من أهل الدار
تاريخ التسجيل: October-2013
الجنس: ذكر
المشاركات: 83,407 المواضيع: 80,055
مزاجي: الحمد لله
موبايلي: samsung j 7
آخر نشاط: منذ 5 ساعات
الدوشيرمة.. هل انتزع العثمانيون أبناء المسيحيين وجنَّدوهم قسرا في جيوشهم؟
الدوشيرمة.. هل انتزع العثمانيون أبناء المسيحيين وجنَّدوهم قسرا في جيوشهم؟
منذ بدايات القرن الرابع عشر الميلادي وحتى الربع الأول من القرن العشرين وثمة علاقة من الصدام والتعقيد والتشابك بين الدولة العثمانية التي ظهرت في غرب الأناضول وبين الدولة البيزنطية الرومانية الشرقية المقدسة التي كانت حامية وقلعة الأرثوذكسية في العالم، لكن في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ضُربت الدولة العثمانية بهجوم كاسح من السلطان المغولي تيمورلنك أدى إلى هزيمة العثمانيين وأسر السلطان بايزيد الأول وقتله، ثم ترتب على ذلك فتور وضعف شديد في إمداد الجيش العثماني بالعناصر الجديدة.
لقد كانت التحديات التي تواجه الدولة العثمانية في هذه المرحلة الأولى من تاريخها قبل فتح القسطنطينية كبيرة، ومثلها مثل باقي دول العالم الوسيط كان الجيش هو عمود استمرار الدولة أو نهايتها، لا سيما في دولة نشأت على حدود العالم البيزنطي العدو الأقدم للمسلمين منذ عصر النبوة، ولهذا السبب كان تحدي وجود البيزنطيين من الغرب، والمغول ثم الصفويين والمماليك من الشرق والجنوب، قد أدى إلى البحث عن حلول لمشكلة نقص أعداد الجيش العثماني، وفي وقت كان للفقهاء فيه دور مهم في تأطير الرؤية للدولة والبيروقراطية، فقد أفتى بعض فقهاء الحنفية البارزين في الأناضول بالاستفادة من أسرى الحرب، ووافقوا على ما سُمي بقانون "بنجيك قانوني" أي قانون الخُمس، الذي يبدو أنه صدر عام 1363م، وكان ينص على أن تحصل الدولة على خُمس أسرى الحرب مقابل الضريبة المستحقة عليهم.
ومن المعلوم أن توسُّع الدولة العثمانية لم يقتصر على الأناضول فقط، بل كان منذ ما قبل فتح القسطنطينية قد اتسع إلى البلقان "الرومللي"، ونقل العثمانيون عاصمتهم القديمة من بورصة إلى أدرنة التي تقع اليوم في غرب تركيا قُرب الحدود اليونانية، ومن ثم كانت الحروب ضد الدولة البيزنطية بالإضافة إلى مواجهة ملوك وأمراء وإمبراطوريات البلقان مثل الألبان واليونان والصرب والمجر والكروات وغيرهم لا تنقطع، وقد أدت إلى وجود وفرة من الأسرى الذين رأى العثمانيون إمكانية الاستفادة منهم في الجيش والقصر العثماني على السواء، ثم تطور الأمر إلى الاستفادة من الرعايا المسيحيين في الدولة العثمانية.
وقد صاحب هذه العملية إجراءات متنوعة من التجميع والتسكين، ثم التلاؤم والاندماج مع الثقافة الإسلامية العثمانية التركية، ثم أخيرا عملية الانضمام إلى وحدات الجيش العثماني "أوجاقات" مثل الانكشارية وأعجمي أوغلانلاري وغيرها من المعسكرات التي كانت عماد الجيش العثماني في عمليات الفتوحات على الجبهات الأوروبية المختلفة.
لكن نشأ من وراء هذا القرار أقوال وتفسيرات كثيرة للعديد من المؤرخين الأوروبيين الذين رأوا أن هذا القانون كان بمنزلة إجبار وإهانة للأقليات المسيحية أو أسرى الحرب الذين وقعوا تحت يد الدولة العثمانية، فهل تعرَّض المسيحيون فعلا للتجنيد الإجباري في الدولة العثمانية؟ وهل انتزعت دولة العثمانيين أبناءهم قسرا من ذويهم بلا رحمة؟ وكيف سارت طريقة أو آلية "الدوشيرمة" التي اعتُبرت العمود الفقري لنظام تجنيد غير المسلمين الجديد؟
"بنجيك قانوني"!
