TODAY - November 14, 2010
كسوة الكعبة.. فضائل ومفاخر للعرب منذ زمن إسماعيل عليه السلام إلى عهد السعوديين
أحداث وحروب وتنافس.. حولت الكسوة من أعمال البر والإحسان إلى دور سياسي
صورة التقطت للحرم تظهر فيها الكعبة المعظمة مكسوة من المعمل الخاص بها الذي أنشأه الملك عبد
العزيز
عبد العزيز الشيبي كبير سدنة الكعبة الذي توفي الأحد الماضي قبل ساعات من تسلمه كسوة الكعبة
دار معمل كسوة الكعبة الذي أنشئ في عهد الملك المؤسس قبل 85 عاما
الشيخ صالح الحصين الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف يسلم كسوة الكعبة الجديدة لسدنة بيت الله الحرام
صالح بن زين العابدين الشيبي نائب كبير السدنة يتسلم الأحد الماضي كسوة الكعبة من الشيخ الحصين
عبد القادر الشيبي أول رئيس لسدنة الكعبة
الرياض: بدر الخريف
يتم يوم الاثنين المقبل التاسع من شهر ذي الحجة الحالي (يوم الوقوف بعرفة) تركيب الكسوة الجديدة على الكعبة المشرفة بدلا من الكسوة الحالية بعد أن تم يوم الأحد الماضي تسليم الكسوة من قبل الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين لكبير سدنة بيت الله الحرام، وتسلمها نائبه الشيخ صالح الشيبي نظرا لوفاة كبير السدنة الشيخ عبد العزيز الشيبي قبل ساعات من التسليم الذي يتم في مثل هذا الوقت من كل عام.
وأعادت المناسبة الحديث عن تاريخ كسوة الكعبة التي كانت تعد من فضائل ومفاخر العرب في مختلف العصور، حيث اهتم العرب منذ زمن بناء الكعبة المعظمة بكسوتها؛ بل إن العرب ترى ذلك من الواجبات والفضائل والمفاخر، وكان ذلك مباحا لكل من يريد أن يكسو الكعبة متى شاء ومن أي نوع شاء، وكانت الكسوة توضع على الكعبة فوق بعضها، فإذا ثقلت أو بليت أزيلت عنها.
مرت كسوة الكعبة بمراحل قبل الإسلام وبعده، وسجل التاريخ معلومات عن أشكال كسوة الكعبة، والقادة الذين أسهموا في كسوتها؛ ولعل أبرزها ما قام به الملك عبد العزيز من عمل لكسوة الكعبة في ظروف صعبة بعد أن امتنعت الحكومة المصرية عن إرسال كسوة الكعبة المعتادة، ولم تشعر الحكومة السعودية بذلك إلا قبيل حج عام 1345هـ بتسعة أيام، فصدرت أوامر الملك المؤسس بعمل كسوة للكعبة في غاية السرعة وتم ذلك ولم يأت اليوم الموعود لكسوة الكعبة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة من عام 1345هـ إلا والكعبة المعظمة لابسة تلك الكسوة التي عملت في بضعة أيام، إلى أن تم في عهد الملك المؤسس إنشاء معمل لكسوة الكعبة ثم تطويره حاليا.
وفي كتابه القيم عن «تاريخ الكعبة - عمارتها وكسوتها وسدنتها» الذي أنجزه الباحث والمؤلف الراحل حسين عبد الله باسلامة قبل 81 عاما وأهداه إلى الملك عبد العزيز، يوضح باسلامة مراحل كسوة الكعبة نقلا عن كتب الحديث، والتاريخ، والمعايشة طوال القرون الماضية وحتى تاريخ تأليفه الكتاب. يشير باسلامة في تناوله لكسوة الكعبة المعظمة قبل الإسلام إلى أنه قد ورد في كثير من كتب الحديث والتاريخ ذكر كسوة الكعبة المعظمة وتعددها قبل الإسلام منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى زمن البعثة النبوية وأنواعها. وإليك تفصيل ذلك: روى الحافظ بن حجر العسقلاني في فتح الباري من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال: «بلغنا أن تُبّعا أول من كسا الكعبة (الوصائل) فسترت بها، قال وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام، وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من كسا الكعبة أو كسيت في زمانه، وحكي البلاذري أن أول من كساها الانطاع عدنان بن أد، وروى الفاكهي عن وهب بن منبه أنه يقول: زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد وكان أول من كسا البيت الوصائل. ورواه الواقدي عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، ومن وجه آخر عن عمر مرفوعا. قال الحافظ بن حجر عقب ما تقدم: فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان، وتُبّع وهو أسعد المذكور في الروايات الأولى، ولا تعارض بين ما روى عنه أنه كساها الانطاع والوصائل. وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية، ويجمع بين الأقوال الثلاثة، إن كانت ثابتة، أن إسماعيل أول من كساها مطلقا، وأما تبع فأول من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل.
