علي (ع) شرى نفسه لله عز وجل
السيد فاضل علوي ال درويش
وما عسانا أن نكتب عمن تقصر أفهامنا عن كنه معرفته والإحاطة بما كان عليه من كمال وفضيلة، ولكنها وقفة تنير النفوس بسيرة إنسان كامل قد كان سجله حافلا بالعظمة ورفعة الشأن، وهذه الكلمات الواردة عنه في نهج البلاغة تكشف عما كان عليه من حكمة ومنطق يعد فصل الخطاب، فمواعظه قد شملت جميع أبعاد الشخصية الإنسانية وأعطى من التوجيه ما يظهر طريق النجاة والاستقامة، ولو توقفنا عند هذه اللآلئ الحكمية بتدبر وتمعن لوجدنا لها رونقها الخاص ولغتها التي تلامس شغاف القلب والوجدان، تحي الفكر البشري وتنتشله من وحل الجهل والغفلة وتسبغ عليه إشراقات معرفية قرآنية وعقائدية وأخلاقية وتنويرية في دروب الحياة، فالمنهج العلوي مفردات تستحق التبصر في معانيها وإخراجها من قالبها المكتوب لتتحول إلى ومضات عملية يجري تطبيقها، فالنفوس المتعبة من آلام الظروف الحياتية والصعاب التي تواجهها تجد في حكم أمير المؤمنين الراحة النفسية وبعث الهمة وصنع الإرادة القوية؛ لأنها تنبع من عظيم كانت الدنيا بالنسبة له ميدان كفاح وعمل وتبليغ وعمارة فكرية وسلوكية لا تأبه بما يجري من حولها، وقد عالج تلك الأفكار الضالة بأسلوب إقناعي يقوم على البرهان والدليل ويتميز بالسلاسة والبيان الواضح، فقد كان - بحق - أمير البيان والحكمة في معالجة الأزمات الفردية للإنسان والظواهر المجتمعية وطرح المسار الذي يخلصها من طريق التيه والضياع.
وأما الدنيا المتزينة كفتاة فائقة الجمال تجذب إليها من زاغت أعينهم واضطربت نفوسهم لمجرد الحصول على شيء من حطامها الزائل، فأخذتهم كمركب تتلاطم به الأمواج لتتسافل بهم نحو ارتكاب الرذائل والسقوط الأخلاقي وخلع رداء القيم والمبادئ، فيرتكب الواحد في حالة سكرة عشق الدنيا كل قبيح وعيب حتى تسقط منهم قناع الحياء، ولكنها اصطدمت بصخرة صماء في طريقها لا يمكنها الحراك بعدها، وذلك عندما رست مراكبها عند شاطئ علي والذي ما غرته يوما ولا مال لها بعد أن أعلن وثيقة القطيعة معها «قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها»، لقد أظهر أمير المؤمنين نزاهة نفسية وترفعا عن متاع الدنيا الزائل في أجلى الصور حيث كان قدوة للمتقين في توجيه النظر بالأساس نحو البناء الأخروي وعدم إشغال النفس بجمع الأموال ليكون الواحد حارسا وخازنا لها، مع ابتلائه بأمراض أخلاقية ناجمة عن الالتصاق بها كالبخل والجشع، بينما علي مدرسة في العطاء بكل ما يملك، فعطاؤه كان في أعلى درجة الإنفاق وهو الإيثار وقد أشاد بذلك كتاب الله في آية الإطعام في سورة الإنسان، إذ كان المال في يد علي وسيلة لإسعاد الآخرين ورفع الهموم وآلام الحاجة عنهم، فقد كان أبا للمساكين واليتامى يحمل في قلبه من المشاعر الرقيقة ما يغمرهم بالأمان والحنان.
وأما فترة خلافته الظاهرية فقد تجلت فيها معالم التنظيم الإداري وإرساء قواعد ترتيب المهمات وتوزيعها والإشراف عليها، وقد كان يشرف بنفسه على أداء عماله وتوزيع مال بيت المسلمين على الفقراء المستحقين، فقد كان يرفض وجود ظاهرة التسول التي تمتهن كرامة الإنسان وتسقط ماء الوجه، بل أعد ديوانا يسجل فيه معلومات عن عوائل الفقراء ليعطوا المساعدات العينية والمالية، ولقد كان يقوم ليلا بحمل جراب الطعام ليوزعها على بيوت المحتاجين، وما عرفوا من يكون صاحب القلب الحنون الذي يعمل بلا كلل أو ملل في سبيل توفير مستلزمات الحياة الكريمة لهم أنه أمير المؤمنين إلا بعد رحيله المفجع والذي أظلمت الدنيا بفراقه، ولم يكن يقتصر أمر المساعدة على الجانب المادي بل كان يواسي المحتاجين ويستمع لشكواهم فيخفف همومهم، وكان يعمل بما يوصي به الولاة قبل أن يوجههم إليه من مواساة الناس والتواضع في التعامل مع الرعية