شوارع مظللة ومضاءة وفنادق ومولات تجارية.. عمران المدينة الإسلامية ج 3
فضاءات عامة
وقد أدت كثرة الشوارع وتداخلها إلى تسميتها بأنماط كثيرة من التسمية تدور بين المعيارية والاعتباطية؛ فإذا أخذنا بغداد نموذجا فسنجد أن مؤرخها اليعقوبي يذكر -في كتابه ‘البلدان‘- العشرات من الشوارع/السكك التي كانت تسمّى بإضافتها إلى مؤسسات تقع فيها، أو أشخاص مشاهير ومن كل ملة يسكنون قربها، ومما ذكره سردا في أحد نصوصه: "سكة الشرطة، وسكة الهيثم، وسكة المُطْبِق (= سجن)...، وسكة النساء، وسكة سرجس، وسكة الحسين"!!
وربما تدخلت السلطة فوضعت معايير لتسمية الشوارع يبدو أنها لم تكن تخلو من دوافع سياسية؛ كما حصل حين أمر الخليفة العباسي المنصور مدبِّري شؤون عاصمته بغداد بـ"أن يُسمّوا كُلَّ درب باسم القائد النازل فيه، أو الرجل النبيه الذي ينزله، أو أهل البلد الذي يسكنونه"؛ وفقا لليعقوبي.
ومن اللافت تخصيص ميادين عامة بالمدن الإسلامية -وسطها أو في أطرافها- كانت تمثل فضاء مشتركا بين ساكنتها، بل إن ابن خلدون جعل وجودها مطلبا صحيا للناس، وربط بين غيابها وكثرة الأمراض بسبب تلوث الهواء في المدن؛ فرأى "أن تخلُّل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموُّج الهواء [فـ]ـيذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات، ويأتي بالهواء الصحيح، ولهذا أيضا فإن المَوَتان (= كثرة الوفيات) يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها" بسبب تلوث بيئتها.
وبجانب العامل الصحي والبيئي في وجود الميادين العامة بالمدن الإسلامية؛ فإنها كانت لها وظائف اجتماعية أخرى لما كان ينظم فيها من احتفالات كبرى رسمية وشعبية، على غرار ذلك الاستعراض العسكري الضخم الذي نظمه الخليفة العباسي ببغداد الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م) أمام مبعوث التتار سنة 617هـ/1220م لإظهار قوة الخلافة.
فقد تطرق الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إلى وقائع هذا الاستعراض، فذكر فيها أنهم "لم يتركوا ببغداد فرسا ولا جملا ولا حمارا حتى أركبوه رجلا ومعه شيء من السلاح وأكثرهم بالأعلام"، وكان من ضمنهم "خلق يلعبون بالنفط ويرمون بالبُنْدقِ (= كرات صغيرة) الزجاجِ فيه النفطُ، فامتلأت البرية بالنيران" والناس حولها يتفرجون.
كما كانت هذه الميادين تستضيف أحيانا مسابقات الألعاب الرياضية التي ربما اشترك في فعالياتها الخلفاء والسلاطين أو أشرفوا على تنظيمها؛ فالميدان الأخضر في دمشق خصصه الزنكيون والأيوبيون والمماليك لمنافسات لعبة "القَبق"، وهي إحدى ألعاب الرماية.
بل إن المماليك أنشؤوا -في دولتهم- ميدانا خارج أسوار القاهرة الشمالية أسموه "ميدان القَبق"، وخصصوه لألعاب الرماية والمبارزة وسباق الخيول والهجن، وكانوا يُرسلون "الخيل للسّبْق وعِدّتُها دائما في كلّ سنة ما ينيف على مئة وخمسين فرسًا"؛ طبقا للمؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.
حدائق ومتنزهات
ومع الميادين العامة وما كانت توفره من متنفَّس لسكان المدن في زحمة حياتهم وأشغالهم؛ اشتهرت المدن الإسلامية بكثرة حدائقها الغنّاء، سواء منها ما كان خاصا في بيوت الخلفاء والوزراء والأثرياء عموما، أو تلك العامة التي كانت مجمعا للأهالي -من جميع الفئات والطبقات- في نزهاتهم ولقاءاتهم الاجتماعية.
فالمؤرخ المسعودي (ت 346هـ/957م) يخبرنا -في ‘مُروج الذهب‘- بأنه "كان للقاهر (الخليفة العباسي ت 339هـ/950م) في بعض الحصون بُستانٌ نحوٌ من جَرِيب (= 1500 متر مربع)، قد غُرس فيه النَّارَنْجُ (= نوع من الليمون)، وقد حُمل إليه من البصرة وعُمان مما حمُل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الغُروس والرياحين والزهر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار (= الطيور)... مما قد جُلب إليه من الممالك والأمصار، وكان ذلك في غاية الحسن"!!
ويستفيض المقريزي كثيرا في ذكر أماكن التنزه في القاهرة الفاطمية والمملوكية؛ فيتحدث مثلا -في كتابه ‘السلوك‘- عما اعتاده سكانها من "ضرْب الخيم على شاطئ النّيل بالجزيرة وَغَيرهَا للنزهة". ويصف -في ‘المواعظ والاعتبار‘- متنزهات "خليج مصر" فيقول: "وما برح هذا الخليج منتزها لأهل القاهرة يعبرون فيه بالمراكب للنزهة..، وللسُّرُج (= القناديل) في جانبيه بالليل منظر فتان، وكثيرا ما يتفرج فيه أهل السِّتْر" من أعيان المجتمع.