وقد روى ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق المطلبي أنه قال: كان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجه إلى مكة حتى إذا كان بين عسفان وأمج أتاه نفر من هذيل فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ، والزبرجد، والياقوت، والذهب والفضة، قال بلى، قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده. وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا عن هلاك من أراده من الملوك وبنى عنده، فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك. ما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن من معك جميعا، قال: فماذا تأمرونني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه، قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده، قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك، قالا، أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهرقون عنده، وهم نجس أهل شرك، أو كما قالا له. فعرف تبع نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، ورأى في المنام أن يكسو البيت فكساه (الخُصف). قال السهيلي في روض الأنف: هو شيء ينسج من الخوص والليف، ثم قال أيضا: والخصف أيضا هي ثياب غلاظ. قال ابن إسحاق: ثم أُرِيَ تبع أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافير، ثم أُرِيَ أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل، وكان تبع في ما زعموا أول من كسا البيت.
وروى الأزرقي عن النوار بنت مالك بن صرمة أم زيد بن ثابت رضي الله عنه، قالت رأيت على الكعبة قبل أن ألد زيد بن ثابت وأنا به نسيء مطارف خز خضراء وصفراء وكرادا وأكسية من أكسية الأعراب وشقاق شعر - الكرار الخيش الرقيق واحدها كر - وروى الأزرقي عن عمر بن الحكم السلمي قال نذرت أمي بدنة تنحرها عند البيت، وجللتها شقتين من شعر ووبر، فنحرت البدنة وسترت الكعبة بالشقتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة لم يهاجر فنظر إلى البيت يومئذ وعليه كسا شتى من وصايل وانطاع، وكرار، وخز، ونمارق عراقية، كل هذا قد رأيته عليه، وروى الأزرقي عن ابن أبي مليكة أنه قال: بلغني أن الكعبة كانت تتم كسوتها في الجاهلية كسا شتى، كانت البدنة تجلل الحبرة، والبرود، والأكسية وغير ذلك من عصب اليمن.
وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: روى الفاكهي في كتاب مكة من طريق مسعر عن جسرة قال أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها، قال الحافظ فعلى هذا هو أول من كسا الكعبة الديباج ثم قال: وروى الدارقطني في المؤتلف أن أول من كسا الكعبة الديباج نتيلة بنت حبان والدة العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج. وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت فرده عليها رجل من جذام فكست الكعبة ثيابا بيضا. قال الحافظ وهذا محمول على تعدد القصة. فعلم من ذلك أن العرب كانت تهتم بكسوة الكعبة وترى ذلك من الواجبات، والفضائل، والمفاخر، وكان ذلك مباحا لكل من يريد أن يكسو الكعبة متى شاء، ومن أي نوع شاء، وكانت الكسوة توضع على الكعبة فوق بعضها، فإذا ثقلت أو بليت أزيلت عنها.
* كسوة الكعبة في الإسلام
* أما كسوة الكعبة في الإسلام فقد أخذت شكلا ألطف من شكلها في الجاهلية، فروى الحافظ بن حجر في «الفتح» من رواية الواقدي عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كسا البيت في الجاهلية الانطاع ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وقال: روى الفاكهي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها، وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك، وروي من طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة قال: أصيب عثمان بن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه، والثوب الأبيض. قال وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شبيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. قال الحافظ ابن حجر وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقا للناس. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن أبي علقمة عن أمه قالت سألت عائشة رضي الله عنها أنكسوا الكعبة؟ قالت الأمراء يكفونكم، وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر رضي الله عنه كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب. ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وروى أبو عروبة في أوائل له عن الحسن قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الأزرقي عن خالد بن المهاجر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم عاشوراء، يوم تنقضي فيه السنة، وتستر فيه الكعبة». وروى عن ابن جريج قال: كانت الكعبة في ما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج، حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية والديباج، حتى يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمال، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الأزر، وروي عن نافع قال: كان ابن عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي، والحبرة، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. وروي أيضا عن أبي حبيب قال: كسا البيت في الجاهلية الانطاع ثم كساه النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. ويقال: أول من كساه الديباج يزيد بن معاوية، ويقال ابن الزبير، ويقال عبد الملك بن مروان. وأول من خلق جوف الكعبة ابن الزبير، وأول من دعا على الكعبة عبد الله بن شيبة، ويلقب الأعجم، فدعا لعبد الملك بن هشام وكان خليفة، وروى الأزرقي عن حبيب بن أبي ثابت قال: كسا النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وكساها أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، وروى أيضا عن موسى بن عبيدة الربذي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطي من بيت المال. وروى عن أبي نجيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطي من بيت المال، وكان يكتب فيها إلى مصر تحاك له هناك، ثم عثمان من بعده، فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين؛ كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان للفطر، وأجرى لها معاوية وظيفة من الطيب لكل صلاة، وكان يبعث بالطيب، والمجمر، والخلوق في الموسم وفي رجب، وأخدمها عبيدا بعث بهم إليها فكانوا يخدمونها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده. وعلى ذلك كانت تكسى الكعبة في السنة مرتين وتعمل كسوتها بمصر من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما هو صريح في الرواية المتقدمة، وتسلم القديمة إلى شيبة بن عثمان الحجي رضي الله عنه.