من المعروف أن الأسرى في الإسلام يُعَدُّون من جملة الغنائم، وخُمس هذه الغنائم يُعَدُّ من حصة ولي الأمر أو الدولة بحسب نص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والدولة تستطيع أن تتحكم في هذه الحصة حسب ما تراه للصالح العام، وهذه الحصة بنص القرآن الكريم هي "الخُمس"، وكان يُطلق على الخُمس في الأناضول بالفارسية "بنج يك"، ثم تحوَّر إلى "بنجيك"، وحسب الفقه الإسلامي فإن الدولة لها الحق في معاملة أسرى الحرب ضمن عدة خيارات، منها: قتلهم اتباعا لقوانين الحرب كما فعل النبي ﷺ مع يهود بني قريظة، أو استخدامهم عبيدا في خدمة المسلمين، أو عقد الذمة معهم، أو حتى إطلاق سراحهم مقابل فدية معينة، وكلها أمور يرى أهميتها ولي الأمر وكبار القُضاة من المسؤولين عن شؤون الرعية، وقد رأينا أن السلطان مراد الأول (1326-1389م)، بالتشاور وبإفتاء من الفقيه الكبير في الأناضول والدولة العثمانية آنذاك "رستم القرماني" وبمعية وإشراف الصدر الأعظم "جاندارلي قره خليل باشا"، وافق على إدخال حصة الدولة من الأسرى المسيحيين في الجيش العثماني، ثم جعل ذلك قانونا أُطلق عليه "بنجيك" أي الخُمس، وضُمِّن في هذا القانون استحصال رسوم قدرها الخُمس من غير القادرين على الخدمة العسكرية، أما الذين أُخذوا من الأسرى للخدمة العسكرية فقد أُطلق عليهم "بنجيك أوغلانلاري" أي "أبناء الخُمس".
نظَّمت الدولة العثمانية هذا القانون بتعيين موظفين عسكريين ومدنيين لجمع وتدريب وتربية هؤلاء الشباب الأسرى، ولم تُعاملهم معاملة العبيد، بل كانت عملية انتقالهم إلى الجيش في قسم "أعجمي أوغلانلاري"، كما كانوا يُهيَّؤون بإيداعهم إلى الأُسَر التركية المسلمة، فيظلون معهم فيتخلَّقون بأخلاق الإسلام والثقافة العثمانية التركية، ثم يُرسَلون إلى المؤسسات العسكرية لتلقي التدريبات اللازمة، ومن هؤلاء بمرور الزمن شُكِّلت نواة القوة الضاربة في الجيش العثماني وهي "الانكشارية".
ولأن فرقة الانكشارية كانت تُعتبر نخبة الجيش العثماني وقوته العظمى، فقد أولى لها السلاطين العثمانيون رعاية خاصة من النواحي العسكرية والمادية، وأصبح الجندي والضابط الانكشاري بمرور الزمن صاحب مقام عظيم في الدولة العثمانية، حتى إن الانكشارية في أوقات كثيرة كانوا يُعتبرون أقوى من السلاطين العثمانيين، وكم رأينا قوتهم هذه في خلع العديد من السلاطين وتعيين آخرين مكانهم، ولأن الدولة العثمانية في القرن السادس عشر وحتى الربع الأخير من القرن السابع عشر كانت تُعَدُّ أقوى دولة في العالم من النواحي العسكرية والاقتصادية والمادية، فإن "الانكشارية" كانوا بمنزلة قوات المارينز أو القوات الخاصة الأميركية اليوم، ولهذا السبب حلم شباب المسلمين بل وغير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية بالانضمام إلى هذه الفرقة، نظرا إلى المزايا الهائلة التي كان يتمتع بها الانكشاري في بنية الدولة العثمانية من الناحية المالية والنفوذ العسكري، وربما الإداري فيما بعد.
المسيحيون يطالبون بالتجنيد!
