شخصية الزير
الزير سالم هذا الرجل الفارس الشجاع الذي قامت على شخصيته الكثير من الأقاويل والأحاديث التي تتحدث عن شجاعته واقدامه وفروسيته، إضافة لحبه للخمر والتسلية وقرض الشعر في شتى المناسبات التي مرت عليه طوال حياته التي عاشها محبًا لأخيه كليب حبًا لا يضاهيه حب أخ لأخيه في ذلك الزمان.
لقد تحدث الكثيرون عن قصة الزي
بداية قصة عدي المهلهل وأخيه كليب
وبذلك عادت الجزيرة العربية لسيطرته وطُويت صفحة ربيعة؛ ذلك الملك الحاكم، لتفتح صفحة الأخذ بالثأر عند ولديه كليب والزير سالم إلا أنهما كانا صغيرين في ذاك الوقت.
وتتالت الأيام وكليب يزداد قوة وشجاعة وبسالة حتى صار فارسًا لا يشق له غبار، أما الزير سالم فكان فتى ضخم الجثة فارسًا مغوارًا، شجاعًا كرارًا، غير أنه ميال للهو والنساء والخمرة، إلا في أوقات العسرة.
علاقة الزير المهلهل بأخيه كليب
لقد كان الزير سالم أصغر من أخيه كليب حيث أن الزير سالم كان يبلغ من العمر 10 سنوات عندما صار أخيه كليب سيدًا على قومه بعد مقتل والدهم على يد الملك التبع اليماني.
كان كليب يحب أخيه حبًا كبيرًا لأنه هو الذي كان يرعاه بعد مقتل والدهم، فجعله فارسًا قويًا ذا قلب صلب قاسي لا يخاف ولا يهاب أحدًا.
وبالمقابل كان الزير سالم يحب كليب حب الأخ لأخيه الذي كان له بمثابة العوض عن الوالد، وكان كليب يأخذ الزير سالم معه إلى الصيد والقنص ليعلمه صيد السباع والغزلان ليشتد عوده ويقوى ويصبح فارسًا يُشار إليه بالبنان.
وهذا ما كان فقد كان الزير سالم مولعًا بالصيد حيث يقضي معظم أوقاته في البراري يصيد السباع ويتباهى بأعدادهم ويفتخر بحمل رؤوس السباع إلى القبيلة عند عودته من الصيد لتقابله القبيلة بالعجب والفخر والدهشة معًا.
حيلة استرداد الجليلة بنت مرة من التبع اليماني
كان لكليب دور في الأخذ بثأر والده واسترداد الجليلة – ابنة عم الزير سالم – من التبع اليماني؛ فقد وصل إليه ما تتمتع به هذه الفتاة من الجمال والكمال، وحسن الخصال، والفصاحة والبلاغة، وسرعة البديهة؛ فأرسل التبع وزيره نبهان برسالة إلى أبيها مرة جاء فيها خطبة مبطنة بالتهديد والوعيد فإما يزوجه بابنته، وإما يعلن الحرب على قبيلته.
فلم يكن من الشيخ الجليل “مرة” إلا حقن الدماء، ودفع البلاء، والموافقة على هذا العرض بوجه وضاء، مخفيًا في سريرته حزنًا عميقًا ومقرًا بذل يلحق به أبد الدهر، كيف لا وقد أعطى كلمته لابن أخيه.
ولم يكن منه إلا أن استدعى كليبًا وأخبره بما جرى، وأنه تمنى أن يموت ويدفن تحت الثرى، ولا يكون في هذا الهوان، وينصاع لأمر هذا الطاغية الجبان.
فقصد كليبًا عرافًا ليرى ما هو بالأمر فاعل، فقال له العراف: ألاّ سبيل إلا بالحيلة بأن يجهزوا صناديق الجهاز، ويضعوا فيها الفرسان الأفذاذ، ويشدوا الرحال إلى التبع اليماني، ويتنكر كليب ويجعل من نفسه قشمر، وهذا ما حصل.
ولما دخل كليب عرّف التبع بنفسه وأخرج سيفه من غمده، وطعن التبع في صدره، وعاد بالجليلة إلى ديارهم، وتزوج بها وأصبح ملكًا يهاب في مضاربهم.