وروى الأزرقي عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «كسوة البيت على الأمراء» وروى عن هشام بن عروة بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كسا الكعبة الديباج. وروي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة ويهدون إليها البدن عليها الحبرات فبيعت بالحبرات إلى البيت كسوة. فلما كان يزيد بن معاوية، كساها الديباج الخراساني، فلما كان ابن الزبير، اتبع أثره، فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة، فكانت تكسى يوم عاشوراء. وهذه الرواية تدل على أن يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير كانا يكسوان الكعبة الديباج المصنوع في خراسان، وذلك خلافا لما عمله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتبعه الخليفة عثمان رضي الله عنه كما جاء في الرواية المتقدمة، والظاهر أنهم كانوا ينظرون إلى المصلحة، فإنْ كان ما يحاك بمصر أجود مما يحاك بخراسان أتوا بالكسوة من مصر، وإذا كان ما يحاك بخراسان أجود أتوا بها منها، وهذا دليل على جواز عمل الكسوة في أي محل كان. وروى عن الواقدي عن أشياخه قالوا: فلما ولي عبد الملك بن مروان كان يبعث كل سنة بالديباج فيمر به على المدينة فينشر يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين ها هنا، وها هنا، ثم يطوى ويبعث به إلى مكة، وكان يبعث بالطيب إليها وبالمجمر وإلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان أول من أخدم الكعبة يزيد بن معاوية، وهم الذين يسترون البيت. هكذا جاءت الرواية ولم يصرح فيها عن الخدم هل هم العبيد، أم هم الأغوات. وروى الأزرقي عن جده قال: كانت الكعبة تكسى في كل سنة كسوتين؛ كسوة ديباج، وكسوة قباطي، فأما الديباج فتكساه يوم التروية فيعلق عليها القميص ويدلّى ولا يخاط، فإذا صدر الناس من منى خيط وترك الإزار حتى تذهب الحجاج لئلا يخرقونه، فإذا كان عاشوراء علق عليها الإزار فوصل بالقميص فلا تزال هذه الكسوة الديباج عليها حتى يوم 27 من شهر رمضان فتكسى القباطي للفطر. فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن الديباج يبلى ويتخرق قبل أن يبلغ الفطر ويرقع حتى يسمج، فسأل ابن مبارك الطبري مولاه وهو يومئذ على بريد مكة وصوافيها في أي كسوة الكعبة أحسن، فقال له في البياض، فأمر بكسوة من ديباج أبيض، فوصلت فعلقت سنة 306 فأرسل بها إلى الكعبة فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسا: الديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج الأبيض التي أحدثها المأمون يوم 27 من شهر رمضان للفطر، وهي تكسى إلى اليوم ثلاث كسا. ثم رفع إلى المأمون أيضا أن إزار الديباج الأبيض الذي كساها يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحجاج قبل أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر الذي يخاط في عاشوراء، فبعث بفضل إزار ديباج أبيض تكساه يوم التروية، أو يوم السابع، فيستر به ما تخرق من الإزار الذي كسيت إياه للفطر إلى أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في عاشوراء، ثم رفع إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار الأول فإذال قميصها الديباج الأحمر وأسبله حتى بلغ الأرض - ومعنى «إذال» أسبل. قاله الأزرقي. ثم جعل فوقه في كل شهرين إزار، وذلك في سنة 240 لكسوة سنة 241 ثم نظر الحجية «آل الشيبي» فإذا الإزار الثاني لا يحتاج إليه فوضع في تابوت الكعبة وكتبوا إلى أمير المؤمنين أن إزارا واحدا مع ما أذيل من قميصها يجزيها، فصار يبعث بإزار واحد فتكساه بعد ثلاثة أشهر ويكون الذيل ثلاثة أشهر: قال الأزرقي: ثم أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله عز وجل بإذالة القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة 243هـ.
