نوبل عام 1999.. كيف تعبر البروتينات الحواجز البشرية؟
Full Transcript
كانَ الأمرُ أشبهَ بالجحيمِ في تلكَ الفترةِ المظلمةِ منْ تاريخِ العالم. فالحربُ العالميةُ الثانيةُ في أَوجِها. اتخذتِ الخطاباتُ العدائيةُ المتبادلةُ بينَ النازيِّ الألمانيِّ "أدولف هتلر" ورئيسِ الوزراءِ البريطانيِّ "ونستون تشرشل" منحىً خطيرًا. كانَ "هتلر" حريصًا على عدمِ شنِّ غاراتٍ جويةٍ على العاصمةِ البريطانيةِ "لندن". ولكنْ؛ وفي أثناءِ إحدى الغاراتِ على مُدنٍ بريطانيةٍ أخرى؛ أسقطتِ الطائراتُ الألمانيةُ قنابلَ -بالخطأِ- على مدينةِ الضباب. ليشُنَّ "تشرشل" مجموعةً منَ الهجماتِ الجويةِ المحدودةِ على العاصمةِ الألمانيةِ "برلين".
تصاعدتِ الأمورُ أكثرَ فأكثر؛ ليقررَ الحلفاءُ قصفَ مدينةِ "دريسدن" الألمانية. كانَ القصفُ عنيفًا بحقٍّ؛ قُتِلَ نحوُ مئةِ ألفٍ وعشرةِ آلافِ شخصٍ مدنيٍّ في المدينة. دُمرتْ تلكَ المدينةُ بالكامل؛ أصبحتْ مبانيها حطامًا؛ وبيوتُها أثرًا بعدَ عين.
في أثناءِ القصف؛ وعلى بُعدِ ثلاثينَ كيلومترًا منْ "دريسدن" كانَ الصبيُّ "جونتر بلوبل" الذي يبلغُ منَ العمرِ تسعَ سنواتٍ يرتعشُ في أحضانِ والدتِه. يُشاهدُ القصفَ العنيفَ المُدمِّر. عاشَ الطفلُ حياةً شاقةً بحقٍّ؛ فقدْ وُلدَ في قريةٍ صغيرةٍ في الجزءِ الشرقيِّ منْ ألمانيا آنذاك -ذلكَ الجزءُ الذي أصبحَ الآنَ ضمنَ الحدودِ البولندية.
في نهايةِ يناير عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعينَ، اضطُرتِ العائلةُ إلى الفرارِ منْ تقدُّمِ الجيشِ الأحمرِ الروسي. يقولُ "بلوبل": بقيَ والدي، وهوَ طبيبٌ بيطري، في الخلفِ لبضعةِ أيامٍ أخرى وغادرَ قبلَ ساعاتٍ فقطْ منْ دخولِ الجيشِ الأحمر.
قادَ شقيقُه "راينر" البالغُ منَ العمرِ أربعةَ عشَرَ عامًا سيارةً صغيرةً محشورٌ داخلَها والدتُه وأخوه الأصغر وأختاهُ الصغيرتانِ في اتجاهِ "دريسدن". يتذكرُ "جونتر بلوبل" قِبابَ المدينةِ وأبراجَها العديدةَ والقصورِ الجميلة. كانَ الطفلُ سعيدًا بالمدينةِ التي تُشبهُ موطنَ الملائكةِ برموزِها المعماريةِ الساحرةِ التي تنتمي إلى عصرِ الباروك. تركتِ المدينةُ لديهِ انطباعًا لمْ يُمحَ؛ حتى بعدَ أنْ سوَّى الحلفاءُ عاليَها بسافلِها.
فبعدَ نحوِ خمسةَ عشَرَ يومًا منِ استقرارِ العائلةِ في منزلٍ بالقربِ منْ دريسدن؛ وتحديدًا في يومِ الثالثَ عشَرَ منْ فبراير عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعين؛ شاهدَ الطفلُ "ليلةً مُشتعلة" دمرتِ المدينةَ الثقافيةَ بوابلٍ منَ القنابل. يقولُ "بلوبل": كانَ يومًا حزينًا جدًّا لا يُنسى بالنسبةِ لي".
