كارل ماركس والباب العالي.. لماذا دعا مؤسس الشيوعية إلى إسقاط الدولة العثمانية؟
يُعرف كارل ماركس أنه مفكر الشيوعية والاشتراكية الأبرز في العصر الحديث، وهو صاحب النقد الأهم لنظرية الرأسمالية الديمقراطية التي اشتهرت في أوروبا الغربية، وفي إطار إيمان ماركس بالفلسفة المادية ونفوره من الفلسفة الرومانسية، أصبح لديه رؤية سياسية اقتصادية وفلسفية تتكئ على الجدلية المادية، أو الصراع الطبقي الذي يجب أن تسيطر فيه الطبقة العاملة على زمام الأوضاع في أرجاء العالم كافة، وهي الطبقة التي سمَّاها في كتابه "الحزب الشيوعي" بـ"البروليتارية".
في إطار إيمانه بهذه الأفكار وترويجه لها، واجه ماركس تضييقا كبيرا من الدولة البُرُّوسية التي كان أحد مواطنيها؛ الأمر الذي اضطره إلى الهجرة إلى فرنسا حيث اقترب من اشتراكييها، لكن سرعان ما ضاق الفرنسيون به ذرعا في أواخر العقد الخامس من القرن التاسع عشر، ليُقرِّر السفر والرحيل والاستقرار في السنوات الثلاثين الأخيرة من عمره في العاصمة البريطانية لندن.
في موطنه الجديد، أنتج ماركس عدة أدوات نظرية وتحليلية، وصاغ جملة من المفاهيم في إطار نقده للمجتمع الرأسمالي، داعيا إلى ضرورة قيام الثورة البروليتارية بُغية التحوُّل إلى الاشتراكية، ومؤكِّدا أن هذا التحوُّل حتمية تاريخية بالإضافة إلى كونه ضرورة. وقد تحدَّث ماركس عن مفهوم الصراع الطبقي في البيان الشيوعي، واعتبر تاريخ أي مجتمع هو تاريخ صراعات طبقية، بسبب تضارب المصالح بين الطبقات الاجتماعية، ورأى أن رحى هذا الصراع داخل المجتمع الرأسمالي تدور بين أصحاب رأس المال المُضطهِدين والعُمال المُضطهَدين.
الثورة البروليتارية
كما صاغ ماركس مفهوم المادية الجدلية انطلاقا من مفهومَيْ الجدلية عند هيغل والمادية عند فيورباخ، ووظَّفه لكي يُقدِّم تصوُّرا ماديا للتاريخ الإنساني، وشرح مفهوم الاغتراب (الاستلاب) الاقتصادي، الذي يؤدي بدوره إلى اغتراب اجتماعي وسياسي للإنسان. كما قدَّم مفهومه الخاص عن القيمة، الذي طوَّره انطلاقا من مفهوم القيمة عند الاقتصاديين الكلاسيكيين (سميث وريكاردو)، وأبدع مفهومَيْ فائض القيمة وتراكم رأس المال اللذين جعلاه يتنبَّأ بعدم قدرة النمط الاقتصادي الرأسمالي على الاستمرار، وحتمية تحوُّل المجتمع الإنساني إلى النمط الاشتراكي في الإنتاج.
اللافت في فكر كارل ماركس أنه لم يتوقف عند نقد أنماط الإنتاج والتنظير لسيادة العُمالية العَالمية على حساب أصحاب رأس المال، وإنما امتلك رؤية تجاه الدول الإمبراطورية القديمة وعلى رأسها الدولتان العثمانية والقيصرية الروسية، وهما من أهم وأكبر دول العالم القديم في القرن التاسع عشر. وقد صبَّ كارل ماركس جام غضبه على الدولة العثمانية، ورأى تعامل الدول الأوروبية معها مُتردِّدا وكسولا وغير مُلِم بحقيقة الأوضاع الداخلية فيها، حيث رأى أنه يجب القضاء عليها، واقتطاع دولة عثمانية "أوروبية" في أوروبا الشرقية والبلقان.
