شاهد على عصر الطغيان.. مصر في عهد محمد علي بعيون أرمنية
مَن يسمع عن الأرمن والقضية الأرمنية في شرق الأناضول وجنوب القوقاز والشرق الأوسط يحسب أن حياة هذه الأقلية كانت اضطهادا وظلما، لا سيما في ظل الدولة العثمانية وولاياتها وولاتها، بيد أن تاريخ علاقات الأرمن بالعالم الإسلامي منذ فتوحات العصر الراشدي في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لهذا الإقليم منذ عام 18 وحتى 22 هجرية، وهي الفترة ذاتها التي كانت جيوش المسلمين تفتح فيها مصر حتى النوبة، يُنبئ عن رعاية الدولة الإسلامية لهذه الأقلية المسيحية التي رفضت مجمع خلقيدونية القائل بتعدُّد طبيعة المسيح ابن مريم -عليه السلام-، ومن ثم أصبح لها كنيستها المستقلة، وإن انقسم الأرمن مع ذلك إلى أرثوذكس وكاثوليك.
بيد أن الفصل الأهم في العلاقة بين الأرمن والدولة الإسلامية بدأ بعد فتح الأناضول بقيادة السلطان السلجوقي ألب أرسلان في أعقاب معركة ملاذكرد سنة 463هـ/1071م، حيث أُجبرت فئة كبيرة من الأرمن الذين تعاونوا مع الدولة البيزنطية ضد السلاجقة على الهروب شرقا صوب البحر المتوسط حتى استقر بهم المقام عند مناطق طرطوس وأضنة وخليج الإسكندرون، وهناك أنشأوا مملكة شبه مستقلة بعد الانفصال القسري عن البيزنطيين، حتى إذا طرق الصليبيون بعد ثلاثين عاما سنة 491هـ/1088م أبواب بلاد الشام قرَّروا التعاون معهم، ثم من جديد فضَّلوا التحالف مع المغول حين احتلوا الأناضول عام 643هـ وبلاد الشام سنة 657هـ في مواجهة المسلمين، وظلَّ الأمر على هذه الحال حتى قضى المماليكُ على دولتهم المستقلة التي عُرفت باسم "مملكة أرمينية الصغرى" في إقليم قيليقية بتدمير عاصمتهم "سيس" التابعة لمحافظة أضنة جنوب تركيا اليوم.
ورغم ذلك، بقيت أعداد كبيرة من الأرمن تعيش بسلام وأمن في موطنهم الذي عُرف في مصادر الجغرافية الإسلامية مثل "المسالك والممالك" أو "معاجم البلدان" باسم "أرمينية الكبرى" في شرق الأناضول التي تشمل دولتهم الحالية جمهورية أرمينيا ومناطق من شمال غرب إيران وجنوب جورجيا وأذربيجان، لكن كل الدول الإسلامية التي جاءت منذ السلاجقة ثم المغول الإيلخانيين ثم قبائل تركمان الشاة السوداء "قرة قوينلو" ثم الدولة الصفوية والدولة العثمانية، التي حكمت هذه المنطقة، كلها أخضعت الأرمن لسيادتها مُستغِلَّة ضعفهم وانقسامهم على أنفسهم.
ما يهمنا أن الأرمن الذين خضعوا لنفوذ الدولة العثمانية عاملهم العثمانيون منذ السلطان محمد الفاتح بتقدير كبير، حيث أمر الفاتح بإنشاء مطرانية خاصة بهم في إسطنبول، ومنح بطريركهم الأكبر المعروف بـ"الجاثليق" أراضي واسعة، وأعفاه من الضرائب، واتجهت الأقلية الأرمنية في الأستانة بمرور الزمن إلى التجارة والصيرفة وعمل الجواهر (جواهرجية) فصاروا مشاهير وأثرياء، ووصل بهم الحال إلى إقراض عِلية القوم وكبار رجالات الدولة العثمانية، بل إن أسرة دوزيان الأرمنية ظلَّت لأكثر من مئة عام منذ سنة 1775 إلى 1880م مسؤولة بصورة احتكارية عن مؤسسة سك العُملة العثمانية بإرادة عثمانية خالصة.