هذا كل ما ذكره الأزرقي في تاريخه عن كسوة الكعبة إلى نهاية سنة 243، وجاء في الرحلة الحجازية نقلا عن الفاكهي في أخبار مكة أنه قال: رأيت كسوة مما يلي الركن الغربي «من الكعبة» مكتوبا عليها «مما أمر به السرى بن الحكم وعبد العزيز بن الوزير الجرومي بأمر الفضل بن سهل ذي الراستين، وطاهر بن الحسين سنة سبع وتسعين ومائة» ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها مكتوبا في أركانها بخط رقيق أسود «مما أمر به أمير المؤمنين المأمون سنة ست ومائتين» ورأيت كسوة من كسا المهدي مكتوبا عليها «بسم الله بركة من الله لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع من طراز تنيس على يد الحكم بن عبيد سنة اثنين وستين ومائة» ورأيت كسوة قباطي مصر مكتوبا عليها «مما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أصلحه الله، محمد بن سليمان أن يصنع من طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الخطاب بن سلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة» ورأيت أيضا كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر مكتوبا عليها «بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله، مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل من طراز قوتة سنة تسعين ومائة».
قال البتنوني ومن أعمال تنيس قرية يقال لها تونة وكانت تصنع بها كسوة الكعبة أحيانا.
وذكر نجم الدين بن فهد القرشي في كتابه «إتحاف الورى في حوادث سنة 91» أن الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان لما قدم للحج أتى معه بكسوة الكعبة فنشرت وعلقت على جبال المسجد من ديباج حسن لم يُرَ مثله قط فنشرها يوما ثم طويت ورفعت.
وذكر التقي الفاسي في «شفاء الغرام» أنه كسا الكعبة حسين الأفطس العلوي كسوتين من قز رقيق؛ إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء. أمر بعملهما أبو السرايا. وذكر ابن فهد في حوادث سنة 200 قال: وفيها في يوم السبت أول يوم المحرم بعد ما تفرق الناس من مكة جلس الحسين بن الحسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية وأمر بالكعبة فجردت من الثياب، وكانت قد كثرت الكسوة على الكعبة فجردت حتى بقيت حجارة مجردة، ثم كساها كسوتين أنفذهما أبو السرايا من الكوفة من قز رقيق؛ إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء مكتوب عليهما:
«بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار. أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل محمد صلى الله عليه وسلم بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام».
وذكر التقي الفاسي وممن ذكر الأزرقي أنه كسا الكعبة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يذكر وصف كسوته، ولا وقت كسوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما للكعبة، ولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كسا الكعبة، ولم أر من صرح بأنه كساها، ولعله اشتغل عن ذلك بحروبه في تمهيد أمر الدين مع الخوارج. ثم قال: ووقع في ما ذكره الأزرقي من كسوة الكعبة للقباطي، والوصايل، والحبرات، والعصيب، والأنماط؛ فأما «القباطي» فهي جمع قبطية (بالضم) وهو ثوب من ثياب مصر رقيق أبيض كأنه منسوب إلى القبط، وأما «الوصايل» فثياب حمر مخططه يمانية، وأما «الحبرات» فهو ما كان من البرود مخططا وهو من ثياب، وأما «العصيب» فهو برود يمانية يصعب غزلها، أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج، وأما «الأنماط» فهي ضرب من البسط.
* السياسة والحروب وكسوة الكعبة
* ثم أورد الباحث وبإسهاب تاريخ كسوة الكعبة حتى الوصول إلى العصور المتوسطة مرورا بكسوة الحكومة المصرية موضحا بأنه وبعد أن حل محمد علي باشا خديو مصر الأوقاف الخاصة بالكعبة وأدخلها في خزينة الحكومة المصرية، لا تكسى الكعبة من داخلها ولا الحجرة النبوية إلا تبرعا ممن يتولى السلطنة من آل عثمان، ثم ترك ذلك من زمن بعيد وبقيت كسوة الكعبة من داخلها وكسوة الحجر النبوية من خارجها منذ كساهما السلطان عبد العزيز خان حتى الآن لم تجدد، وسبب كل ذلك هو حل الأوقاف المذكورة، فلو بقيت أوقاف الكسوة على حكمها جارية بحسب شروط واقفها السلطان سليمان بن سليم خان العثماني رحمه الله تعالى لما وقع ما وقع من امتناع الحكومة المصرية عن عمل الكسوة وإرسالها في أوقاتها حسب شرط الواقف في العصر الحاضر، حيث لا مبرر لهذا الامتناع إلا لكونها ترى أن ذلك هو تبرع وتفضل منها على الكعبة المعظمة والحجرة النبوية، وأنه لها الحق في منع ذلك التفضل متى شاءت وشاء لها الهوى، لأن حل الوقف المذكور كان مبناه على منع إرسال الكسوة المذكورة متى أرادت حكومة مصر منعها، وفعلا حصل هذا الامتناع منها في زمن حكومة الشريف الحسين بن علي بن عون، وفي حكومة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود الحالية (وقت تأليف الكتاب) وذلك على قاعدة أن المتبرع لا يجبر على إنفاذ تبرعه لكونه بطبيعة الحال حر في تبرعه إن شاء أنفذه وإن شاء منعه، وهذه الحادثة هي من ضمن الحوادث المؤلمة التي أصيب بها الإسلام من المنتسبين إليه. وقد وفق الله تعالى جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود، إلى إنشاء معمل بمكة المكرمة لعمل كسوة الكعبة المعظمة، وقد صنع فيه عدة كُسَا للكعبة منذ أنشئ إلى اليوم وكسيت منه الكعبة عدة مرات وهو لا يزال يصنع الكسوة حتى الساعة.
