فيكتور هوغو شاعر وروائي ومن رواد أدباء فرنسا الحقبة الرومانسية (غيتي)
عام 1863، دعا الروائي الفرنسي فيكتور هوغو (1802-1885) في رسالة إلى القوات الروسية إلى وقف مذابح البولنديين الذين كانوا يقاتلون من أجل حريتهم، لكن لم يكن لكلماته أي تأثير، وإذ تشبه تلك الرسالة خطابات التضامن الأوروبي مع أوكرانيا في خضم الحرب التي تشنها روسيا عليها حاليا، فإنها تؤرخ لمحدودية تأثير الأدباء والشعراء على الأحداث السياسية الكبرى آنذاك.
كانت الأحداث التي عرفت باسم "ثورة يناير" في مملكة بولندا تمردا مسلحا سعى لاستعادة الكومنولث البولندي الليتواني من الحكم الروسي، لكن قمعته القوات الروسية بقوة عام 1864، ورغم دعم قوى أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا والنمسا للبولنديين الكاثوليك، فإن رغبتهم في الحفاظ على السلام مع روسيا جعلت ذلك الدعم محدودا للمقاتلين المتمردين.
يقول الكاتب فرانسوا غيوم لورين، في تقرير نشرته صحيفة "لوبوان" (le point) الفرنسية، إن شاعر وكاتب فرنسا هوغو عبّر علنًا عن مساندته لـ 3 قضايا أجنبية: المكسيك التي هاجمتها فرنسا في عهد نابليون الثالث، الزعيم الإيطالي غاريبالدي الذي أراد إجبار روما على شن الحرب على النمسا، البولنديون الذين تمردوا ضد الاحتلال الروسي بداية عام 1863.
ويُبيّن الكاتب أن دعم هوغو للقضية البولندية ليس أمرا غريبا عليه. ففي عام 1831، أثناء الانتفاضة الأولى في بولندا، كان هوغو أحد أكثر الأعضاء نشاطا في اللجنة الفرنسية البولندية التي اعتبرت أن "كل فرنسا بولندية".
وفي قصيدة تختتم مجموعته "أوراق الخريف" التي نُشرت عام 1831، سلّط هوغو الضوء على الأحداث منتقدًا الروس بشدة.
الانتفاضة ضد الروس
في فبراير/شباط 1863، بينما ردت القوات المتمردة البولندية بالسلاح على التجنيد الإجباري بأمر من رئيس الحكومة المدنية الروسية منتصف يناير/كانون الثاني 1863، لم يكن الوضع ميؤوسًا منه بعد بالنسبة للبولنديين الذين كانوا يحاولون شنّ حرب عصابات ضد المحتل حيث تمركز قرابة 100 ألف رجل في الجزء البولندي.
في ذلك الوقت، كتب ستيفان بوبروفسكي، رئيس الحكومة الوطنية البولندية المؤقتة، الذي وعد بتحرير الأراضي، رسالتين "إلى الإخوة الليتوانيين والإخوة الروس" لحثهم على الانضمام إليهم في التمرد.
أرسل المفكر الروسي الاشتراكي التحرري ألكسندر هيرزن، الذي كان يعرف هوغو، رسالة إلى الأخير في المنفى بجزيرة غيرنزي (التابعة حاليا للتاج البريطاني) طالبا فيها المساعدة "أيها الأخ الأكبر، ساعدنا! قل كلمة الحضارة". وهذا يعني أن الدعوة لم تكن موجهة من قبل الجانب البولندي وإنما من روسي معارض للنظام السياسي القيصري.
"الضمير العالمي"
لقد كان مؤلف "البؤساء" بمثابة الضمير العالمي الذي يلجؤون إليه، وقد ردّ على الفور بكتابة هذه الرسالة التي نُشرت لاحقًا في مختلف الصحف الفرنسية والأوروبية. وأرسل خطابا طويلا متوجهًا فيه إلى الطرف الآخر من أوروبا حيث يحتدم القتال.
ناشد هوغو إنسانية هؤلاء الجنود الروس وراهن على طيبة قلوبهم بتذكيرهم بأنهم مستضعفون أيضًا وعليهم ألا يتخلوا عن قضية "الحضارة" وهو ما يعني أن رسالة هيرزن لاقت ترحيبًا كبيرًا.