وقد تمثَّلت المشكلة الأكبر في المسألة الأرمنية -شأنها في ذلك شأن سائر الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية- أنها استُغِلَّت من قِبَل القوى الإمبريالية مثل الفرنسيين والإنجليز والروس للتدخُّل في شؤون العثمانيين، وكان هذا هو السبب الأبرز في انقلاب الوئام بين الأرمن والدولة العثمانية الذي ظلَّ لما يقرب من أربعة قرون منذ عصر السلطان محمد الفاتح، إذ هبَّ الأتراك يدافعون عن أموالهم وأنفسهم وأراضيهم ضد الاحتلال الروسي الأرمني الممنهج في شرق الأناضول الذي أدَّى في نهاية المطاف إلى عقد اتفاقيات من أجل ترسيم الحدود بين الجانبين.
قبل بلوغ تلك المرحلة التاريخية الحرجة بين الجانبين في الحرب العالمية الأولى وبُعيدها، كان انتقال الأرمن بين ولايات الدولة العثمانية سلِسا لا غضاضة فيه، حتى رأينا في مصر التي كان يحكمها محمد علي باشا منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي وجودا لأعداد كبيرة من الأرمن، بلغ بعضهم أرفع المناصب في دولة محمد علي وأبنائه، وكان منهم يوسف حككيان، ذلك الأرمني النابه الذي ترك لنا أوراقا ويوميات غاية في الأهمية دوَّن فيها ملاحظاته ومذكراته عن محمد علي وأبنائه، فمَن هو حككيان؟ وكيف كانت مصر في عصره وأبنائه من بعده؟
الأرمن في مصر
نظرا إلى أن البيئة الأرمنية سياسيا وجغرافيا كانت على مدار التاريخ طاردة للسكان بسبب التقلُّبات السياسية وخضوعها لقوى أكبر، فقد هاجر الأرمن جماعات إلى بقاع ودول مختلفة، منها مصر التي خضعت هي الأخرى لحكم الدولة البيزنطية ثم الدولة الإسلامية بفروعها وأُسرها المختلفة، وقد أمدَّنا تاريخ مصر الإسلامية بأسماء العديد من الولاة وكبار رجالات الدولة من ذوي الأصول الأرمنية، ويأتي على رأسهم بدر الجمالي الأرمني الذي كان أول وزير قوي يحكم الدولة الفاطمية في أثناء القرن الخامس الهجري، ثم جاء من بعده سلسلة من الوزراء الأرمن، وعلى الرغم من قضاء صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية فإن عددا من الأرمن بلغوا مناصب عليا في ظل الدولة الأيوبية، منهم لؤلؤ الحاجب قائد أسطول صلاح الدين، وحين قضى المماليكُ على مملكة أرمينية الصغرى سنة 1375م وفد الآلاف منهم أسرى إلى مصر، حتى أنشأوا في القاهرة حيًّا سُمي بـ"كوم الأرمن"، وسمح لهم المماليك بإنشاء كنيسة خاصة بهم، ثم عملوا طوال عصر العثمانيين في مصر في وظائف تجارية وكذلك في الترجمة وغيرها من الوظائف.
لكن العصر الذهبي للأرمن في مصر بزغ مع مجيء محمد علي باشا (1805-1849م) الذي ارتبط بعلاقات تجارية وإنسانية مع بعض الأرمن قبل توليه أمر مصر. فقد عمل محمد علي في صباه بتجارة الدخان عند تاجر أرمني يُسمَّى قرة قهيا يراميان، فوجد منه معاملة أبوية، وعندما تولَّى حكم مصر ردَّ الجميل لهذه الأسرة جاعلا إياهم صرافة في الأستانة، وقرَّر تعيين صراف أرمني آخر اسمه يغيازار أميرا بدروسيان على خزانة مصر، إذ كان قد استدان منه مبلغا كبيرا من المال قُبيل انطلاقه إلى مصر على رأس الفرقة الألبانية سنة 1801م.
وحين بدأ محمد علي في سلسلة الإصلاحات الاقتصادية والمالية آثر الاعتماد على عناصر تتميز بالولاء لشخصه حتى تُؤازره في تحقيق أهدافه، وكان الأرمن في طليعة هؤلاء، وقد لاحظ مؤرخ الديار المصرية آنذاك الشيخ عبد الرحمن الجبرتي هذه الحقيقة في فترة مبكرة من حكم محمد علي، مؤكِّدا أن مساعدة هؤلاء الأرمن لمحمد علي لم تكن إلا على حساب مصالح المصريين، فهُم كما يقول الجبرتي: "شركاؤه في أنواع المتاجر، وهم أصحاب الرأي والمشورة، وليس لهم شغل ودرس إلا فيما يزيد حظوتهم ووجاهتهم عند مخدومهم، وموافقة أغراضه وتحسين مخترعاته".