بالمثل، كان كارل ماركس من المناهضين لنموذج الدولة القيصرية الإمبراطورية الروسية، ربما بسبب سيطرة طبقة كبار الملاك والبرجوازيين على خيرات البلاد، ووجود طبقات النبلاء أو كبار الإقطاعيين الذين استفادوا من خيرات وتعب الفلاحين والعُمال والمستضعفين. لكننا سنكتشف بعد قليل فيما يخص الدولة العثمانية والعالم الآسيوي تحديدا أن كارل ماركس لم ينظر إليهما من خلال هذه الرؤية أو الزاوية الاشتراكية الثورية التي كان يدعو لها، وإنما نظر إليها نظرة أوروبية مُتعصِّبة وتعامل معها من منظور استشراقي ضيق للغاية.
كارل ماركس والغرب المتردد
في عام 1853م كتب ماركس مقالة عن "الحكم البريطاني في الهند"، وفي حين انتقد ماركس الاستعمار البريطاني لإلحاقه "نوعا أكثر حِدَّة" من البؤس بشعب الهند أكثر مما كانوا يعانونه من قبل، فإن ماركس في هذا المقال بدأ بوضع الخطوط العريضة لنظرية "الاستبداد الشرقي" المُستخدَمة حينئذ لوصف الاقتصاد السياسي للمجتمعات غير الغربية. تُقدِّم نظرية "الاستبداد الشرقي" العالم الشرقي بوصفه "آخرَ" منغلقا إلى الأبد في وضع ثابت وراكد ومُتخلِّف مقارنة به، وهو "آخر" ستجرفه ببساطة قوى "التقدُّم" الأوروبية في نهاية المطاف.
على مدار حلقات طويلة من المقالات التي كتبها في الصحافة الغربية، وعلى رأسها "نيويورك تريبيون" التي عمل مراسلا لها في لندن، تناول ماركس الدولة العثمانية بشيء من النقد العنيف، كما انتقد منذ عام 1853م، وطيلة السنوات اللاحقة، تخاذل الحكومات الغربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا والنمسا، وجهلهم بالدولة العثمانية ومدى "التعفُّن" و"الاهتراء" الذي أُصيبت به هذه الدولة على حد وصفه، وأن على هذه الدول الغربية أن تُفكِّك الإمبراطورية العثمانية.
تعمَّقت رؤية ماركس تلك حين رأى استغلال الإمبراطورية القيصرية الروسية لهذا التردُّد الأوروبي في قضم واقتطاع أقطار الدولة العثمانية، وفي إشعال الثورات ضدها في البلقان خصوصا من الأرثوذكس في صربيا سنة 1809م واليونان في 1821م وغيرهما. وإزاء هذا التقدُّم الروسي الذي زاد من قوة الهيمنة الروسية أوروبيا وعالميا، أي هيمنة "الرجعية الاستبدادية" (الروسية) كما وصفها، وقف الأوروبيون يتخبَّطون خوفا وتردُّدا، إذ رأت الدبلوماسية والإستراتيجية الأوروبية أهمية "المحافظة على الوضع القائم في تركيا باعتباره شرطا ضروريا للسلم العالمي"، وهو ما أثار حفيظة ماركس الذي انتقد هذه الرؤية الأوروبية، واعتبرها دليل فشل وجهل.
والحق أن قسما كبيرا من الساسة الأوروبيين رأوا أن التجارة في الدولة العثمانية في طور النمو، وأن الإصلاحات التي قامت بها الدولة في عصر التنظيمات أدَّت إلى تطورات مهمة في علاقة الدولة العثمانية بالعالم الغربي، لكن ماركس يتهم هذه الرؤية بالجهل التام، ويجعل سبب هذا التطور محصورا في غير الأتراك حسبما أشار قائلا: "إن اليونانيين والأرمن والسلاف والغربيين الذين يقيمون في المرافئ البحرية الكبرى هم الذين يقومون بكل التجارة، ولو طردنا جميع الأتراك من أوروبا فلن تتأذى التجارة من جراء ذلك".