لوحة تجسد آثار انتفاضة يناير/كانون الثاني 1863 الفاشلة حيث إن الأسرى البولنديين ينتظرون النقل إلى سيبيريا (مواقع إلكترونية)
اتبع هوغو إلى حد كبير الخط الذي اتبعه لاحقا الشاعر البولندي الألماني يوهانس بوبروفسكي (1917-1965) الذي دعا الروس إلى التمرد. وقد استخدم هوغو في وصف "القيصر" كلمة "الجزار" وهو وصف يشبه إشارة الرئيس الأميركي جو بايدن لنظيره الروسي بوتين مؤخرا، وأدان البابا بيوس التاسع الكاثوليكي محاولات "الملك القاسي" المناهض للدين إنهاء "الديانة الكاثوليكية لدى البولنديين".
مثل سائر أمم أوروبا، لم تساعد فرنسا نابليون الثالث عام 1863 البولنديين، ومن الواضح أن رسالة هوغو لم يكن لها أي تأثير، وقد زادت المجازر مرة أخرى خلال عام 1863 مع إعدام مئات من المتمردين وترحيل ما يقارب من 40 ألف بولندي إلى سيبيريا، مما عمّق كراهية البولنديين تجاه الروس، بحسب الصحيفة الفرنسية.
وقد ظل هوغو حتى وفاته مرتبطًا بالقضية البولندية، وردّد قبل وفاته عام 1885 "أنا بولندي، لأنني فرنسي.. بولندا سوف تنتصر. إذا ماتت إلى الأبد، فذلك يعني موت جميع شعوبنا الأوروبية لأن بولندا جزء من قلب أوروبا". وقال العديد من الكلمات الأخرى التي مازالت حية إلى اليوم مثل هذه الرسالة، وتشبه خطابات التضامن الأوروبية مع أوكرانيا حاليا.
الجنود الروس بعد سحق انتفاضة البولنديين في يناير/كانون الثاني 1863 (مواقع إلكترونية)
كتب هوغو في رسالته:
"إلى الجيش الروسي، أيهما الجنود الروس، سوف تصبحون رجالا مجددا هذا المجد قُدم لكم الآن، اغتنموا الفرصة. وبينما لا يزال هناك متسع من الوقت، استمعوا.. أيها الضباط من ذوي القلوب النبيلة، إذا واصلتم هذه الحرب الوحشية فإنه يمكن لهذه النزوة أن تحط من كرامة البولنديين وتهجّرهم إلى سيبيريا، أنتم أيها الجنود، أقنان الأمس وعبيد اليوم، ممزقون بعنف بين أمهاتكم وخطيباتكم وعائلاتكم".
وأضافت الرسالة "إنكم رعايا عبيد وتعانون من سوء المعاملة وسوء التغذية ومحكوم عليكم لسنوات طويلة ولفترة غير محددة بالخدمة العسكرية الأصعب في روسيا من أي مكان آخر، إذا كنتم أنتم الضحايا فينبغي أن تنحازوا إلى صف الضحايا، في الساعة المقدسة عندما تنهض بولندا الموقرة في الساعة العليا عندما يتم تخييركم بين سانت بطرسبرغ حيث يوجد الطاغية ووارسو حيث الحرية".
وقالت "إذا تجاهلتم في هذا الصراع الحاسم واجبكم، واجبكم الفريد، إذا تجاهلتم الأخوة، إذا تعاونتم ضد البولنديين مع القيصر جلادهم وجلادكم، وإذا كنتم مظلومين ولم تتعلموا من القمع أي درس آخر سوى دعم الظالم، وإذا كان سوء حظكم يجعلكم تخجلون، وإذا أنتم الذين تحملون السيف كنتم في خدمة الاستبداد الذي يشبه وحشًا ضخمًا لكنه ضعيف يسحقكم جميعًا، وإذا كانت لكم أيها الروس وكذلك البولنديون قوة عمياء ومضللة".
وقال هوغو في رسالته "وإذا آثرتم بدلًا من الالتفاف ومواجهة جزار الأمم أن تكونوا جبناء تطغون تحت تفوق الأسلحة والتفوق العددي على هؤلاء السكان اليائسين الأبطال المطالبين بأول الحقوق وهو الحق في وطنهم، إذا أكملتم منتصف القرن الـ 19 اغتيال بولندا، إذا فعلتم هذا فاعلموا يا رجال الجيش الروسي أنكم سوف تسقطون، وهو ما يبدو مستحيلا حتى تحت العصابات الأميركية في الجنوب، أنتم سوف تعدِمون العالم المتحضر! إن جرائم القوة كانت ولا تزال جرائم، وإثارة الرعب العام عقوبة.
واختتم الشاعر والروائي الفرنسي رسالته بقوله: أيها الجنود الروس، استلهموا من البولنديين، لا تقاتلوهم.
إن بولندا ليست العدو، إنها المثال.
فيكتور هوغو
هوتفيل هاوس، 11 فبراير/شباط 1863.