علاقة الزير سالم بزوجة أخيه وابنة عمه الجليلة
كانت الجليلة في بداية حياتها مع ابن عمها وزوجها كليب تتعامل بشكل عادي مع أخيه الزير سالم حتى جاء اليوم الذي أخبرها أخوتها وعلى رأسهم أخوها جساس بأنهم ضربوا الرمل (وهذا كان يفعله العرب ليعرفوا الغيب والطالع) وأنه من خلال العرافين أخبروهم أن الزير سالم سيعلو شأنه أكثر بكثير مما يتصورون وسيصبح خطرًا عليهم، فما كان منهم إلا أن أجمعوا على قتله قبل أن يحدث هذا الأمر.
طلبت الجليلة من اخوتها أن يتركوا الأمر إليها وهي ستفعل ما يجب فعله، وفعلًا بدأت تكيد للزير سالم المكائد وتشي به لأخيه كليب حتى توغل الحقد والكراهية في قلبه تجاه أخيه الزير سالم.
في البداية لم يفعل كليب أي شيء لكنها أصرت على أن الزير سالم قد حاول معها أن يفعل الحرام فاشتد غيظ كليب وطلب منها أن تترك الأمر إليه.
أحس الزير سالم بما تكنه له زوجة أخيه الجليلة ولكنه لم يُبد إي فعل وكان في كل مرة تحاول أن ترمي به عن طريق كليب إلى التهلكة ولكنه كان ينجو بفروسيته وشجاعته.
حيث كان كليب يريد أن يتخلص من أخيه دون أن يعرف أحد من قاتله فمرة كان يرسله ليأتي للجليلة بحليب اللبوة، وفعلًا يرجع وهو يحمل رأس اللبوة والأسد وجارًا وراءه أشبال اللبوة مع قربة من حليب هذه اللبوة تحت دهشة القبيلة واعجابها بشجاعته مع أنها طلبت منه أن يذهب بدون سيفه فهو كما كانت تقول الفارس المغوار الذي تهابه الأسود، ولم يحمل معه سوى القربة التي سيضع فيها الحليب مع حماره وسكينًا صغيرًا.
وفي مرة أخرى أرسله كليب ليذهب لإحضار ماء له من بئر السباع حيث ادعى بأنه مريض ولا يشفى إلى إذا شرب من ماء بئر السباع، ويعود الزير سالم حاملًا معه الماء تحت دهشة وغيظ الجليلة.
بمعنى آخر لم تستطع الجليلة بكل أساليبها أن توغل قلب أخيه عليه لأن كليب عرف كيف أن أخيه يحبه كثيرًا وأن هذا كله من كرهها له فقط.
سطوة كليب أصبحت لا تحتمل
زادت سطوته لدرجة لا تحتمل؛ فمنع الجوار، وإضرام النار، وصار حامي الحمى، ومنع الصيد في الصحراء والفلاة، إلى أن بلغ السيل الزبى. وكان “جساس” فارسًا من خيرة الفرسان، له صيت وشان بين العربان، إلا أن الأنفة أخذت منه كل مأخذ، وجرى في عروقه طيش لم يترك للحلم منفذ، وكلما انطفأت نار حقده، عاد كليب وأضرمها بفعله.
إلى أن دخل كليب في يوم من الأيام على الجليلة وسألها سؤالاً كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير “فسألها: من أعز وائل؟ فلم تجبه إلى أن أعاد عليها السؤال مرات عديد فأجابت بعد إلحاحه عليها: أخواي همام وجساس.
سطوة كليب وردة فعل جساس أخو الجليلة
وفي تلك الفترة كانت سعاد بنت منقذ التميمية خالة جساس والتي تدعى البسوس تقيم عندهم وتملك ناقة وفصيلاً فأرسلت ناقتها وفصيلها مع إبل جساس لترعى في حمى كليب ولم يكن يسمح كليب إلا لإبل أنسبائه بدخول هذه الحمى فلما رأى كليب فصيل الناقة رماه بسهم فأرداه قتيلًا.