بعدَ نحوِ أربعةٍ وخمسينَ عامًا على هذا المشهد؛ وقفَ "جونتر بلوبل" على مسرحٍ مهيب. بعدَ أنْ أعلنَ معهدُ "كارولينسكا" للعلومِ فوزَه بجائزةِ نوبل الطبِّ لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وتسعين. وقفَ يشكرُ الجميع؛ ثمَّ أعلنَ تبرعَه بكاملِ مبلغِ الجائزةِ لترميمِ "دريسدن" وإعادةِ بناءِ كنيسةِ "فراون" تخليدًا لذكرى أختِه "روث بلوبل" التي توفيتْ منْ جرَّاءِ قصفٍ جويٍّ لمحطةِ قطارٍ ودُفنتْ في مقبرةٍ جماعيةٍ بالقربِ منْ موقعِ الهجومِ في شفاندورف بولايةِ بافاريا.
لكنْ؛ لماذا فازَ هذا الرجلُ الأمريكيُّ ذو الأصولِ الألمانيةِ بجائزةِ "نوبل" الطب؟
مُنحتِ الجائزةُ لـ"بلوبل" بعدَ أنِ اكتشفَ أنَّ البروتيناتِ تملكُ خواصَّ جوهريةً لها تأثيرٌ بالغٌ على العملياتِ الحيوية.
يتمُّ صنعُ عددٍ كبيرٍ منَ البروتيناتِ التي تؤدي وظائفَ أساسيةً داخلَ خلايانا. لكنْ؛ يجبُ نقلُ هذهِ البروتيناتِ إمَّا خارجَ الخليةِ أو إلى الأجزاءِ المختلفةِ – المعروفةِ باسمِ العِضيَّاتِ – داخلَ الخلية.
لكنْ؛ كيفَ يتمُّ نقلُ البروتيناتِ حديثةِ الصنعِ عبرَ الغشاءِ المحيطِ بالعضيات، وكيفَ يتمُّ توجيهُها إلى موقعِها الصحيح؟
تمتِ الإجابةُ عنْ هذهِ الأسئلةِ منْ خلالِ عملِ "بلوبل". ففي بدايةِ السبعينياتِ اكتشفَ أنَّ البروتيناتِ المصنعةَ حديثًا لها إشارةٌ جوهريةٌ ضروريةٌ للتحكمِ في غشاءِ الشبكةِ الإندوبلازمية، إحدى عضياتِ الخليةِ وعبرَها. وخلالَ العشرين عامًا التالية، وصفَ "بلوبل" بالتفصيلِ الآلياتِ الجزيئيةَ الكامنةَ وراءَ هذهِ العمليات. كما أظهرَ أنَّ لكلِّ خليةٍ مجموعةً منَ "الرموزِ البريدية" توجهُ البروتيناتِ إلى عضياتٍ أخرى داخلَ الخلايا. وأنَّ تلكَ العملياتِ تنطبقُ على جميعِ الكائناتِ الحيةِ النباتيةِ أوِ الحيوانيةِ على السواء.
كما وضَّحَ "بلوبل" أنَّ الأخطاءَ في عملياتِ النقلِ وآلياتِه قدْ ينجمُ عنها عددٌ منَ الأمراضِ الوراثية؛ وهوَ الأمرُ الذي أسهمَ في تطويرِ استخدامِ الخلايا كـ"مصانعِ بروتين" لإنتاجِ الأدويةِ المهمة.
يتكونُ الإنسانُ البالغُ منْ حوالَي مليون مليارِ خلية. تحتوي الخليةُ على العديدِ منَ الأجزاءِ المختلفةِ، العضيات، كلٌّ منها محاطٌ بغشاء. تلكَ العضياتُ متخصصةٌ لأداءِ مهماتٍ مختلفة. فنواةُ الخليةِ، على سبيلِ المثال، تحتوي على المادةِ الوراثية (DNA) وبالتالي تتحكمُ في جميعِ وظائفِ الخلية. أمَّا الميتوكوندريا فهيَ بمنزلةِ "محطاتِ الطاقة" التي تنتجُ الطاقةَ التي تحتاجُ إليها الخلية، والشبكةُ الإندوبلازميةُ جنبًا إلى جنبٍ معَ الريبوسومات، مسؤولةٌ عنْ تخليقِ البروتينات.
تحتوي كلُّ خليةٍ على ما يَقربُ منْ مليارِ جزيءِ بروتين، والتي لها عددٌ كبيرٌ منَ الوظائفِ المهمة. يشكلُ بعضُها اللبناتِ الأساسيةَ لبناءِ الخليةِ بينما يعملُ البعضُ الآخرُ كأنزيماتٍ تحفزُ آلافَ التفاعلاتِ الكيميائيةِ المحددة. تتحللُ البروتيناتُ داخلَ الخليةِ ويُعادُ تركيبُها باستمرار. الأحماضُ الأمينيةُ – وهيَ اللبناتُ الأساسيةُ التي تتكونُ منها جميعُ البروتينات - قدْ يتراوحُ عددُها في بروتينٍ واحدٍ منْ حوالَي خمسينَ إلى عدةِ آلافٍ مكونًا سلاسلَ طويلةً مطوية.