وقد ضرب الجبرتي على ذلك مثلا في تدخُّلهم في تسعير اللحوم من خلال إبطال جميع السلخانات والمذابح الأهلية والإبقاء على سلخانة الوالي الحكومية خارج القاهرة، وبهذا ارتفعت الأسعار، وقلَّت اللحوم لارتفاع أسعار الضريبة التي فرضوها بموافقة محمد علي، فخسر التجار، و"شحَّ وجود اللحم، وأُغلقت حوانيت الجزارين، وخسروا".
وحين تيقَّن محمد علي من ولاء النخبة الأرمنية المُعاوِنة له في الجهاز البيروقراطي للدولة ولو على حساب المصريين، قرَّر الاتكاء عليهم، والاستكثار منهم. وقد أكَّد محمد علي مرارا في أوامره الإدارية ضرورة استخدام موظفين أرمن "لأنهم يُديرون وظائفهم بأمانة كبيرة، وذمة عظيمة، وهمة شديدة، ويقظة فائقة"، ولهذا السبب شرع يعتمد عليهم ويفتح لهم الأبواب في مشاريعه المالية والزراعية والاقتصادية والبيروقراطية كافة، وبلغ بعضهم أرفع المناصب، وكان على رأسهم بوغوص بك يوسفيان (1775-1844م) الذي كان أول مسيحي يحصل على رتبة البكوية، وكبير تراجمة محمد علي الذي قرَّر تعيينه في نهاية المطاف لفترة طويلة في منصب أول ناظر (وزير) للخارجية والتجارة في مصر الحديثة.
يوسف حككيان في خدمة حكومة الوالي
وإذا ما بحثنا في الهيئة الأرمنية التي عملت تحت إدارة بوغوص بك في الحكومة المصرية، فسنجد من ضمنها حككيان أفندي الأرمني القادم من إسطنبول والعامل في سلك الترجمة في حكومة محمد علي باشا. وقد استغل حككيان فرصة إرسال محمد علي باشا لأولاده وعدد كبير من موظفيه إلى باريس سنة 1817م لكي يتلقوا تعليمهم فطلب من الوالي أن يرسل ابنه الذي كان لا يزال مقيما في إسطنبول إلى إنجلترا ليتعلَّم فيها، وقد لبَّى محمد علي هذا الطلب، وكان ابنه يوسف حككيان لا يزال في العاشرة من عمره.
ظلَّ يوسف حككيان لسبع سنوات في بريطانيا يتعلَّم فيها مبادئ العلوم فضلا عن اللغات الإنجليزية والفرنسية واللاتينية، وفي عام 1824 جاءت تعليمات من بوغوص بك يوسفيان، وزير التجارة والشؤون الخارجية في مصر، بأن يُكرِّس حككيان اهتمامه لدراسة آلات الغزل والنسيج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، إلى جانب الاطلاع على كيفية بناء الطرق والكباري والقنوات والأرصفة النهرية، وقد شرع في تعلُّم هذه العلوم منذ ذلك الحين حتى عاد إلى مصر في خريف سنة 1831م بعد 14 عاما في بريطانيا.
حين عاد حككيان إلى مصر عُيِّن مراقبا عاما لمصانع القطن في الحوض المرصود والخرنفش وبولاق والمبيضة، ووضع تحت إشرافه عشرين من طلبة قصر العيني علَّمهم مبادئ الهندسة والرياضيات والميكانيكا بمساعدة مترجم تدفع الحكومة راتبه، وفي عام 1834م افتُتحت مدرسة الهندسة في بولاق ثم أُلحقت بها في عام 1835 مدرسة المهندسين في القناطر الخيرية وعُيِّن يوسف حككيان مديرا لها.
وبين عامَيْ 1844-1850، ترأس حككيان ثلاث بعثات كانت تبحث عن الفحم في مختلف صحاري مصر وجبالها، ثم امتدت بعثاته الاستكشافية من عام 1854 إلى 1861م، وشملت فوق دراساته الجيولوجية زيارات ومسحات أثرية، كما عمل لفترة وجيزة رئيسا لمجلس الصحة، وقد دوَّن أعماله الاستكشافية ورسوماته ونشرها باللغة الإنجليزية عام 1863م بدعم من حكومة الخديو سعيد باشا، أما مذكراته الشخصية ويومياته ومراسلاته وملحوظاته ورسوماته وغير ذلك التي تمتد ما بين عامَيْ 1829-1874م فقد أهداها ابنه تيتو حككيان إلى المتحف البريطاني.
