رمضان الطفولة.. على سبيل التذكر
لا يحضرني طعم أول رمضان صمته ولا لونه، لكن الكثير من ذكريات البدايات مازال عالقا بالذاكرة، صور ومشاهد لا تغيب لطفولة تحاول تعويض الحرمان من الطعام في نهار رمضان بحصص من اللعب في الفضاءات المفتوحة.. كان رمضان بمثابة التمرين الأول للسهر في حياتنا، للسهر خارج البيت، وداخل حدود الحي الذي ما كان إلا بمثابة عائلة ممتدة وبيوت متشابكة في علاقاتها الأسرية والاجتماعية.
لانصراف العتمة وتسلل أول خيط من خيوط الفجر أثر سحري في هذه الذاكرة.. هو الفجر في أصدق بياناته حيث العصافير تبدد ما تبقى من سكون الليل، لنبدأ معها في طرد كل النعاس الذي كانت عليه الشوارع في لحظات العتمة.. لم نكن بحاجة إلى كاتالوج للفرح واللعب، يكفي أن يحدث التلاقي بين الرفقة لتبدأ الأفكار في الانسيال.
في مبتدأ الطفولة كانت البهجة منثورة في اتساع المساحات الفارغة، خيار كرة القدم يتقدم كل الخيارات، لكنها خيار العطش الطويل، نهرب منها لألعاب لا تستوجب الركض الطويل، نجرب يومها لعبة الهول والنص عنبر والحجلة والجلينة، نحاصر أنفاس التعب بالمزيد من الاقتراحات التي لا تهبنا الرجوع الباكر للبيت.. الذين يكبروننا بالعمر وجدوا غوايتهم في ألعاب أخرى، كالطائرة والسلة والتنس الأرضي، كانت الزاوية المجاورة لمستودع غاز الحواج موضع اجتماعهم، وكان هذا التنوع في الألعاب مدعاة لتسمية هذه الزاوية بسيؤول كناية عن البلد الذي استضاف الألعاب الأولمبية في الثمانينات.
نبكر ويكبر عنوان اللعب في رمضان، كرة اليد التي أخذت البلدة إلى أحلامها ووعودها تتحول إلى لعبة رمضانية، هذه المرة سنتابعها دون المشاركة فيها، ثمة تواريخ ميلاد تتقدمنا هي من تتقدم المشهد، صارت المشاهدة هي عنوان التسلية قبل أن نعقد العزم لتسلق أسوار واحدة من المدارس كل مساء من أجل معانقة اللعبة الأكثر شعبية في البلد الصغير.
وكما كان الشارع مستودع حكاياتنا في رمضان، كانت زوايا البيوت ملاذا لنا في ساعات القيظ، نهرب من فتاوى التحريم التي تطارد كل أشكال اللعب بالورق باتجاه لعبة الأونو، بدت وكأنها الناجية الوحيدة من العصا الغليظة آنذاك، نحتشد لها في بيت أحد الملالي في الحارة كمن يريد بذلك غطاء شرعيا لبهجة بريئة لكنها عرضة للاتهام.. كانت لعبة اللص والحاكم حاضرة أيضا، وكذا بنت وولد، وقبلها المونوبولي الشهيرة التي صرفنا فيها نهارات بكاملها، قبل أن تغزونا أجهزة صخر بألعابها الإلكترونية وتأخذنا إلى لعبة البطريق، هذه اللعبة التي أمسكنا عيوننا عن النوم لأجل إكمال كل فصولها.
رمضان الكريم كان كريما مع الأطفال وهو يهبهم فسحة لاختبار حواسهم وتنمية صور التفاعل الاجتماعي فيما بينهم، لذلك كان الحي حيا بصغاره قبل كباره، وكان الأطفال ينتظرونه كفسحة مفتوحة على عناوين اللعب والتحرر من رتابة الالتزامات المدرسية