وجاء في «تحصيل المرام» ما لفظه: «وكسوة الكعبة المشرفة الآن من حرير أسود وبطانتها من قطن أبيض، وللكسوة الآن طراز مدار بالكعبة (الحزام) وبين الطراز إلى الأرض قريبا من عشرين ذراعا، وعرض الطراز ذراعان إلا شيئا يسيرا، مكتوبا بالفضة مذهبا، وعلى جانب وجه الكعبة بعد البسملة: (إَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ) إلى قوله تعالى «غَنَيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» صدق الله العظيم.
وذكر إبراهيم رفعت باشا كيفية تسليم كسوة الكعبة المعظمة بمكة المكرمة فقال: والكسوة وتوابعها تسلم إلى الشيبي سادن الكعبة بعد أن تصل إلى مكة بمقتضى إشهار شرعي يحضره العلماء والكبراء، ويحفظها في بيته القريب من الصفا حتى إذا ما كان صباح يوم النحر والحجاج بمنى ألبستها الكعبة وتثبت عليها بواسطة حلقات من النحاس الأصفر في دائر الكعبة العلوي، وفي الشاذروان، ويوضع عليها حزامها فيما دون ثلثها الأعلى، أما الكسوة القديمة فيرسل المقصب منها عادة إلى سيادة الشريف (أمير مكة)، وإذا كان الحج بالجمعة يرسل إلى جلالة السلطان، وغير المقصب يأخذه الشيخ الشيبي فيبيعه للحجاج».
هذا ما ذكره مؤرخو مكة وغيرهم من المؤرخين عن كسوة الكعبة المعظمة جاهلية وإسلاما منذ أن كساها إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام إلى سنة وقوع الحرب العامة التي وقعت سنة 1332هـ 1914م.
فلما وقفت الحرب العامة في يوم 8 رمضان سنة 1332هـ 1914م جاءت كسوة الكعبة من مصر على حسب العادة في نهاية السنة المذكورة وألبست الكعبة إياها، ثم لما دخلت الحكومة العثمانية في الحرب العامة وانضمت مع حزب ألمانيا والنمسا ضد الإنجليز وحلفائهم، عملت كسوة الكعبة المعظمة ظنا منها أن الحكومة الإنجليزية ستمنع الحكومة المصرية من إرسال كسوة الكعبة بناء على إعلانها وضع الحماية على مصر، وكانت الكسوة التي عملتها في غاية الجمال والمتانة والظرف والإتقان مع عموم لوازمها وتوابعها المزركشة بالأسلاك الفضية المموهة بالذهب وأرسلتها في السكة الحديدية برا من الأستانة إلى المدينة المنورة، غير أن الحكومة المصرية لم تمنع إرسال الكسوة المعتادة بل إنها أرسلتها في عام 1333 ووضعت على الحزام اسم السلطان حسين كامل سلطان مصر مضافا إلى اسم السلطان محمد رشادخان سلطان تركيا العثماني، فاتفق أمير مكة المكرمة في ذلك العصر الشريف الحسين بن علي مع وإلى الحجاز وقومندانه من قبل الحكومة العثمانية غالب باشا على إخراج تلك القطعة التي عليها اسم سلطان مصر، وتوضع القطعة القديمة التي عليها اسم السلطان محمد رشاد خان فقط، فقام آل الشيبي بذلك العمل، وبقيت تلك الكسوة التي أرسلت من الأستانة بالمدينة المنورة إلى سنة 1341هـ.
فلما أعلن أمير مكة الشريف الحسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون الثورة على الحكومة التركية، باسم استقلال البلاد العربية وفصلها عن حكم الحكومة التركية في فجر يوم السبت الموافق 9 من شهر شعبان سنة 1334هـ الموافق 12 يونيو 1916 أرسلت الحكومة المصرية كسوة الكعبة المعظمة حسب المعتاد، واستمرت في إرسالها إلى سنة 1340هـ ثم وقع خلاف بين الحكومة المصرية وبين الشريف الحسين ملك الحجاز سنة 1341هـ وذلك أنه لما وصل المحمل المصري في باخرة خاصة إلى جدة يصحب معه كسوة الكعبة، وحنطة الجراية، وحرس المحمل، وبعثة طبية، منع الشريف الحسين دخول البعثة الطبية إلى مكة المكرمة فوقع الخلاف ورجع المحمل من ثغر جدة في مركبة بكل ما معه من حنطة الجراية وكسوة الكعبة وغير ذلك من الصرور والمرتبات والصدقات، وذلك في آخر شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، فلما رأى ذلك الشريف الحسين أبرق إلى المدينة المنورة وأمر أميرها بأن يرسل كسوة الكعبة التي أودعتها الحكومة التركية بها إلى ثغر «رابغ» على الفور ثم أرسل أحد بواخره التي بجدة المسماة «رشدي» إلى ثغر رابغ لنقل الكسوة من رابغ إلى جدة، وفعلا نقلت الكسوة من المدينة إلى رابغ ومنها إلى جدة بغاية السرية، ثم نقلت من جدة إلى مكة ووصلت في اليوم الذي تكسى فيه الكعبة المعظمة، وهو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة سنة 1341هـ وكسيت بها الكعبة.
