الربيع.. زهور زاهية ولوحات تفوح منها روائح عطرة


لوحة "بائعة زهور في الشانزلزيه" (A Flower Seller on the Champ-Elysees) المرسومة عام 1895 (مواقع التواصل)

غنّى للربيع عشرات الفنانين، من الممثلة المصرية سعاد حسني في أغنيتها الشهيرة "الدنيا ربيع" مرورا بالمطرب السوري المصري فريد الأطرش وهو يغرد "الربيع عاد من تاني" وصولا للمغني وعازف الجاز الأميركي لويس أرمسترونغ وهو يصدح "يا له من عالم رائع" (What A Wonderful World)، وغيرهم كثر غنّوا للربيع وتغنّوا بجماله. الاحتفال بموسم الربيع لم يكن حكرا على المغنّين، فعشرات الرسّامين قدموا الربيع في لوحاتهم كذلك، تمامًا كما كتب الشعراء في مدحه عشرات القصائد.
ومن أشهر قصائد الشعر العربي في التغني بالربيع قصيدة الشاعر العباسي الشهير البحتري التي يقول فيها:
أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكًا منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا
يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ يَنِثُّ حَديثًا كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا
وَمِنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيعُ لِبَاسَهُ علَيْهِ، كَمَا نَشَّرْتَ وَشْيًا مُنَمْنَما
أحَلَّ، فأبْدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِما
وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ يَجيءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا
فَما يَحبِسُ الرّاحَ التي أنتَ خِلُّهَا وَمَا يَمْنَعُ الأوْتَارَ أنْ تَتَرَنّما


ألوان ذائبة في أجواء بديعة

قدم رائد المدرسة الانطباعية الرسام الفرنسي كلود مونيه، في لوحته "وقت الربيع" (Spring time)، المرسومة عام 1873، صورة بهية للربيع حيث الزهور متفتحة ومن خلفها السماء صافية الزُرقة والأرض شديدة الخُضرة، والألوان ذائبة ومتداخلة في بعضها في مشهد يبعث على السكينة.



لوحة الرسام الفرنسي كلود مونيه "وقت الربيع" (Spring time) المرسومة عام 1873 (مواقع التواصل)
تتميز المدرسة التي تتبعها لوحات مونيه بكونها أكثر ميلا إلى التعبير عن العناصر والمواضيع بحسّ عاطفي وليس بشكل واقعي.
وكانت المدرسة أكثر تركيزًا على رسم تأثير الظل والنور على الأشياء والعناصر محل الرسم، لذلك كانت تغيرات الفصول وما يتبعها من تغير في شكل الطبيعة والنباتات موضوعًا مثيرًا للاهتمام.
وقد يكون هذا سببًا في أن الربيع ظل حاضرًا كموضوع للرسم في لوحات عدة لمونيه مثل لوحة "حقل الخشخاش" (Poppy Field)، المرسومة بعد عامين فقط من لوحته السابقة (وقت الربيع)، أي عام 1881، ويظهر فيها حقل أخضر تزيّنه زهور متفتحة حمراء على خلفية سماوية زرقاء، ونرى فيها أيضًا الأسلوب نفسه للألوان الذائبة وضربات الفرشاة المتقطعة كأن المشهد كله حلم ضبابي جميل.



لوحة مونيه "حقل الخشخاش" (Poppy Field) المرسومة في الربيع عام 1881 (مواقع التواصل)

احتفى انطباعيٌ آخر بالربيع في سلسلة من المشاهد الخلابة، فقد قدم الرسام الفرنسي ألفريد سيسلي (1839-1899) في لوحته "ضفاف نهر لوان في قرية سانت ماميس" (Banks of the Loing at Saint Mammès)، المرسومة عام 1892، مشهدا لكوخ ريفي وسط الحقول المطلة على النهر، ويتوسط الكوخ اللوحة على خلفية سماوية زرقاء وحقول خضراء بطريقة خلابة وساحرة.