لكنْ؛ كيفَ تعبُرُ البروتيناتُ الحواجزَ الخلوية؟
ظلتِ الإجابةُ عنْ ذلكَ السؤالِ لغزًا كبيرًا؛ فالكيفيةُ التي تُمكِّنُ البروتيناتِ الكبيرةَ منْ عبورِ الأغشيةِ المغلقةِ بإحكامٍ والمحتويةِ على الدهونِ والمحيطةِ بالعضياتِ غيرُ معروفةٍ على الإطلاق.
لكنَّ "بلوبل" تمكَّنَ منْ حلِّ تلكَ الألغاز.
عاشَ "بلوبل" حياةً تعيسةً في بدايةِ حياتِه. كانتْ عائلتُه مُشتتةً؛ إذْ لمْ يكنْ لدى أقاربِه مساحةٌ كافيةٌ لاستيعابِ عائلتِه مما جعلَهم مُقسمينَ بينَ عدةِ أقاربَ في قرىً مختلفة. كانتِ الأشهُرُ التي سبقتْ نهايةَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ مأسويةً وفوضوية؛ طعامٌ قليلٌ ولا أمانَ على الإطلاق.
لحسنِ الحظِّ، سارتِ الأمورُ نحوَ الأفضل، عندما تمكنَ والدُه منْ مواصلةِ ممارستِه البيطريةِ في بلدةِ "فرايبورغ" الساحرةِ التي تعودُ إلى العصورِ الوسطى. تمَّ لمُّ شملِ أفرادِ عائلتِهم هناكَ بحلولِ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةٍ وأربعينَ. عاشتِ العائلةُ في فيلا جميلةٍ محاطةٍ بحديقةٍ كبيرةٍ على أطرافِ المدينة. كانتْ طريقُه إلى المدرسةِ على طولِ سورِ المدينةِ القديمِ المبنيِّ في العصورِ الوسطى. وكانتِ المدينةُ التي كان يسكنُها وقتَها أربعُمِئَةِ ألفِ شخصٍ تتمتعُ بحياةٍ ثقافيةٍ غنيةٍ بمسرحٍ يبلغُ منَ العمرِ مئةً وخمسةً وسبعينَ عامًا. كانتْ عائلةُ "بلوبل" تعيشُ في شرقِ ألمانيا الذي يتحكمُ فيه الاتحادُ السوفيتي. عندما تخرجَ في المدرسةِ الثانويةِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وخمسينَ لمْ يكنْ مسموحًا لهُ بمواصلةِ دراستِه في الجامعةِ لأنهُ كانَ يُعتبرُ عضوًا في الطبقاتِ "الرأسمالية".
لحسنِ الحظِّ، في ذلكَ الوقت، أيْ قبلَ جدارِ برلين، كانَ منَ الممكنِ الهروبُ والسفرُ بحريةٍ إلى ألمانيا الغربية. لذلكَ، في الثامنِ والعشرينَ منْ أغسطس، وهوَ يومُ عيدِ ميلادِ الكاتبِ الألمانيِّ الكبيرِ جوته الذي يعشقُه "بلوبل" غادرَ "فرايبورغ" متوجهًا إلى فرانكفورت في ألمانيا الغربية. غادرَ القطارَ في الصباحِ وبعدَ الظهرِ مرَّ بفايمار، حيثُ قضى جوته معظمَ حياتِه، ثم إيزيناتش، حيثُ وُلدَ الموسيقارُ الألمانيُّ العظيمُ "باخ" وهوَ المؤلفُ الموسيقيُّ الأفضلُ بالنسبةِ لـ"بلوبل"، وفي المساءِ وصلَ إلى فرانكفورت، مسقطِ رأسِ جوته.
درسَ "بلوبل" الطبَّ في جامعةِ "فرانكفورت"، ثمَّ في "كيل" و"توبنغن" و"ميونيخ"، وتخرجَ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستينَ في جامعةِ توبنغن. ثمَّ أكملَ عامينِ منَ التدريبِ في العديدِ منَ المستشفياتِ الصغيرة، إلا أنَّهُ قررَ عدمَ مواصلةِ تدريبِه الطبِّي. يقولُ: "كنتُ مفتونًا بمشكلاتِ الطبِّ التي لمْ يتمَّ حلُّها أكثرَ منْ ممارستِها. لحسنِ الحظِّ، كانَ لأخي الأكبرِ هانز تجربةٌ مماثلةٌ في مجالِ دراستِه الطبِّ البيطري".