وقد حدث من ذلك ضجة عظيمة في مصر خاصة في الصحافة المصرية وصاروا في حيرة من جراء إحضار تلك الكسوة بتلك السرعة المدهشة لكونهم لم يعلموا أنها كانت حاضرة بالمدينة المنورة منذ بضع سنين، حتى إن بعض الجرائد المصرية ذكرت أنها مجثت في عموم أساكل البحر الأحمر عن معامل تصنع كسوة للكعبة في ظرف عشرة أيام - يعني من يوم رجوع المحمل مع الكسوة من ثغر جدة إلى يوم حضور الكسوة من رابغ إلى جدة - فلم يجد فيما هو أعظم من ثغر رابغ معملا يستطيع صنع ذلك بل ولا معامل أوروبا لم يكن في استطاعتها أن تعمل كسوة للكعبة على حسب المعتاد في مدة عشرة أيام، وإنما هو عمل مدبر وسبب ذلك أن مكاتب «رويترز» بجدة أبرقت بأنه وردت كسوة الكعبة إلى جدة من ثغر رابغ.
ثم بعد ذلك عمل الشريف الحسين كسوة الكعبة من «القيلان» نسجت في العراق احتياطا لما عساه يحدث إذا أتت سنة 1342هـ ولم يحل الخلاف الواقع بينه وبين الحكومة المصرية وامتنعت الحكومة المصرية من إرسال كسوة الكعبة أن يكسوها بها، فلما أتى موعد مجيء الكسوة من مصر في ذلك العام، جاءت الكسوة كالعادة وكسيت بها الكعبة المعظمة، وبقيت الكسوة القيلان محفوظة.
فلما كان عام 1343هـ استعاد جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود مكة المكرمة وبسبب الحرب التي وقعت بينه وبين الشريف الحسين أولا، ثم بعد تنازل الشريف الحسين عن الملك لابنه الملك علي وقعت معه ثانيا، واستمرت إلى منتصف جمادى الآخرة من عام 1344هـ، امتنعت الحكومة المصرية في أثناء ذلك من إرسال كسوة الكعبة العائدة لعام 1343هـ فكساها جلالة الملك عبد العزيز ذلك العام بالكسوة «القيلان» التي عملها الشريف الحسين بالعراق.
فلما كان عام 1344 وانتهت الحرب بانسحاب الملك علي بن الحسين من الحجاز وذلك في يوم الأحد 4 جمادى الثاني سنة 1344هـ الموافق 20 ديسمبر سنة 1925م، واستتب أمر الحجاز لجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود، أرسلت الحكومة المصرية كسوة الكعبة المعظمة مع المحمل وما يتبعه من جند وغير ذلك، فكسيت بها الكعبة في ذلك العام، ثم في موسم ذلك العام وقعت حادثة المحمل بمنى ولطف الله سبحانه وتعالى بحجاج بيته المعظم من شر تلك الحادثة بفضل ما استعمله جلالة الملك عبد العزيز آل سعود من الحكمة والمخاطرة بنفسه في تلك الليلة التي هي ليلة الموقف بعرفة 9 ذي الحجة سنة 1344 وكان حجاج بيت الله تعالى مكتظين بين منى وعرفات وكانت مقذوفات حرس المحمل من المدافع والرشاشات والبنادق تمطر نيرانها هنا وهناك، والحمد لله على لطفه في تلك الليلة.
فلما كان عام 1345هـ وحان وقت مجيء الكسوة من مصر منعت الحكومة المصرية إرسال الكسوة المعتادة للكعبة المعظمة مع عموم العوائد مثل الحنطة والصرور وما شاكل ذلك، التي هي من أوقاف أصحاب الخير على أهل الحرمين منذ مئات السنين، ولم تملك منها الحكومة المصرية شيئا سوى النظارة عليها بسبب أنها الحاكمة على البلاد. ولم تشعر الحكومة السعودية بذلك إلا في غرة شهر ذي الحجة من السنة المذكورة، فصدرت أوامر جلالة الملك عبد العزيز المعظم بعمل كسوة للكعبة في غاية السرعة، فقام رجال العمل ممن تخصصوا لهذا الأمر وفي مقدمتهم وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وعملوا كسوة من الجوخ الأسود الفاخر مبطنة بالقلع القوى، وعمل حزام الكعبة بآلة التطريز وكتبت الآيات عليه بالقصب الفضي المموه بالذهب الوهاج مع ستارة الباب «البرقع» ولم يأت اليوم الموعود لكسوة الكعبة وهو يوم النحر عاشر ذي الحجة من عام 1345هـ إلا والكعبة المعظمة لابسة تلك الكسوة التي عملت في بضعة أيام.