تعصُّب ماركس تجاه العثمانيين
بل يذهب ماركس إلى أبعد من ذلك في غمط دور الأتراك في الدولة العثمانية بالكلية مُعتبرا إياهم سبب الفشل والتخلُّف الحضاري فيها، ومُشيرا إلى أن عبء التقدُّم و"الحضارة" يقوم به غيرهم من الأجناس الأوروبية، فـ"البرجوازية اليونانية والسلافية الموجودة في جميع المدن والمراكز التجارية هي السند الحقيقي لكل نوع من الحضارة"، ولهذا السبب يجب القضاء على عناصر القوة التي امتلكها العثمانيون بواسطة احتكارهم "الحكم والجيش".
يناقض ماركس نفسه حين يُقِرُّ بأن روسيا كانت السبب الأبرز في شراء العملاء وتجنيدهم داخل تركيا، وبث الثورة في رعايا الدولة العثمانية المؤمنين بالأرثوذكسية في صربيا واليونان وغيرها، وأنها كانت السبب في خلخلة الأمن وبث روح الاستقلال ومحاربة الدولة العثمانية في رومانيا وبلغاريا وفلاشيا (بولندا) ومولدوفا وغيرها، ثم يعود متهما الباب العالي باضطهاد الرعايا المسيحيين. ففي معرض انتقاده للسياسة الأوروبية وفشلها قال ماركس: "ما قوام هذا الوضع القائم (الذي دافعت عنه أوروبا في الدولة العثمانية)؟ إنه يعني ببساطة بالنسبة لرعايا الباب العالي المسيحيين أنهم سيبقون دائما مضطهدين من تركيا.. إن النظام الدبلوماسي (الغربي) الذي أُعِدَّ ليَحول دون التوسُّع الروسي يدفع بعشرات الملايين من المسيحيين الروم في تركيا الأوروبية إلى طلب المساعدة والحماية من روسيا".
يشحذ كارل ماركس كل أسلحته الفكرية أمام جمهور قُرَّائه لإقناع الخاصة والعامة في أوروبا وأميركا بضرورة "إنهاء" الوضع القائم في الدولة العثمانية بدلا من المحافظة عليه، وفي هذه المرة يحاول إخضاع رؤيته الاشتراكية القائمة على الصراع الطبقي في تفسير الأوضاع الداخلية للدولة العثمانية، فهو يرى معاناة "سلافيي تركيا (في البلقان) من استعبادهم بواسطة طبقة مسلمة من المُلَّاك العقاريين العسكريين".
رأى ماركس في الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية قوى آسيوية رجعية لا يصلح معها إلا مدافع القارة الأوروبية "التقدُّمية". وقد كتب ذات مرة مُفصِحا عن رأيه في التعامل مع القوى الرجعية في آسيا والشرق: "إن على إنجلترا أن تفي بمهمة ذات شقين؛ الشق الأول يُدمِّر، والثاني يُعيد التوليد والإحياء، فالأول يعني إبادة المجتمع الآسيوي، والثاني يعني إرساء الأُسس المادية لمجتمع غربي في آسيا".
إدوارد سعيد يفكك عداوة ماركس
إدوارد سعيد
الأمر المُحير حقا أن ماركس كثيرا ما أسند مهمة تحقيق ما سمَّاه بـ"التقدُّمية" والقضاء على القوى "الرجعية" في آسيا إلى إنجلترا، التي كانت منذ ذلك التاريخ واحدة من قِلاع الرأسمالية والليبرالية في العالم، بل إنها تورَّطت في نهب ثروات مستعمراتها في الهند ومصر وأفريقيا كي تبقى عجلة الرأسمالية على حالها.