كانَ أخوهُ "هانز" قدْ حصلَ على زمالةِ فولبرايت المرموقةِ للدراسةِ في الولاياتِ المتحدة، وواصلَ تدريبَه هناكَ في علمِ الأحياءِ الدقيقةِ وحصلَ بسرعةٍ على رتبةِ أستاذٍ في جامعةِ ويسكونسن في ماديسون. يقولُ "بلوبل": لقدْ كانَ متعاطفًا للغايةِ معَ مشكلتي وساعدَني في الحصولِ على زمالةِ الدراساتِ العليا للدراسةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وستينَ، أبحرتُ إلى مونتريال على متنِ سفينةِ شحنٍ ألمانيةٍ منَ الصلب، ومنْ هناكَ سافرتُ إلى ماديسون ووصلتُ في يومٍ متأخرٍ جميلٍ منْ شهرِ مايو.
وهناكَ؛ استقرَّ بهِ المطافُ في جامعةِ "روكفلر" ففي نهايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي؛ انضمَّ إلى مختبرِ بيولوجيا الخليةِ الشهيرِ لجورج باليد في معهدِ روكفلر في نيويورك. وخلالَ عقدينِ منَ الزمنِ، درسَ العلماءُ في ذلكَ المختبرِ بنيةَ الخليةِ ومبادئَ نقلِ البروتيناتِ المركبةِ حديثًا خارجَ الخلية. حصلَ "جورج باليد" بسببِ هذا العملِ على جائزةِ الطبِّ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وسبعينَ (والتي شاركَها مع العالِمَينِ البلجيكيَّينِ ألبرت كلود وكريستيان دي دوف).
درسَ "بلوبيل" كيفَ يتمُّ استهدافُ البروتينِ المصنوعِ حديثًا، والمقدرُ أنْ ينتقلَ خارجَ الخلية، إلى نظامِ غشاءٍ متخصصٍ داخلَ الخلايا، وهوَ الشبكةُ الإندوبلازمية.
وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وسبعينَ صاغَ النسخةَ الأولى منْ "فرضيةِ الإشارة". افترضَ أنَّ البروتيناتِ التي تفرَزُ منَ الخليةِ تحتوي على إشارةٍ داخليةٍ تتحكمُ بها عبرَ الأغشيةِ وعبرَها.
وباستخدامِ مجموعةٍ منَ التجاربِ البيوكيميائيةِ الأنيقة، وصفَ "بلوبيل" في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وسبعينَ الخطواتِ المختلفةَ في هذهِ العمليات. تتكونُ الإشارةُ منْ "الببتيد" أيْ سلسلةٍ منَ الأحماضِ الأمينيةِ بترتيبٍ معينٍ تشكلُ جزءًا لا يتجزأُ منَ البروتين. كما اقترحَ أنَّ البروتينَ يجتازُ غشاءَ الشبكةِ الإندوبلازميةِ عبرَ قنواتٍ خاصة. خلالَ العشرينَ عامًا التالية، قامَ "بلوبيل" وزملاؤُه خطوةً بخطوةٍ بتمييزِ التفاصيلِ الجزيئيةِ لهذهِ العمليات. في النهايةِ تبيَّنَ أنَّ فرضيةَ الإشارةِ كانتْ صحيحةً كما يُمكنُ تطبيقُها على كلِّ الكائناتِ الحيةِ لأنَّ العملياتِ تعملُ بالطريقةِ نفسِها في الخميرة، والخلايا النباتيةِ والحيوانية.
بالتعاوُنِ معَ مجموعاتٍ بحثيةٍ أخرى، تمكَّنَ "بلوبيل" منْ إظهارِ أنَّ الإشاراتِ الجوهريةَ المماثلةَ تستهدفُ نقلَ البروتيناتِ أيضًا إلى عضياتٍ أخرى داخلَ الخلايا. على أساسِ نتائجِه، صاغَ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانينَ مبادئَ عامةً لفرزِ البروتيناتِ واستهدافِها لمقصوراتٍ خلويةٍ معينة. يحملُ كلُّ بروتينٍ في بنيتِه المعلوماتِ اللازمةَ لتحديدِ موقعِه الصحيحِ في الخلية. تحددُ تسلسلاتُ الأحماضِ الأمينيةِ المحددةُ ما إذا كانَ البروتينُ سيمرُّ عبرَ غشاءٍ إلى عضيةٍ معينة، أوْ سيتمُّ دمجُه في الغشاء، أوْ سيتمُّ تصديرُه خارجَ الخلية.