* إنشاء معمل كسوة الكعبة بمكة
* فلما دخلت كسوة الكعبة المعظمة التي كانت تأتي من مصر في دور سياسي، بعد أن كانت من أعمال البر والإحسان وكان ينفق عليها من أوقاف خاصة بها، وأصبح مجيئها متعلقا بالسياسة، وخرجت عن كونها من أعمال البر التي يقصد بها وجه الله تعالى، إلى عمل يقصد به أمور سياسية، صدرت أوامر جلالة ملك المملكة العربية السعودية الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود وذلك في مستهل شهر المحرم الحرام سنة 1346هـ لوزير المالية الشيخ عبد الله السليمان الحمدان بإنشاء دار خاصة لعمل كسوة الكعبة المعظمة، فقام وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان بإنشاء تلك الدار (محارة أجياد) أمام دار وزارة المالية العمومية، فكانت مساحة الأرض التي أنشئت عليها تلك الدار نحو 1500 متر مربع، وأخذ العمال يعملون بغاية «السرعة» فتمت عمارتها في نحو ستة أشهر من عام 1346هـ على دور واحد، وعلى حسب المقتضى لعمل الكسوة بغاية الإبداع والحسن، فكانت هذه الدار أول دار أسست خصيصا لحياكة كسوة الكعبة المعظمة بمكة المكرمة في عصر جلالة الملك عبد العزيز المعظم منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي والإسلام إلى العصر الحاضر.
ثم صدرت أوامر جلالة الملك عبد العزيز المعظم بإحضار العمال اللازمين لحياكة الكسوة المشار إليها وعمل التطريز اللازم للحزام وستارة الباب، وما يقتضي عمله للكسوة وتوابعها من بلاد الهند، فوصل العمال والأنوال من الهند في ابتداء شهر رجب سنة 1346هـ إلى مكة بواسطة الشيخ إسماعيل الغزنوي أحد علماء الهند ووجهائها وفضلائها مع الحرير والصباغ وكل ما يلزم لعلم الكسوة المذكورة، ثم صدر أمر صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم الأمير فيصل بن عبد العزيز المعظم بإسناد إدارة معمل الكسوة الشريفة إلى الشيخ عبد الرحمن مظهر المترجم بوزارة الخارجية السعودية في ذلك الوقت ورئيس مطوفي الهنود حاليا، فقام المذكور بمساعدة وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان في إتمام بناء دار الكسوة، ولما تم البناء قام بترتيب رؤساء العمال الواردين لعمل الكسوة؛ كل بحسب وظيفته، فنصبوا الأنوال، وسبغوا الحرير وباشروا العمل، فكانت الأنوال التي وردت من الهند 12 نولا، وعدد المعلمين النساجين مع المطرزين 40 معلما، وأتباعهم 20، فكان مجموعهم 60 شخصا. وفي نهاية شهر ذي القعدة سنة 1346 تم عمل الكسوة الشريفة على غاية ما يرام من حسن الحياكة وإتقان الصناعة، وإبداع التطريز، على شكل الكسوة التي كانت تأتي من مصر حياكة، وتطريزا، ولونا، أما حياكة الثوب فهي بالحرير الأسود الخاص مكتوب في عمومه بأصل الحياكة على شكل رقم «ثمانية» «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وفي أسفل التجويفة «يا الله» وفي الضلع الأيمن من علو الرقم «ثمانية» «جل جلاله» وكذلك في علو الضلع الأيسر «جل جلاله».
وأما حزام الكعبة فعرضه متر مثل الحزام الذي كان يعمل بمصر مطرزا بالقصب الفضي المموه بالذهب، ومكتوبا عليه بالقصب الفضي المذكور وبأسلاك الفضة «الجر» بخط رائع بديع الصنع. وكتب على الحزام في القسم الشمالي الذي يلي حجر إسماعيل «هذه الكسوة صنعت في مكة المباركة المعظمة بأمر خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود ملك المملكة العربية السعودية، أيده الله تعالى بنصره سنة 1346 هجرية».