فذهب الرعاة لجساس وأخبروه بالأمر “فقال جساس قتلته وأخليت لنا لبن أمه”، وسكت جساس عن هذه الإهانة ولكن كليبًا لم يتوقف عن استفزازهم.
رواية أخرى لحادثة الناقة
“وفي رواية أخرى أن الناقة سراب كانت لسعد بن شميس بن طوق الجرمي الذي نزل عند البسوس وجعل ناقته ترعى مع إبل جساس فلما رآها كليب أنكرها فقال له جساس: هذه ناقة جارنا الجرمي، فقال كليب: لا تعد هذه الناقة إلى الحمى.
فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه الناقة معها، فقال: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك (الصدر والبطن).
وعاد كليب بعد هذا الحوار المستفز إلى داره فسأل الجليلة: أترين أن في العرب رجلاً مانعًا مني جاره؟ فسكتت فأعادها ثانية وثالثة، فقالت نعم أخي جساس وندمائه ابن عمه عمرو بن الحارث”.
فذكر لها ما جرى بينه وبين أخيها فناشدته ألا يقطع رحمه وكذلك فعلت مع جساس درئًا للمشاكل وكان مرة وأولاده عقلوا الناقة حتى لا ترد الماء فلما مرت بها إبل كليب حلت العقال وتبعت الإبل فلما رأى كليب الناقة سراب” قال: أوقد بلغ من أمر ابن السعدية أن يجير عليّ بغير إذني ارم ضرعها يا غلام؛ فاختلط لبنها بدمها.
ولما سمعت البسوس صراخ جارها الجرمي صاحت: واذلاه، فقال لها جساس: اسكتي فإني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة سأقتل غلالاً (أو علالاً)” فحل إبل كليب ولم يرَ بزمانه مثله ووصل الخبر إلى كليب إلا أن كليبًا لم يلق له بالاً.
موقف البسوس والزير سالم مما يحدث من كليب
في هذه الأثناء كانت البسوس تنسج شباك المكر والخديعة لتحقق مأربها بقتل كليب، فأخذت توغل صدر جساس بالأحقاد والضغائن.
أما الزير سالم فكان موقفه موقف الحكمة والتأني آنذاك، وأراد أن يخفف من حدة غضب كليب فطلب منه تهدئة الأمور مع أولاد عمومته حفاظًا على صلة الرحم فما كان من كليب إلا أن “قال له: إنما أنت زير نساء، والله لو قُتلتُ ما أخذت بدمي إلا اللبن”.
قتل جساس لكليب كان بداية قصة الزير سالم الحقيقية
وبقيت الأحقاد تزداد شيئًا فشيئًا إلى أن خرجت في ذاك اليوم المشؤوم نسوة لموارد الماء، وكان بصحبتهم كالعادة خيرة الفرسان لحمايتهن من غارة مفاجئة تؤخذ فيها النسوة سبايا، ومن ضمن الفرسان جساس.
فأردن أن يردن ماء شبيث فلحق بهم كليب ومنعهن؛ فذهبن إلى ماء الأحص فمنعهن؛ فوصلوا ماء الذنائب فمنعهن؛ “فقال جساس: طردت أهلنا حتى كدت تقتلهم عطشًا. فرد كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال جساس: هذا كمثل فعلتك بناقة خالتي البسوس. فقال كليب: أوقد ذكرتها! أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لأحللت بها الإبل جميعًا أو مانعي أن أذب عن حماي يا ابن السعدية”.
فعطف عليه جساس فرسه فطعنه بين حضنيه (ما دون الإبط إلى الكاشح)، فطلب كليب من جساس وهو يعاني سكرات الموت شربة ماء فلم يستجب له. فطلب ذات الطلب من عمرو بن الحارث فلم يستجب له بل أجهز عليه.
وعاد جساس بعد فعلته هذه إلى الديار وقد كشف عن ركبتيه “فقال أبوه مرة حين رآه على هذه الحالة والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم، فسأله: ما وراءك يا بني؟ فقال جساس: ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن شيوخ وائل بها زمانًا. فسأله الأب مرة ثانية: أقتلت كليب؟ قال: نعم. فقال مرة: وددت أنت وإخوتك متم قبل هذا”.