لوحة "ضفاف نهر لوان في قرية سانت ماميس" المرسومة عام 1892 (مواقع التواصل)
عاش سيسلي مدة من الزمن على ضفاف نهر لوان وجذبت المناظر الطبيعية نظره وأكواخ الفلاحين الراقدة في سلام وسط النباتات والحقول، أجرى سيسلي مسحًا منهجيًا للمنطقة وصوّرها في لوحات تتناول النهر والبلدة الصغيرة. تحتل السماء في هذه اللوحة كما في بقية السلسلة جزءا كبيرا من تكوين اللوحة حيث أعطاها صاحبها دورًا "عمرانيا" وهي مساحة حقيقية من التجريد الخالص تتناثر فيها بعض السحب بحرية.


زهور طلقة في الهواء الطلق

يعدّ الرسّام الأميركي جون مارشال غامبل (1863-1957) واحدًا من أكثر الرسّامين اهتمامًا بالربيع والزهور والعيش بين الطبيعة، وقد احتفى في عشرات من لوحاته بالألوان المتأججة للزهور والأجواء المبهجة للربيع بأسلوب فني خاص تميز به حيث تميل اللوحات إلى المذهب الواقعي وتنقل المشاهد بتفاصيل واقعية، لكن غامبل يُضيف بشعوره لمسة من النعومة والإشراق على عناصر اللوحات الربيعية.
وحين سأله أحد الصحفيين في لقاء معه عن سبب شغفه الشديد برسم الأزهار، أجاب "لم أرسمها أبدًا على أنها أزهار، بل لم أفكر فيها كذلك أثناء الرسم مطلقًا؛ لقد كانت مجرد بقع ملونة في نظري، أنا ببساطة أحب أشكالها التي صمّمت بها".



لوحة الرسام جون مارشال غامبل "رقيب الشمس البري والخشخاش" المرسومة بين عامي 1893 و1906 (مواقع التواصل)
نرى مثلا في لوحته "رقيب الشمس البري والخشخاش" (Wild Heliotrope and Poppies)، المرسومة بين عامي 1893 و1906، منظرا طبيعيا ربيعيا مشرقا لأزهار رقيب الشمس البنفسجية المنتشرة بين الخشخاش الأصفر، ويستطيع المشاهد التماس نور الشمس وحرارتها في اللوحة رغم كونها غير مرسومة.
ويبدو أن السحر المميز لهذه المناظر الطبيعية يكمن في الشعور الحميم بالطبيعة الذي يظهر في اللوحة.


من الريف إلى المدينة

رسم الرسام الفرنسي لويس ماري دي شريفر (1862-1942) بصمة الربيع في المدينة متمثلة في أسواق الزهور، وتجاوز عدد لوحات شريفر التي تتناول أسواق الزهور في الربيع 200 لوحة، وكان للبائعات حضور طاغ وسط باقات الزهور بأنواعها العديدة وألوانها البديعة.
نرى في لوحته "بائعة زهور في الشانزلزيه" (A Flower Seller on the Champ-Elysees)، المرسومة عام 1895، ليس فقط قدراته الفنية بل عفوية الحركة من البائعة التي تعدّ الباقة إلى السيدة الواقفة أمامها، إذ تحتوي السلة على أنواع مختلفة وألوان مبهجة وبراقة من الزهور.
وتقف المرأتان أمام قوس النصر في ميدان عام مزدان بالأشجار، وبعض العصافير في الطرقات خلفهما على اليسار وسط أجواء ربيعية بامتياز.
جذبت تلك الدقة في النقل إلى جانب المتعة البصرية التي اقترنت بلوحات شريفر قدرًا كبيرًا من الاهتمام، حتى إنه اشتهر بكونه رسام الزهور والأشخاص الأنيقين في باريس بسبب تلك اللوحات المشبعة بالألوان والضوء والأجواء الربيعية.