الأشد غرابة هو أن ينادي ماركس بضرورة إنشاء دولة مسيحية سلافية على حساب الدولة العثمانية بقوله: "ها هو إذن الحل الوحيد، البسيط والنهائي.. يجب إقامة دولة مسيحية مستقلة على أنقاض الدولة الإسلامية في أوروبا، ويمكن للانطلاقة الثورية المقبلة أن تُفجِّر التناقض الذي تكوَّن منذ زمن طويل بين الاستبدادية والديمقراطية الأوروبية، ومهما تكن حكومتها في ذلك الوقت، فإن إنجلترا ستكون ملزمة باتخاذ موقف في هذا التناقض، ولن يكون بوسعها أن تسمح لروسيا بحيازة القسطنطينية، وهي ستُصبح ملزمة بمشاركة أعداء القيصر مصالحهم، وبتشجيع إقامة إمبراطورية سلافية مستقلة مكان الباب العالي المهترئ والعفن".
ربما يُفهم طرح ماركس ومعاداته للدولة العثمانية في ضوء "البيان الشيوعي" ورؤيته الاقتصادية الاشتراكية ورغبته بالقضاء على الرأسمالية والإقطاعية، وفي إطار عدائه للإمبراطوريات القديمة مثل الدولة الروسية القيصرية والدولة العثمانية، لكن ما لا يمكن فهمه بداهة هو مناداته بتفكيك الدولة العثمانية و"إقامة دولة مسيحية سلافية" على أنقاضها، لا إقامة دولة "البروليتاريا" التي طالما نادى بها في طرحه الفكري. ألا يناقض هذا الطرح منهجه الفكري النظري النافر من السيطرة المسيحية على السيرورة التاريخية؟ وكيف يطالب من معقل الرأسمالية والاستعمار في العالم آنذاك، وهي إنجلترا، بتحقيق ما يصبو إليه؟
يُجيبنا إدوارد سعيد في كتابه المهم "الاستشراق" عن هذا التناقض في الفكر الماركسي تجاه "القوى الآسيوية" أو "المسلمة"، ويعتبر أن تحليلات ماركس الاقتصادية ملائمة تماما لجهود الاستشراق المعتادة، حتى لو كانت القضية بوضوح تُثير مشاعر ماركس الإنسانية وتعاطفه مع معاناة البشر، لكن الرؤية الاستشراقية هي التي تفوز آخر الأمر، وهذا يعني أن رؤية ماركس للمجتمعات الشرقية مشبعة بصورة صنعها المستشرقون، أو على الأصح صورة تستعيد الأدبيات الاستشراقية التي أنشأها الغرب لنفسه وللآخر ابتداء من عصر الأنوار.
هذه الأدبيات الاستشراقية التقليدية تعني فيما عرَّفه إدوارد سعيد للاستشراق بأنه مجال علمي صنعه الغرب بهدف استكشاف الشرق والهيمنة عليه، وإذا أدركنا هذه الحقيقة عرفنا أن رؤية ماركس للشرق والدولة العثمانية تنطلق من مبدأ "الهيمنة الغربية على العالم الشرقي"، أو كما قال سعيد: "التقسيم القديم الذي يميز أوروبا عن آسيا، أو الغرب عن الشرق، يضع عناوين بالغة الاتساع لصور البشرية التي يضم كلٌّ منها في الواقع ما لا حصر له من الأشكال والألوان، وبذلك يختزلها في تجريد واحد أو تجريدين جماعيين نهائيين، ولم يكن ماركس يُمثِّل استثناء في هذا الصدد، فالإشارة إلى الشرق الجماعي أيسر من الإشارة إلى هويات إنسانية مجردة".
تساعدنا رؤية سعيد تلك على تفكيك "الاستشراق الماركسي"، وفهم أبعاد رؤية ماركس المُعادية للدولة العثمانية، واقتراحه إقامة "دولة مسيحية سلافية على أنقاضها". ويمكننا أن ندرك من كل هذا أن ماركس لم يلتزم تماما بما نادى به من أطروحات فكرية، وأن نظريات المفكر الشيوعي العتيد تلبَّست بها نزعة استشراقية واستعمارية أوروبية في نهاية المطاف.