حادثة وفاة صالح إرشيِّج
حيدر محمد الوائلي
السنة الثالثة بعد الألفية الجديدة. يوماً من أيام الشتاء العراقية المشمسة. تتداخل الفصول بعضها ببعض لتخلص السنة صيفاً طويلاً حارقاً (يصمط صمط) وشتاءً قليلاً شحيح المطر تتخلله أيام برد قارص (أزرك).
أتذكر أن لم يكن يومها قائض الحر رغم سطوع شمس الظهيرة فلنفترض انه كان برداً وسلاما.
الأمر يا سادتي أن دونما تذكير وسابق انذار أن لاح في ذهني ذكر (صالح).
كيف جاء (صالح) ببالي دون سابق مقدمات موضوعٍ نبش في الذكريات الدفينة منقباً عن ذكرى كانت قبل هذا نسياً منسياً.
كيف تتفجر الذكرى فجأة في البال، تُنعِش الخيال، باعثة الروح فيه شاخصاً أمامك في الحال.
هل منظر نارٍ عابرٍ أشعل في الذاكرة لهيب الذكريات القديمة باعثاً الروح فيها من جديد.
هي النار نور وحياة وهي حريق اكل من جسم (صالح) الكثير من الأشلاء.
إذنْ هي النار يا سادة.
حياة ودفئ وموت وعذاب.
كنا في الطريق قافلتين (باصين) محملتين بشباب كثير ملئوا المقاعد مع قليلٍ من الشَيَبة. راحلين تلقاء النجف لزيارة ضريح (أبونا) الأمام علي (ع) أن يا أبا المظلومين والمحرومين جئناك نبث هماً عراقياً عتيق.
فصل بين الاثنين مسافة وقتٍ قاربت الساعة وفي الساعة موت قادم ونار سَتَلهَب ودمٌ سيُسكب.
لم أكن أعرف (صالحاً) منذ طويل الأمد فبالكاد معرفتي به سنة أو اثنتين لدى ذهابنا لحفل عرس أحد الأصدقاء زيارة عابرة.
أتعرف أن تُلقي بك الصدف بمكانٍ تلتقي به القلوب وتتحاب، فتجد في انسانٍ طيبة روحٍ وجمال اخلاق و(أريحية) تُشعِرك إنك تعرفه منذ سنين طويلة.
كان هذا هو (صالح) ببساطة (رويحة حلال).
كلا السائقان باختلاف الطريقين كانا ينشدان اللحاق بالأفق البعيد قبل احمرار الغروب.
أم تراها كانت صدفة شاءت أن تتجمع ظروفها ظرفاً واحداً قاتلاً قبل حدوث المأساة ووجع القلب ودموع انسكبت وآلام حَقّت.
كانت سيارة حمل معبأة بالتمر اصطدمت بأخرى محملة بالبشر.
اختلط دبس التمر بقاني الدم.
دم التمر على الأرض مبعثر.
اتذكره ضاحكاً رغم انه كان اللقاء الأول معه فكان يَضحك ويُضحك من هو أمامه من دون تعقيدات التعرف.
هكذا بكل بساطة يجري الحديث وتضيع في مجراه وكأنك مع صديقٍ قديمٍ لا وجهٍ جديدٍ قد التقيت به للتو.
في المستشفى كان يأن كثيراً لدى الذهاب لزيارته فنسبة الحرق في جسمه كبير والألم ينبثق من صميم القلب أكبر وأمل النجاة أصغر.
منظراً كئيباً (يُكسِر) الخاطر.
هذا الضحّاك الذي كثيراً ما اضحك من يعرفه ومن لا يعرفه تراه يصرخ من سكاكين الوجع التي تقطع بجلدة المتهرئ من فرط الحريق.
يلتفت لي بعينٍ حمراء واحدة مفتوحة تجمد فيها الدمع والدم وأثر النار وهي تنطق بالنظرات حسرات واهات أن يامن أحييت رميم العظام (هلا أرحتني).
عينه الأخرى غافية لا تتفتح.
كنت في (الباص) الذي في الخلف وبيننا ساعة من الزمن في طريق سماوة العراق وتراب الصحراء يتطاير من على جنبات الطريق أن يا مركب الموت اهبط بأرضنا فالطريق أمامك أفعى لا امان لها.
قيل لي ولا أتذكر بالضبط أن أُنتزع جسد (خالد) من على محرك الباص المكشوف حيث التصق هو والمحرك كلاهما ميتين جسد وحديد لا حراك فيهما.