كانَ لاكتشافِ "بلوبل" تأثيرٌ هائلٌ على الأبحاثِ البيولوجيةِ الخلويةِ الحديثة.
عندما تنقسمُ الخلية، تتكونُ كمياتٌ كبيرةٌ منَ البروتيناتِ وتتشكلُ عضياتٌ جديدة. إذا كانَ للخليةِ أنْ تعملَ بشكلٍ صحيح، يجبُ أنْ تستهدفَ البروتيناتُ مواقعَها الصحيحة. لقدْ زادَ بحثُ "بلوبيل" بشكلٍ كبيرٍ منْ فهمِنا للآلياتِ الجزيئيةِ التي تحكمُ هذهِ العمليات. علاوةً على ذلكَ، زادتِ المعرفةُ حولَ الإشاراتِ البروتينيةِ منْ فهمِنا للعديدِ منَ الآلياتِ المهمةِ طبيًّا. على سبيلِ المثال، يستخدمُ جهازُ المناعةِ لدينا إشاراتٍ محددةً في إنتاجِ الأجسامِ المضادة.
ساعدَ بحثُ "بلوبيل" في شرحِ الآلياتِ الجزيئيةِ وراءَ العديدِ منَ الأمراضِ الوراثية. إذا تمَّ تغييرُ إشارةِ الفرزِ في البروتين، فقدْ ينتهي الأمرُ بالبروتينِ في مكانٍ خطأٍ في الخلية. أحدُ الأمثلةِ على ذلكَ هوَ مرضُ فرطِ أوكسالاتِ البولِ الأوليِّ الوراثي، الذي يسببُ حصواتِ الكُلى في سنٍّ مبكرة. في بعضِ أشكالِ فرطِ كوليسترولِ الدمِ العائلي، يكونُ ارتفاعُ مستوى الكوليسترولِ في الدمِ بسببِ إشاراتِ النقلِ الضعيفة. أمراضٌ وراثيةٌ أخرى، مثلَ التليفِ الكيسي بسببِ حقيقةِ أنَّ البروتيناتِ لا تصلُ إلى وجهتِها الصحيحة.
خلالَ خطابِه بمناسبةِ الجائزة؛ قالَ "بلوبل": نُقشَ فوقَ مدخلِ معبدِ أبولو في اليونانِ حكمةُ "اعرفْ نفسَك". منذُ أنْ تكهنَ سقراط وأفلاطون لأولِ مرةٍ بطبيعةِ العقلِ البشري، اعتقدَ المفكرونَ الجادونَ عبرَ العصورِ - منْ أرسطو إلى ديكارت أنَّه منَ الحكمةِ فهمُ الذاتِ وسلوكِ الفرد. لكنْ في سعيِهم لفهمِ الذات، كانتِ الأجيالُ الماضيةُ محصورةً فكريًّا، لأنَّ أسئلتَهم حولَ العقلِ اقتصرتْ على الأُطُرِ التقليديةِ للفلسفةِ الكلاسيكيةِ وعلمِ النفس. لقدْ تساءلُوا: هلْ تختلفُ العملياتُ العقليةُ عنِ العملياتِ الفيزيائية؟ كيفَ يتمُّ دمجُ الخبراتِ الجديدةِ في العقلِ كذاكرة؟
حاولَ جيلُ "بلوبل" منَ العلماءِ ترجمةَ الأسئلةِ الفلسفيةِ المجردةِ حولَ العقلِ إلى اللغةِ التجريبيةِ لعلمِ الأحياء. فالمبدأُ الأساسيُّ الذي يوجهُ عملَهم هوَ أنَّ العقلَ عبارةٌ عنْ مجموعةٍ منَ العملياتِ التي يقومُ بها الدماغُ، وهوَ جهازٌ حسابيٌّ معقدٌ بشكلٍ مذهلٍ يبني إدراكَنا للعالمِ الخارجيِّ، ويثبِّتُ انتباهَنا، ويتحكمُ في أفعالِنا... يقولُ "بلوبل" إنَّ اكتشافاتِه أسهمتْ في تمهيدِ الطريقِ الوعرِ لفهمِ طبيعةِ العملياتِ الحيوية، "فلنْ تؤديَ الأفكارُ التي تأتي منْ هذا العلمِ إلى تحسينِ فهمِنا للاضطراباتِ النفسيةِ والعصبيةِ فحسبُ، بلْ ستؤدِّي أيضًا إلى فهمٍ أعمقَ لأنفسِنا"