ولهذه الأسباب طالب رعايا الدولة العثمانية من المسيحيين البلغار والألبان والأرمن وغيرهم بالانضمام إلى الجيش العثماني بكامل رغبتهم ورضاهم، ولهذا السبب وافقت الدولة العثمانية ضمن شروط معينة على تطوير قانون الخُمس "بنجيك" لتكييفه مع هذه الطلبات الجديدة للانضمام إلى الجيش، ووضعت شروطا صارمة لهؤلاء المنضمين الجدد من الجنود المسيحيين، فكان يُسمح بانخراط شاب بعمر 14-18 سنة من كل 40 أسرة من هذه الأُسَر للانضمام إلى الجيش أو لتعيينهم في وظيفة مهمة في القصر العثماني، وكانت عملية الاختيار تتم على فترات متباعدة تبلغ ما بين 3-5 سنوات، وكان يُطلَق على هذه العملية اسم "دوشيرمه" (Devşirme) وتعني في اللغة التركية التجميع والانتقاء، وهذا ينفي الادعاءات التي كتبها بعض المؤرخين الأوروبيين عن انتزاع أطفال غير المسلمين من أمهاتهم وضمهم للجيش العثماني بقوة، لا سيما في أوقات قوة وازدهار الدولة العثمانية.
كانت الحاجة إلى تجميع أعداد من الجنود المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية تتم بناء على نقص أعدادهم في الكلية الحربية في "أوجاقات" الجيش في غاليبولي وإسطنبول، وهذه الحاجة كان يدركها رئيس الانكشارية الذي كان يُبلغ بها "الديوان" العثماني، وهي المؤسسة الإدارية للدولة التي كان على رأسها "الصدر الأعظم"، وحين تصدر الأوامر كان ولاة الألوية يبلغون قُضاة المناطق للإشراف على عملية التجميع، وكان رئيس التجميع يُسمى "دوشيرمه أغاسي"؛ فكان يحمل في يديه الفرمان ورسالة رئيس الانكشارية التي تُبيِّن مقدار ما يطلبه الجيش من أعداد، وشروط هؤلاء المجموعين من الناحية الأدبية والأخلاقية والجسمانية، فعلى سبيل المثال كان الاختيار يتم لغير المتزوجين، وللأُسَر التي لديها أكثر من ولد ذكر، والتي لم يكن لديها إلا ولد واحد فقط كانت تُستبعد من عملية الاختيار، ثم اختيار أبناء "الأصلاء" والمعروفين من أهل البلد بالنجابة والقوة والأصل، ثم يُقيَّد المختارون في دفتر خاص، فيُكتب فيه اسمه كاملا، وأوصافه التامة، وقريته التي ينحدر منها، ثم يُنقَلون إلى العاصمة إسطنبول بعد فحصهم للمرة الثانية، فيُعطون مبلغا تحت اسم "قول آقجاسي" و"خلعة بهاء" لمصاريف السفر وشراء الملابس المناسبة. وتحت إلحاح أهل البوسنة المسلمين الذين أُطلق عليهم آنذاك "أبناء بوطور" شملهم قانون "الدوشيرمة" للخدمة في القصر العثماني وفي أعمال الحدائق والبستنة.
كان هؤلاء القادمون الجدد يُرسَلون إلى العائلات التركية في القرى المختلفة في الأناضول والرومللي، وبالتعاون التام مع الدولة، فكانوا يتعلَّمون الإسلام واللغة التركية، ويصبحون بمرور الوقت مسلمين، ثم يُنقَلون إلى مؤسسة التدريب في الجيش التي كانت تُسمى "أعجمي أوغلانلاري أوجاغي" أو "أوجاق العجمية"، ثم حين يُتمون تدريباتهم العسكرية التي كانت تستمر ما بين سبعة إلى ثمانية أعوام في "أوجاق العجمية" كانوا يُرسَلون إلى "أوجاق الانكشارية" أو إلى أحد أوجاقات الجيش الأخرى التي كانت تُسمى "أوجاقات القبوقولية"، ثم تتم من هذه الأوجاقات أو المعسكرات عملية التخرج التي كان يُطلق عليها "بدركاه" -بالجيم الفارسية- أي الخروج إلى الباب أو التخرج، وعندئذ تُزاد لهم الرواتب، وقد استمر "أوجاق العجمية" يقوم بهذه الوظيفة حتى عام 1826م.
ما بين الازدهار والانحطاط!
ولقد أصبح الآلاف من هؤلاء المتخرجين في هذه الأوجاقات من ذوي الأصول المسيحية الذين دخلوا طواعية إلى الجيش ثم إلى الإسلام من أعلام الدولة العثمانية في المجالات العسكرية والسياسية، فاستطاع معظمهم الصعود إلى مراتب عالية، مثل منصب "الصدر الأعظم" وهو رئيس الوزراء، ومناصب ولاة وباشوات وقادة الجيش بأفرعه المختلفة، لذا كان إسراع المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية من البلغار والألبان والصرب وغيرهم للانضمام إلى الجيش العثماني مقصودا منهم للوصول إلى هذه الامتيازات والمناصب العليا، ونستطيع أن نستذكر منهم خسرو باشا الذي ترقى في هذه المؤسسة حتى أصبح واليا "بكلر بكي" على ديار بكر، ثم واليا على مصر، كما ارتقى المعمار المشهور "سنان" من هذه المؤسسة حتى أصبح رئيس المعماريين في الدولة العثمانية.