موقف همّام أخو جساس والزير سالم من مقتل كليب
وبينما كان همّام أخو جساس مشغولاً مع الزير والجواري والقيان في شرب الخمر بالبرية، وإذ بفرس على ظهرها جارية أسرُّت لهمام بما حصل وأخبرته بأن والده أرسل معها الفرس كي يهرب بها همام خوفًا من غضب الزير سالم. فشعر الزير بأمر غريب فاستحلفه بالعهد الذي بينهما أن يصدقه القول ولا يخفيه سرًا فأخبره بأن جساسًا قتل كليبًا، فاستخف الزير بالأمر” وقال: دعك من هذا، فهمة أخيك أضعف من ذلك”.
ولكن همام توقف عن الشرب وانسل من مجلس الزير ليعود إلى أهله ويعرف حقيقة الأمر؛ فكانت الفاجعة التي لم يتوقعها همام ولا أحد من الأنام.
تحول مجرى قصة سالم بعد مقتل أخيه كليبًا
أما المهلهل وبعدما انتهى من مجلس شرابه عاد إلى مضاربه ثملاً مترنحًا. ففوجئ بالتغلبيين؛ فهم بين باكٍ وشاكٍ، مفجوع بالمقتول ومندهش من القاتل، ثائر لملكه وعاقر لخيله وكاسر لرمحه”.
فقال لهم: ذهبتم شر مذهب، أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها؟! وتكسرون سلاحكم حين افترقتم إليه؟! وقال للنساء: استبقين للبكاء عيونًا تبكي إلى آخر الأبد”.
وكان الزير سالم على علاقة قوية مع ابن عمه همّام أخو الجليلة وجساس حيث كانا يذهبان معًا إلى أماكن اللهو يسكران ويتنادمان ويتلاقيان بشكل يومي ويحبان بعضهما البعض صديقين كأخوين أو أكثر.
ولما حدث ما حدث، كان همّام خائفًا أن ينتقم منه الزير سالم، ولكنه طمأنه وأخبره بأنه لا علاقة له بالأمر إنما الأمر بين الزير سالم وبين جساس، وأقسم أمامه أيضًا أنه لن يرفع السيف عن مقتل قاتل كليب وأهل قبيلته حتى يشفي غليله منه، ويهتك نساء قومه ويجعلهم عبرة بين الناس. وطلب منه أن يذهب من أمامه ولا يريه وجهه أبدًا؛ فذهب وبقي شيبان وهو ابن همّام؛ حيث رفض الذهاب مع أبيه وفضّل البقاء مع خاله الزير سالم.
محاولات وقف انتقام الزير سالم لأخيه كليب
كان الزير يتحرق ألمًا ويتوعد بقتل البكريين جميعًا؛ فاجتمع قومه وأرادوا أن يصلحوا بينه وبين أبناء عمومته، “فقالوا له: إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى تُعذر إلى إخواننا فبالله ما تجدع بالحرب إلا أنفك ولا تقطع إلا كفك فقال جدعه الله أنفًا وقطعها كفًا، والله لا تحدثت نساء العرب أني أكلت لكليب ثمنًا ولا اغتبقت دمه حليبًا. فقالوا لابد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم فكره الزير أن يخالفهم فينفضوا من حوله فقال دونكم ما أردتم”.
فانطلق رهط من أعيان تغلب حتى أتوا مُرّة “وقالوا له: إنكم أتيتم أمرًا عظيمًا بقتلكم الملك بشارف من الإبل وقطعتم الرحم ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث لكم فيها مخرج ولنا فيها مرضاة:
إما أن تدفعوا جساسًا إلينا فنقتله بصاحبنا وما ظلم من قتل واتره، وإما أن تدفعوا إلينا همامًا فإنه ند لكليب، وإما أن تمكنا من نفسك يا مرة ولنا فيها مرضاة.
فأطرق برهة وقد كف عن الجواب فقال له وجوه بكر: تكلم غير مخذول فقال: أما جساس فغلام حديث سن ركب رأسه فهرب حين خاف ولا أدري أي بلد انطوت عليه. وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة وغدًا يصيح بي بنوه ويقولوا سلمت أبانا بجريرة غيره. وأما أنا فلا أتعجل الموت، ولكن هل لكم في غير ذلك هؤلاء بني فدونكم أحدهم سوقوه فاقتلوه بابنكم وإلا فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر.
