ثريد رمضان غاب خبزه وغاب خبَّازوه!
أتذكر الثريد عندما يأتي شهر رمضان، طبقٌ شهيّ ولذيذ من مرق ولحم وخبز! اختفى الثريد واختفى الخبازون من البلد. لا أستطيب مذاق ثريد الخبز الذي تصنعه المخابز الأوتوماتيكية.
كان في جزيرة تاروت، كما في غيرها من البلدات والمحلَّات، عدد من الخبَّازين من عوائل الخبَّاز، عوامّ وسادة، وغنَّام وقيس وزمزم، وغيرهم من أبناء الجزيرة. بعدما انتهى ذلك الجيل لم يمتهن الخِبازة أحد من أبناء تاروت، ولا من أبناءِ البلدات حولها كما يبدو.
كنَّا جماعةً في البيت ذكورًا وإناثًا، وكان الثريد طبقًا رئيسًا على الإفطار، حضر غيره من الأطباق أم غاب. في تلك الأيام كان ثريد إفطارنا فيه الكثير من المرق والخبز المبلَّل وقليل جدًّا من اللحم!
ذُكر في الكتب أن الثريد كان طعام العربِ المستطاب، وجاء فيه الكثير. يروى أن الإمام عليّ كان يطعم النَّاس الخبزَ واللحم، ويأكل من الثريدِ بالزيت ويكللها بالتمرِ من العجوة، وكان ذلك طعامه. وعن النبيّ «صلى اللهُ عليهِ وآله»: أول من لون إبراهيم وأول من هشمَ الثريدَ هاشم.
حليمات التذوق عندما تشبّ على شيءٍ تشيب عليه، فلا تعود تستسيغ الثريد إلا إذا كان الخبز فيه رائحة التنور وجذوع النخيل، ومخبوز بيدٍ من أبناء البلد! خبزٌ غير هذا الخبز هو ورقٌ مبلول بالماء، لا طعم فيه ولا رائحة.
إذا كنت من الجيل الحاضر، قد لا يعني لك الخبز والثريد شيئًا مميزًا لان السفرة عليها ألوان وأشكال من الطعام، لكن بالنسبة لأبناء جيلي، كان الثريد يعني لهم حالةً من الاطمئنانِ والرَّاحة والبطن الملآن، وللخبَّاز مهنة يخدم فيها أبناءَ الحيّ والبلد ويكسب منها رزقًا حلالًا بكدٍّ وتعب! لا يعني لك شيئًا لأنك تشتري الخبزَ في أي وقتٍ تشاء ليلًا أو نهارًا من أقربِ دكَّان، ويعني لنا صفًّا طويلًا في الصباح أو الظهر لشراء تلك الأقراص الحلوة الشهيَّة!
مهنة الخِبازة واحدة من المهن تركها أهل البلد، مع أنها الآن أسهل بكثير من الزمن السابق، وعليها إقبال كثير في سائر الأيَّام والمناسبات السنويَّة، والمردود الماديّ مجزٍ! انتهت المهنة، إلا فيما ندر، من أجانب يمارسونها وحلَّ بدلًا منها خبز المكنة الذي يتوفر على مدار الساعة. مع هذا التغير تغيَّر طعمُ ورائحة الخبز، هكذا هي الأمور لا شيء دون مقابل!
يخيّل إليّ أن من القراء من يقول: خبزُ هذا الزمان أطيب! وأنا أقول الخبز والزمان توأمان، ومن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه، بما في ذلك خبز التنور الأصيل المشمَّم برائحة جذوعِ النخيل!