فلما كان يوم النحر كسيت بها الكعبة المعظمة حسب المعتاد وظهرت عليها في غاية الحسن والجمال، وكانت محل إعجاب العموم ومفخرة لحكومة جلالة ملك المملكة العربية السعودية الملك المعظم والإمام المفخم المحفوظ بعين عناية المولى عز وجل الملك عبد العزيز الأول أدام الله توفيقاته.. آمين. حيث إنها صنعت بمكة المكرمة ولم يصنع قبلها في أم القرى منذ خلق الله الكعبة المعظمة إلى ذلك اليوم الذي كسيت فيه، وهذه الكسوة هي الأولى من حيث الصنع والنسيج والحياكة والتطريز، وحاز مدير معمل دار الكسوة الأول الشيخ عبد الرحمن مظهر جائزة سنية من حكومة جلالة الملك المعظم وشهادة تقدير على عمله المتقدم ذكره.
ثم عين في سنة 1347 مدير لمعمل الكسوة هو الحاج محمد خان، وهو الذي قام بتعليم أبناء الوطن عمل النسيج والتطريز وصنوف الحياكة حسبما اشترطت عليه الحكومة، ثم في سنة 1352 تم تعيين الشيخ أحمد سالم الجوهري مديرا لمعمل الكسوة المشار إليه، فقام بالعمل بعد الحاج محمد خان أحسن قيام وهو لا يزال مديرا للمعمل المذكور إلى هذا اليوم (وقت تأليف الكتاب قبل ثمانية عقود) ولما جاء موسم عام 1352 كسيت الكعبة المعظمة بكسوة حيكت ونسجت وطرزت بيد أبناء الوطن فكانت في غاية الجمال والإتقان وازداد سرور الجميع بذلك، وجرى العمل بذلك إلى يوم تحرير هذا المؤلف، وهذه الكسوة التي هي على الكعبة المعظمة في هذا العام الذي هو سنة 1354هـ.
* 20 مليونا.. تكلفة كسوة الكعبة
* وقد أولى السعوديون بعد الملك المؤسس عناية واهتماما بكسوة الكعبة ضمن اهتمامهم بأمور الحرمين الشريفين، وآل هذا الاهتمام إلى إنشاء مصنع خاص لكسوة الكعبة المشرفة يجد حاليا اهتماما ورعاية من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وقبل 17 عاما صدر أمر ملكي بنقل الإشراف على مصنع كسوة الكعبة من وزارة الحج إلى الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وساهم هذا الإجراء في تسهيل أعمال المصنع وتوفير احتياجاته وتطوير بعض خطوط الإنتاج، ويشرف على المصنع حاليا محمد بن عبد الكريم القويفلي.
وتبلغ تكلفة كسوة الكعبة أكثر من 20 مليون ريال وتستهلك نحو 670 كيلوغراما من الحرير الخام الذي تتم صباغته داخل المصنع باللون الأسود، ويبلغ عدد طاقات القماش المستخدمة فيها 47 طاقة، ويتم تأمين الحرير اللازم للكسوة من أعلى المستويات ومن كبرى الشركات المختصة، وتستغرق عملية تجهيز الكسوة بالتزامن مع العمل اليدوي والميكانيكي في حدود عشرة أشهر، لكنها تتم في وقت مناسب وكاف قبل تسليمها.
وتتغير كسوة الكعبة الخارجية كل عام، وتتكون من مواد خام منها الحرير والقطن وأسلاك الذهب والفضة، ويتم تحويل هذه المواد إلى منتج متكامل وملموس، في حين أن هناك كسوة داخلية للكعبة يعكف المصنع على صنعها ونسجها، وتصنع من الحرير المصبوغ باللون الأخضر ومنقوش عليها آيات قرآنية تشابه النقش الموجود على الكسوة الخارجية، والكسوة الداخلية للكعبة المصنوعة من الحرير لا تتغير إلا عندما تدعو الحاجة إلى ذلك بعكس الكسوة الخارجية.
ويبلغ ارتفاع الثوب 14 مترا، ويوجد في الثلث الأعلى منه الحزام الذي يبلغ عرضة 95 سم وبطول 47 مترا والمكون من 16 قطعة محاطة بشكل مربع من زخارف إسلامية، كما توجد تحت الحزام آيات قرآنية؛ كل منها مكتوب داخل إطار منفصل، ويوجد في الفواصل التي بينها شكل قنديل مكتوب عليه «يا حي يا قيوم، يا رحمن يا رحيم، الحمد لله رب العالمين»، والحزام مطرز بتطريز بارز مغطى بسلك فضي مطلي بالذهب ويحيط بالكعبة المشرفة بكاملها، وتشتمل الكسوة على ستارة باب الكعبة ويطلق عليها البرقع، وهي معمولة من الحرير بارتفاع 6 أمتار ونصف وبعرض 3 أمتار ونصف، مكتوب عليها آيات قرآنية ومزخرفة بزخارف إسلامية مطرزة تطريزا بارزا مغطى بأسلاك الفضة المطلية من الذهب. وتتكون الكسوة من خمس قطع تغطي كل قطعة وجها من أوجه الكعبة المشرفة، والقطعة الخامسة هي الستارة التي توضع على باب الكعبة ويتم توصيل هذه القطع بعضها مع بعض.