قنبر مولى أمير المؤمنين
عند البحث في كتب السيرة والتاريخ عن شخصيات كانت لهم أدوار بارزة ومواقف مشرفة يشهد لها التاريخ ونخص بالذكر أصحاب الأئمة عليهم السلام، فتغوص في أمهات الكتب فلا تجد إلا النذر اليسير، فتلتقط معلومة من هنا وموقفًا من هناك لعلك تخرج بسطور مضيئة تشع منها أنوار محمدية وروائح علوية هاشمية.
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الأليمة لاستشهاد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه فيذكر خطباء المنابر الحسينية -حفظهم الله- من خلال محاضراتهم القيّمة بعض أصحاب الإمام سواء من خلال أسئلتهم العقائدية والفقهية أو من خلال المواقف الاجتماعية أو في ساحة الجهاد والميدان. وحديثنا في هذه السطور عن خادم الإمام قنبر وما أدراك ما قنبر!
أبو همدان قنبر بن حمدان أو ابن كادان، مولى أمير المؤمنين، اشتهر بين الناس من حيث مواقفه مع أمير المؤمنين ضد أعداء أهل البيت عليهم السلام. لم تحدد المصادر تاريخ ولادته ومكانها، إلا أنه من أعلام القرن الأول الهجري.
حينما نسمع هذه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: إن علياً أتى البزازين فقال لرجلٍ: بعني ثوبين. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك فلمّا عرفه مضى عنه، فوقف على غلام، فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر، وتخطب الناس فقال عليه السلام: وأنت شاب ولك شره الشباب. إلى آخر الرواية. نفهم منها أن الحادثة وقعت في الكوفة أثناء خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، ولذا يتبادر للذهن أن اسم قنبر لم يظهر إلا في العراق بعد تولي الإمام الخلافة. لكنني -وربما غيري سبقني- من خلال البحث وجدت اسم قنبر يظهر في المدينة المنورة أثناء خلافة عمر بن الخطاب في حادثة المرأة التي تنكرت لابنها وحينما عرض الأمر على الإمام فقال لإخوتها: أمري فيكم وفي أختكم جائز؟ قالوا: نعم يا ابن عم محمد أمرك فينا وفي أختنا جائز، فقال علي عليه السلام: أُشهد الله وأُشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي، يا قنبر علي بالدراهم (وهذا يعني أن قنبر عاش مع الإمام منذ كان في المدينة المنورة) فأتاه قنبر بها فصبها في يد الغلام إلى آخر القصة”. للمزيد أنظر كتاب سلوني قبل أن تفقدوني”.
تذكر السير أن قنبر لا يفارق أمير المؤمنين عليه السلام وهو كان من العشاق له، ففي رواية عن أبي عبدالله (ع) قال: كان لعلي غلام اسمه قنبر وكان يحب علياً حباً شديداً، فإذا خرج علي خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر ما لك؟ قال: جئت لأمشي خلفك، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك، قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟! قال: لا، بل من أهل الأرض، قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلا بإذن الله عز وجل من السماء.
كان قنبر -رضوان الله عليه- يتعلم من آداب الإمام سلام الله عليه وكان مطيعاً له ولا يتصرف بشيء إلا وكان الإمام على دراية. فعن جابر: قال سمع أمير المؤمنين (ع) رجلاً يشتم قنبر وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين: (مهلاً يا قنبر دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك. فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه).
ويظهر أن قنبر كان شجاعًا مقدامًا فقد دفع إليه الإمام علي عليه السلام لواء يوم صفين في قبال غلام عمرو بن العاص. وهذا يشير إلى أن من يخدم في بيت العصمة ويلتصق بهم ينال الكثير من العلم والأدب والدين والأخلاق والشجاعة. وهذا نلحظه في هذا الزمن حينما يكون أحد المؤمنين في خدمة أحد فقهائنا الأخيار تراه يتعلم منه الكثير ويتخرج تقياً ورعاً عالماً، وهذا هو ديدن مدرسة أهل البيت وعلمائهم حفظ الله الباقين ورحم الله الماضين.
وفي صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج أن أمير المؤمنين عليه السلام اعترض على القاضي شريح حينما رد شهادة قنبر وقال: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك، فغضب عليه السلام، وقال: وما بئس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً؟.(الحديث). وفيها دلالة على أن قنبر كان عدلاً. الكافي ج 7.
روي عن أبي الحسن الهادي عليه السلام أنه قال: إن قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السلام دخل على الحجاج بن يوسف، فقال له: ما الذي كنت تليه من علي بن أبي طالب؟ فقال: كنت أوضئه، فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}، فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا، فقال: نعم، فقال: ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال: إذاً أسعدُ وتشقى، فأمر به.
ما رواه أصحاب السيرة من طرق مختلفة: أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأتي به فقال له: أنت قنبر؟ قال نعم، قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي (ثم أخذ في وصف ومدح أمير المؤمنين عليه السلام وهنا نذكر بعضًا منها) يقول: مولاي من ضرب بسيفين، وطعن برمحين، وصلى القبلتين، وبايع البيعتين، وهاجر الهجرتين، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا مولى صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وخير الوصيين، وأكبر المسلمين، ويعسوب المؤمنين، ونور المجاهدين، ورئيس البكائين، وزين العابدين، وسراج الماضين، وضوء القائمين، وأفضل القانتين، ولسان رسول رب العالمين، وأول المؤمنين من آل ياسين، المؤيد بجبرئيل الأمين، والمنصور بميكائيل المتين، والمحمود عند أهل السماء أجمعين، سيد المسلمين والسابقين، وقاتل الناكثين والمارقين، والقاسطين، والمحامي عن حرم المسلمين ومجاهد أعدائه الناصبين، ومطفئ نار الموقدين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين.
ولولا الإطالة لتمتع القارئ بما وصفه قنبر عن مولاه. ثم قال الحجاج إلى قنبر: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه؟ فقال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: قد صيرت ذلك إليك، قال: ولم؟ قال: لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، ولقد أخبرني أمير المؤمنين عليه السلام أن منيتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حق، قال: فأمر به فذبح. فرحمك الله أيها العبد الصالح الموالي.
من المؤسف إلا نجد ذكرًا في السير لهذا الشهيد الصابر قنبر بعد استشهاد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لا في حياة الإمام الحسن ولا في حياة الإمام الحسين عليهما السلام ولكن ظهرت شخصيته في عهد الحجاج حينما كان والياً على الكوفة، ولولا أنه لم يطلبه بالاسم أو المعتقد لما عرفنا عن خاتمة حياته الشريفة.
المصادر
• معجم رجال الحديث.
• الكافي 59/2.
• من لا يحضره الفقيه.
• سلوني قبل أن تفقدوني.