شاهد على عصر الطغيان
لقد أمدَّنا المؤرخ الكبير في تاريخ مصر الحديث أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه "عصر حككيان" بتعريف مهم بشخصية حككيان ومذكراته التي دوَّن فيها يومياته في إنجلترا قُبيل عودته إلى مصر، ثم حكاياته في مصر وهو الذي عمل في دولاب البيروقراطية المصرية في عصر محمد علي وابنه إبراهيم وأحفاده عباس الأول وسعيد باشا. كان حككيان مؤمنا بأن "التعليم وحرية التجارة من شأنهما أن يجعلا الناس يلبون دواعي العقل ويحكمون أنفسهم"، ولهذا السبب نراه مؤمنا بالليبرالية الغربية وليس بالتوجُّه الشرقي في الحكم والسياسة.
بدا ذلك بوضوح في يوميات حككيان وملاحظاته التي يقول في بعضها: "المغتصَبون في الشرق نادرا ما يمتلكون أراضيهم بصفة وراثية". وهو بهذا الاعتراف يُندِّد بمظاهر الطغيان التي لم تتأصَّل لدى الطبقات العليا التي مَثَّلها محمد علي باشا وأبناؤه فقط، بل حتى بالطبقات الوسطى والدنيا، فقد ندَّد حككيان بطغيان شيوخ البلد والعُمد على صغار المزارعين في القرى الذين آثروا الهرب من قُراهم والالتجاء إلى البدو أو إلى بلاد الشام.
كما انتقد طغيان الوالي عباس الأول بن طوسون بن محمد علي باشا (1848-1854م) الذي رآه كسولا وقاسيا على الفقراء الذين "يُكلِّفهم بأعمال شاقة في الصحاري ويكاد لا يدفع لهم من الأجر إلا أقل القليل". كما صرَّح بأن كثيرا من مواطنيه يموتون يوميا أثناء عملهم في قصور الباشا قائلا: "كان من واجب سُمُوِّه أن يُنفق الأموال في تحسين أحوال مصر بدلا من القيام بالبناء في الصحراء. لو ألغى الوالي السُّخرة لغضضنا الطرف عن سيئاته، فمن الظلم والقسوة أن يُحرَم الآباء من مساعدة الابن الوحيد الذي كانوا على استعداد لافتدائه بألف قرش حتى لا يفقدوا مُعاوِنهم في الأعمال الزراعية".
لم يتردَّد يوسف حككيان في الاعتراف بأنه وغالبية الأرمن الذين عملوا في حكومة محمد علي باشا وأبنائه كانوا يعملون في ظل الاستبداد والطغيان وفي خدمته، فحين يتكلَّم عن شخصية بوغوص يوسفيان بك أول وزير خارجية وتجارة أرمني في عصر محمد علي، فإنه يقول في حقه: "كان بوغوص بك رجلا ممتازا في حياته الخاصّة، ولم يبزّه أحدٌ في القدرة على إنجاز المهام الرسمية، وذلك إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أنه كان مرؤوسا لطاغية، ومن الممكن اعتباره أعظم الوزراء الشرقيين، لأنه ظل طيلة كل هذه السنوات يتمتع برضى طاغية وبلاط يتصف بالطغيان، وكان سرّ سياسته هو ألا يعمل بوحي من رغبته الخاصّة، وبهذا كان لا يُجازف بشيء، فكان لا يُدلي برأسه للباشا بصفة شخصية، كما كان لا يعترض على آرائه علنا بأي شكل من الأشكال".
وبهذا العرض الموجز عن علاقات الأرمن بالدولة العثمانية، ثم وجودهم بوصفهم جالية نخبوية وبيروقراطية في المجتمع المصري، نجد أن أوراق يوسف حككيان الأرمني الذي عرَّف نفسه بـ"يوسف حككيان الإستنبولي الموظف في الحكومة المصرية" تؤيد ما ورد في شهادة العلامة الجبرتي حول الأساليب القمعية والطغيان في حكم محمد علي وأبنائه، واستخدامهم الأقليات، ومن ضمنها النخبة الأرمنية، في التجارة والاقتصاد والبيروقراطية الحكومية على حساب المصريين.