فغضبوا وقالوا: إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن ورجعوا فأخبروا المهلهل فقال والله ما كان كليب بجزور نأكل ثمنه”.
حرب بين الزير سالم وبين قبائل بكر
فانتهى الاجتماع المشؤوم وابتدأت حرب طويلة الأمد انقسمت فيها قبائل بكر بين مؤيد ومعارض فاعتزلت يشكر الحرب وقال الحارث بن عباد مقولته الشهيرة التي أصبحت مثلاً: “هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل”.
اشتعال الحرب بعد مقتل أخيه كليب
وبقي زمنًا وهو يبكيه، وبالقصائد الطوال يرثيه، ويتوعد البكريين، بقتل الشيوخ والأولاد، إلى أن يئس قومه منه واتهموه بأنه قوّال وليس بفعّال وقالوا لقد صدق كليب، “وهمَّ مُرّة وبنوه بالرجوع إلى الحمى بعد أن أمنوا غضبه فلما بلغ ذلك المهلهل انتبه للحرب وشمر عن ذراعيه وجمع أطراف قومه ثم جز شعره وقصر ثوبه وأقسم ألا يهتم بلهو ولا يشم طيبًا ولا يشرب خمرًا أو يدهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلاً من بكر”.
ويُقال أيضًا
أن لما ظل يتوعد البكريين، استفزه شيبان ابن اخته، حينما طلب منه أن يترك هذا الكلام، وطلب منه أن يشرب المدام؛ لأنه عاجز عن هذه الأفعال وهو ليس كأبوه همام وعمه جساس. فلم يحتمل الزير سالم هذا القول فقام وقتل ابن اخته ووضع رأسه على سرج حصان شيبان وأرسله لأمه وأبيه.
“ولما اجتمعت نساء الحي لمأتم كليب طلبن من أخته ترحيل الجليلة فإن في قيامها فيه شماتة وعار فقالت أخت كليب للجليلة: يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا” فخرجت الجليلة واستقبلها أهلها وعاشت عندهم بقية حياتها تلاقي ما لاقاه أهلها من آلام المعارك وقد حوت في أحشائها ابن كليب هجرس.
وظلت هذه الحرب قائمة ما يقارب أربعين سنة جعلت الجميع تعبًا ومرهقًا وكارهًا لهذه الحالة بينما الزير سالم كان يقاتلهم بكل قوة وعزم معبرًا بذلك عن ثأره لأخيه كليب وانتقامًا منه من جساس قاتل أخيه.
وكان من شدة حزنه على أخيه كلما فرغ من معركة جاء إلى قبر أخيه كليب يبكيه ويقول له لقد قتلت منهم كذا وكذا فهل اكتفيت يا أخي؟
5 أيام (وقعات حرب) في قصة الزير سالم بينه وبين قبائل بكر
“في حين انضمت قبائل نمر بن قاسط إلى تغلب وبدأت الحرب واستمرت أربعين عامًا وكانت عبارة عن وقعات فلم تكن حربًا متواصلة بل كانت شحناء وبغضاء تجعل من لقاء التغلبي بالبكري مواجهة مسلحة فتعد من أيامهم ومن أبرز هذه الوقعات خمس وقعات تسمى أيامًا وهي:
1 – يوم الذنائب:
وفيه قتل همام بن مرة
2 – يوم الواردات:
وبعده قتل رسول الحارث بن عباد والذي يدعى بجير وعلى إثر ذلك دخل الحارث بن عباد الحرب حيث أرسل الحارث ببجير ابن أخيه (ويقال ابنه) إلى المهلهل برسالة “يقول فيها: أي مهلهل، لقد قتلت خصمك وأسرفت فيهم فأدركت ثأرك فكف عن القتل أحفظ للحيين وأدمل للجراح وإن كنت ترى غير ذلك فهذا ابني بجيرًا فاقتله مكان أخيك.