كان من المفترض أن ينتهي مشوار (خالد) الجامعي وحبه لفتاة أحلامه في الجامعة لزواج ومودة ورحمة وهو الذي كان عندما يلتقيها تراه خجولاً ولو لم يكن أسمراً لأنبثق الدم في خديه أحمر.
كان يكتب الشعر جميلا رغم ان ملامح وجهه توحي انه قد أخذ الحياة والعيش بصرامة وجدية لكنه متى ما تتحدث معه تحبه على الفور وتستأنس بلقائه وحديثه وتنسى شكل حاجبيه المطبقين بغضب دون أن يغضب.
هكذا كان تشكيلهما طبيعياً تعطي من لا يعرفه انطباعا أنه جديّاً غاضباً عصبيا، ولكن من يعرفه يعلم أنه كيان من طيبة ومودة.
كان مجموع من غيبهم الموت أحد عشر اخرهم (صالح) الحي الميت الذي التهمت منه النار الشيء الكثير.
كان على هذا الحال لبضعة أيام.
الزيارات له في الطابق العلوي في مستشفى (صدام) (سابقاً) (الحسين) (حالياً) كثيرة تتجمع فيه ذكريات من ماتوا في جسدٍ حيٍ شبه ميت.
فاضت الروح لبارئها على حين غرة.
وعلى حين غرة، ذاع الخبر وسطنا والكثير من الناس فاقتضى الأمر تشييعه سيراً لبيت أهله ومن ثم للشارع العام حيث ستنتظر سيارة لتقل الجثمان لحفرته الأخيرة.
فجاءة وفيما بدا التشييع صغيراً وعادياً ثارت (اهزوجة) وثانية وثالثة رددها قليل الحاضرين لتجذب انتباه الناظرين فينظموا لجمع المشيعين.
حاولت أن أعصر ذاكرتي لتذكر أية اهزوجة من (الأهزوجات) فلم أتذكر.
كلما طال المسير زاد الغفير.
تتجمع الناس من كل حدبٍ وصوب جماهير من البشر هاتفة صائحة متمردة على ترهيب الحزب والثورة ومديرية أمن (الناصرية) العامة.
لم تكن صيحات (لا اله الا الله) في تلك اللحظة وببعدها العميق قاصدة التوحيد نداءً بل (لا) للظلم و(لا) للقمع و(لا) لحياتنا البائسة الضائعة في دهاليز السياسة الفاسدة.
يقطع الطريق أخو (خالد) ليلقي قصيدة كان قد كتبها (خالد) وأنا أعلم أن (خالداً) شاعراً شعبياً، فتعلوا الصيحات بالهتافات وصراخات الحزن من دون حتى الأصغاء للكلمات، حاولت دون جدوى أن أصغي ماذا قالت روح (خالد) في تلك اللحظة، ولكن الصياح عظيم.
الضجة كبيرة والناس تفجرت قلوبها (المكبوتة) من جحيم الظلم الذي احرق البلاد والعباد وأخو (خالد) يصيح بكلمات القصيدة والورقة في يده سطع الشمس فيها أن يا (خالد) لك ذكرى ولك صيحة في هذه الثورة.
كانت ثورة حناجر متفجرة صارخة (محرومة) وليست تشييعاً لميت.
لا زلت أتذكر وجه (ام صالح) الباسم الحزين ووقفتها المهيبة بباب دارها مدلية عباءتها ربطتها لخصرها (وشيلتها) السوداء الجنوبية شعار وعلم.
تشير رافضة دخول التابوت للبيت فما رأته من تشييع جماهيري كبير اراح القلب وواسى الوجدان أن لهذا الأنسان الاف الأخوة.
منعت منظمة حزب البعث في المنطقة ومديرية الأمن إقامة مجلس الفاتحة.
طوقوا (حي الشهداء) شهراً أو اثنين تخللها مضايقات واعتقالات لكل من شكو به انه سار صوب بيتٍ من بيوتات الضحايا.
كان لكبير البعثيين في تلك المنطقة صولة وجولة في منع إقامة مجلس العزاء متربطاً سلاحه ومعلياً بالترهيب جناحه نافخاً صدره مُعلِياً صياحه بأقذر الألفاظ.
كانت تلك الحادثة بتاريخ الخامس والعشرين من الشهر الثاني لسنة (2003).
يا لسخرية القدر.
بشر نسى أنه زائل فعاث في الأرض فساداً وتنمّر.
فبعد شهر.
ولوا الدبر.
سقط نظام حكم الأمن والمخابرات والمنظمات الحزبية واختبئوا بالجحور من كانوا يسومون الناس سوء العذاب إهانة واعتقالاً وتعذيبا.
سبحان مغير الأحوال.