ويعترف المؤرخ الأميركي ويل ديورانت بالأدوار المهمة والمناصب القيادية والثقة المتبادلة بين هؤلاء الجنود المسيحيين الذين تحوَّلوا طواعية إلى الإسلام، وأصبحوا على رأس الجيوش العثمانية وفي القلب منها الانكشارية، ممن جُمعوا عن طريق "الدوشيرمة" وبين السلاطين العثمانيين، ففي معرض حديثه عن تمرد الأمير إسكندر الألباني ضد الدولة العثمانية يقول ديورانت: "كان المجندون الذين تحوَّلوا إلى الإسلام من أبناء المسيحيين يُشكِّلون غالبية الهيئة الإدارية في الحكومة التركية المركزية. وكان حقا علينا أن نتوقع أن يخشى السلطان المسلم إحاطته برجال يحبون "الزعيم الوطني الألباني" إسكندر برج، ويحنون إلى دين آبائهم، والأمر على النقيض من ذلك، فإن سليمان (القانوني) آثر هؤلاء المتحوِّلين عن دينهم، لأن في الإمكان تدريبهم منذ نعومة أظفارهم على مهام محددة في الإدارة. والأرجح أن بيروقراطية الدولة العثمانية كانت أقدر ما وجد من نوعها في النصف الأول من القرن السادس عشر".
ومع هذه الأدوار المهمة واللافتة التي أدَّاها المتخرجون في أوجاقات العجمية من ذوي الأصول المسيحية من رعايا العثمانيين، ففي عصور تأخُّر الدولة العثمانية قد وقعت الكثير من الأخطاء الكبيرة في تطبيق قوانين نظام "الدوشيرمة" أو التجميع، بل وقعت مظالم حقيقية، وقد لفت العديد من المؤرخين والباحثين في عصر الدولة العثمانية أنظارنا إلى هذا الأمر من خلال المصادر المختلفة، على رأسها ما يمكن قراءته في مصادر "سياست نامه"، وهي سجلات الوقائع السياسية في تلك العصور، فإن الموظف المسؤول عن عملية التجميع في تلك الفترة كان يُطلق عليه اسم "زاغارجي" أو "السكبان"، وهما صنف من رجالات الانكشارية، فحين ضعفت رقابة الدولة والقضاء على آليات وضوابط تطبيق الدوشيرمة، وابتُعد عن القوانين والشروط الواجب توافرها في مَن كان يُختار من أبناء المسيحيين، وقعت المظالم التي كان منها اختيار الابن الوحيد للأُسَر المسيحية مقابل رشوة الموظف المسؤول عن هذه العملية، وهذا -كما رأينا- كان ممنوعا في العصور السابقة بنص القانون وفرمان السلطان، وكان ذلك الموظف الانكشاري يُعلِّق الرجل الذي يعترض على هذا الظلم في عملية الاختيار من قدميه، والمرأة المعترضة من شعرها، وحين تلوث هذا الرافد المهم للجيش العثماني ومن ثم قوته الضاربة "الانكشارية"، وانتشرت هذه المظالم، فسد نظام الانكشارية، ومن ثم مؤسسات الدولة الأخرى.
وهكذا كان للعلاقة بين الاجتهاد في الفقه الحنفي الذي أجاز بعض فقهائه زمن السلطان العثماني مراد الأول الاستفادة من أبناء المسيحيين في الجيوش العثمانية دوره في تطور وخروج قانون الدوشيرمة واستمراره لمدة ثلاثمئة عام تقريبا، وقد نجحت هذه الآلية في إمداد الدولة العثمانية برافد لا ينقطع من الجنود الأقوياء والأصحاء الذين سعوا بدورهم بل وبدفع الرشا في أحيان كثيرة إلى الانضمام إلى الجيش العثماني ومؤسسته الضاربة "الانكشارية" لبلوغ أعلى المقامات وأرفع المنازل، وهو ما حدث بالفعل!