فغضب المهلهل وقال: هذا الوضيع مكان كليب ثم جرد سيفه يريد قتله. فقال له أمرؤ القيس لا تفعل فوالله ليقتلن به منكم كبش لا يُسأل عن خاله من هو، فأبى المهلهل إلا قتله فطعنه برمح وقال: بؤ بشسع نعل كليب (الشسع: خيط في النعل يربط بين الإصبع الكبيرة والإصبع المجاور لها).
ولما بلغ الخبر الحارث وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأسًا قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين حيين فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب فأرسل إلى المهلهل مستفسرًا: إن كنت قتلت بجيرًا بكليب وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك. فأرسل المهلهل إنما قتلته بشسع نعل كليب فغضب الحارث ودعا بفرسه وكانت تسمى النعامة فجز ناصيتها وهلب ذيلها “وقال أبياته المشهورة ومنها:
قتلوه بشسع نعل كليب … إن قتل الكريم بالشسع غال
قربا مربط النعامة مني … لقحت حرب وائل عن حيال
3 – يوم عنيزة:
وفيه قُتل نفر كثير من بكر ويقال قتل جساس في ذلك اليوم. وورد في رواية ابن عبد ربه في عقده أنه مات إثر جرح أصيب به من سهم طائش حين حصلت المواجهة بينه وبين أبي نويرة فقتل أبو نويرة وعشرة من الرجال كانوا معه وجرح جساس فهرب إلى عند أخواله في الشام وهناك مات ولم يكن له أن تقلد الملك أو حكم أو تحكم بالتغلبيات.
4 – يوم القصيبات:
وشارك فيه كلثوم زوج ليلى بنت المهلهل
5 – يوم تحلاق اللمم:
وفيه شارك الحارث بن عباد في صفوف البكريين بعد مقتل بجير وهذه كانت آخر الأيام رغم أن اللقاءات استمرت بين الرجل والرجلين إلى أن تم الصلح.
نهاية المهلهل ونهاية قصة الزير سالم
هناك روايتان لموت الزير سالم، والرواية الأولى هي الأوثق:
الرواية الأولى:
أما نهاية المهلهل فبدأت مع الحارث بن عباد حين أسره ولكن لضعف بصره لم يتبينه “فقال له: دلني على المهلهل، قال ولي دمي، فقال ولك دمك، فقال: ولي ذمتك وذمة أبيك، فقال: نعم لك ذلك، فقال أنا المهلهل، خدعتك عن نفسي، والحرب خدعة.
فقال الحارث كافئني بما صنعت لك بعد جرمك، ودلني على كفء لبجير فقال: لا أعلمه إلا امرئ القيس بن أبان رئيس قومه والفارس الهمام هو ذاك. فقام الحارث بجز ناصية المهلهل، ثم شد على بن أبان فقتله”.
وبقي المهلهل يحرض قومه على الأخذ بالثأر إلا أنه لم يعد ذلك الفارس المغوار الذي يقود الجيش الجرار وكانت القبائل قد أنهكتها الحرب فقام صلح بين القبيلتين إلا أن المهلهل نقضه عندما أغار على قيس بن ثعلبة فظفر به عمرو بن مالك فأسره وأحسن له حيث أفرد له بيتًا يستقبل فيه زائريه ويولم لهم كما لو كان في أهله وفي ذات الأيام أهداه نصراني زقًا من خمر فلما سكر قال هذه الأبيات:
طفلة ما ابنة المحلل بيضاء … لعوب لذيذة في العناق
فاذهبي ما إليك غير بعيد … لا يؤاتي العناق من في الوثاق
ضربت نحرها إلى وقالت … يا عديًا لقد وقتك الأواقي
“فلما سمع بذلك عوف رئيس قيس بن ثعلبة اغتاظ وأقسم ألا يذوق المهلهل قطرة ماء حتى يرد الخضير (الخضير: بعير لعوف لا يرد الماء إلا في اليوم السابع) فقال له ناس من قومه: بئس ما حلفت قتلت مهلهلاً وإلى أن ورد خضير كان قد هلك المهلهل عطشًا”.
وهذه الرواية الأوثق لموته فقد أوردها عبد ربه في عقده والطبري في تاريخ الأمم والملوك والقرشي في جمهرته وابن منظور في لسانه وياقوت في معجمه.