ إن تاريخ تأسيس التيبيروس تزامن مع تأسيس قرطاج.
ويردف "يمكن للزائر أن يشاهد اليوم الساحة العمومية ومعبد الكابيتول والمنازل والمسرح والأحواض.. وغيرها، وخصوصا اللوحات الفسيفسائية التي بعثرها الزمن ولم تجد أحدا يهتم بتاريخها وأصالتها لتبقى التيبيروس منسية ومجهولة طوال عهود".