بعد الحرب العالمية الأولي قام المعماري : ( والتر كربيوس ) بتأسيس مدرسة فنية تصميمية في مدينة ( فايمار ) الألمانية عرفت باسم : الباوهاوس . ضمت إليها مجموعة من الفنانين والحرفيين والمصممين في مسعى منه لخلق تواصل بين الشكل والوظيفة وكانت هذه المدرسة الفنية نموذجا رفيعا ودقيقا وسط عالم مزقته الصراعات المجهولة النتائج .
وأعتمد مؤسسها منذ البداية علي أفضل العقول الأوربية وفي مقدمتهم : أيتن - فايتنكر - ماركس - ميرو. وألتحق بها فيما بعد بول كلي - وكاندينسكي وكانت الدراسة بها لا تزيد عن ثلاث سنوات ونصف تميزت مناهجها بإلغاء الفوارق بين الفنان والحرفي وأنسحب ذلك علي العلاقات بين الأساتذة والطلبة لتجعل حدود العمل جماعيا كما تطرقت هذه المدرسة إلى الصناعات وأسهمت في خطوط الإنتاج وكان الكثير من مفرداتها قد دخلت الحياة اليومية كتصميم الكتب والقيشاني والأثاث والجرافيك والإعلانات الجدارية .
شهادة أحد روادها
الفنان : ( يوهانس أيتن ) عاش تجربة كاملة في هذه المدرسة متأثرًا ومؤثرًا في مناهجها الخلاقة فقد درس هذا الفنان أولا في أكاديمية جنيف 1910 وكان التدريس بها - علي حد قوله - يسير وفق أساليب العصور الوسطي إذ يقوم الأساتذة بشرح ما يقومون به لتلاميذهم ثم علي هؤلاء تقليد أساتذتهم وكان النجاح يتوقف علي قدرة التلميذ علي تقليد أستاذه تقليدا دقيقا.
في عام 1913 ذهب : ( يوهانس أيتن ) إلى مدينة : شتوتجارت لحضور محاضرات كان يلقيها أدوولف هولزل في أكاديمية شتوتجارت التي اعتنت بتدريس أساليب التشكيل وأسس اللون بصورة منتظمة .
وجد : ( أيتن ) في هذه الأكاديمية أن : ( هولزل ) أستاذا مدهشا محفزا ومتفتح الذهن وسرعان ما حصل الفنان الشاب علي فرصته للتدريس بالإضافة إلى ممارسة عمله الإبداعي .
عام 1916 وباقتراح من أحد تلاميذه أنتقل من شتوتجارت إلى : ( فيينا ) لتأسيس مدرسة للفن وتطوير طرق التدريس وهناك شرع يحاضر في موضوع أقطاب التضاد وتمرين الطلاب علي الاسترخاء وتصعيد درجة التركيز وبرهنت تجربته هذه علي التلقائية الإبداعية ، وهي واحدة من أهم مشاكل التربية الفنية والتثقيف الفني .
في ربيع العام 1919 وبعد نهاية الحرب العالمية الأولي دعته السيدة : ( ألما ماهلر كروبيوس ) التي كانت من المعجبات بفنه وبنظرياته في التدريس لتمضية عطلة نهاية الأسبوع في : سمرتك حيث قدمته لزوجها : ( والتر كروبيوس ) مؤسس مدرسة : ( الباوهاوس ) برغم أن كروبيوس لم يفهم رسوم : (ايتن) ولا أعمال تلاميذه إلا أنه عرض عليه الحضور إلى : ( فايمار ) ووعده بأنه سيكون مسرورا هناك .
بعد فترة وجيزة لبي : ( يوهانس أيتن ) هذه الرغبة وجاء إلى فايمار وأخذته الدهشة من روعة غرف الدراسة الفاخرة وورش العمل المختلفة ووجد بانتظاره منشورا بقلم ( كروبيوس ) يقول فيه :
الهدف الأساسي لكافة الفنون التشكيلية هو البناء وعلي المعماريين والنحاتين والرسامين العودة إلى الحرفة إذ ليس هناك فارق أساسي بين الفنان والحرفي .
فالفنان ما هو إلا صيرورة مكثفة للحرفي وأن معرفة أسس الحرفة وركائزها أمور لا يستغني عنها بالنسبة للفنان أي أنها مصدر لإنتاجيته الخلاقة .
أسلوب الدراسة
تبدأ الدراسة بترويض الإصبع واليد والذراع والجسم بكامله علي الاسترخاء والتحسس والتقوية وحتى تنفس الطالب في (الباوهاوس) يخضع لهذه الاشتراطات ، إذ ينبغي أن يفحص وينشط ثم يأتي دور النصح بشأن التنظيم الغذائي والإرشادات الصحية .
هتلر والباوهاوس
من أصعب المشاكل التي شغلت أستاذ تدريس الفن في (الباوهاوس) تتمثل في تحرير الإدراك الحسي الروحي الداخلي وتعميقه وكان علي الطالب دراسة تحليل الألوان باضدادها السبعة بأسلوب منطقي وكان عليه أيضا أن يقضي قرابة نصف ساعة كل صباح ولأسبوع كامل مواجها نبات (السرخس) وهو في الأصص ليدرسه بواسطة الرسم وفي نهاية الأسبوع يتعين عليه رسم ذلك النبات باستحضاره من الذاكرة، ولم تسلم هذه المدرسة المتميزة من سطوة (هتلر) ومن التعرض لها بالسخرية والتشكيك في أهدافها ومناهجها والتهكم علي أساتذتها وطلابها .
واليوم وبعد زوال هذه المدرسة وإغلاقها نهائيا عام 1933 بأمر خاص من : أدوولف هتلر .. بعد زوالها ما يزال تأثيرها شائعا في الكثير من دول العالم وأصبح من المعتاد انجذاب الناس إلى الفلسفة الشرقية : هندية .. وصينية التي روجت لها هذه المدرسة مثل ممارسة رياضة (اليوجا) ليس في حقل الفنون فحسب بل في مجالات الإبداع الأدبي .