بل إن المقريزي -وهو الفقيه القاضي- يشير إلى ظاهرة عجيبة في دلالتها الحضارية؛ وهي إنشاء حدائق عامة قرب المساجد الجوامع وفتحها أمام الناس للتنزه والفُرجة، كما هو الحال في "الجامع الطيبرسي" الذي أنشئ سنة 707هـ/1307م "بشاطئ النيل في أرض بستان...، وكان من أحسن منتزهات مصر وأعمرها...، ويركب الناس المراكب للفرجة من هذا الجامع.. مصعدين ومنحدرين في النيل، ويجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة، فتمر به أوقات ومسرات لا يمكن وصفها"!!
ولئن كانت حركة التجارة والبيع والشراء وقدوم المسافرين والواردين إلى هذه المدن -لأغراض مختلفة- قد ارتبطت بشبكات طرق قديمة، كانت تقع عليها محطات استراحة أو فنادق صغيرة سُميت "الخانات" وربطت بين أقاليم العالم الإسلامي؛ فقد كان من الطبيعي أن نجد الفنادق الكبرى داخل المدن لاستقبال التجار والمسافرين الطارئين، وتوفير ما يحتاجونه من مرافق للسكن والراحة ومستودعات لتخزين السلع والبضائع.
وكانت هذه الفنادق تُبنى من طابقين أو أكثر ويوجد في وسطها صحن، فأما الغرف العلوية منها فكانت تُخصص لإقامة التجار والمسافرين، وأما السفلى فكانت لتخزين البضائع وحيوانات السفر. وقلمّا خلت مدينة من هذه الفنادق والخانات التي ربما خُصصت لها مناطق معينة من المدينة أو إحدى ضواحيها، كما يُفهم من قول الرحالة ابن جُبير إن مدينة حماة السورية "رَبَضُها (= ضاحيتها) كبير، فيه الخانات والديار، وله حوانيت يستعجل فيها السافر حاجتَه إلى أن يفرغ لدخول المدينة".
وقد حدّثنا ابن حوقل -في ‘صورة الأرض‘- عن فنادق مدينة نيسابور عاصمة خراسان في عصره، واختلاف أنواعها باختلاف أهل التجارات النازلين فيها، على نحو يشابه تفاوت فنادقنا اليوم في فخامتها وطبقات نزلائها، وفي تصنيفها -وفقا لذلك- بعدد نجومها.
وفي ذلك يقول: "وفي خلال هذه الأسواق خانات وفنادق يسكنها التجّار بالتجارات... للبيع والشراء، فيُقْصَد كلُّ فندق بما يُعلَم أنّه يَغلِب على أهله من أنواع التجارة، وقلَّ فندق منها لا يُضاهي أكابر أسواق ذوي جنسه، ويسكن هذه الفنادق أهلُ اليسار ممّن في ذلك الطريق من التجارة، وأهلُ البضائع الكبار والأموال الغزار (= الكثيرة)، ولغير المياسير فنادق وخانات يسكنها أهل المهن وأرباب الصنائع بالدكاكين المعمورة، والحُجَر المسكونة والحوانيت المشحونة".
خدمات متنوعة
كما يذكر الرحالة اليهودي الأندلسي بنيامين التُّطَيْلي (ت 569هـ/1173م) أن الإسكندرية كانت "تأتيها من الهند التوابل والعطور بأنواعها فيشتريها تجار النصارى، ولتجار كل أمة فندقهم الخاص بهم، وهم في ضجة وجلبة يبيعون ويشترون"!!
وقد تفاوتت الإحصائيات بشأن هذه الفنادق والخانات في مدن الإسلام حسب ازدهارها، لكن رسّاماً فرنسيا زار مدينة أصفهان الإيرانية في العهد الصفوي سنة 1084هـ/1673م ذكر أنه "كان بالمدينة وضواحيها.. 1800 خان" مخصص للتجار؛ وفقا لديورانت في ‘قصة الحضارة‘.
وبما أن وسيلة الانتقال في تلك العصور كانت تعتمد على ذوات الأربع من الحمير والبغال والخيول والجمال، فقد خُصصت أماكن لهذه الدواب للراحة أو لحطّ ما تحمله من بضائع إلى الأسواق، وقد وجدنا ذكرا -في كتب التواريخ وجغرافيا البلدان والرحلات- لكل من "اصطبلات" الخيول و"مُناخات" الجمال في مناطق متفرقة من المدن الإسلامية.
وغالبا ما كانت هذه المحطات تتمركز في أطراف هذه المدن أو بعض ميادينها الكبرى، بل إن الفاطميين خصصوا لها ديوانًا أسموه "ديوان المُناخات"؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘. ويفيدنا الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘حُسن المحاضرة‘- بتحديد لطبيعة وظيفة "نظر الاصطبلات" في مصر، فيقول إنه كان "لصاحبها الحديث في أنواع الإصطبل والمُناخات، وعلفها وأرزاق خَدَمها وما يُبتاع لها".
وكان من الضروري أن تُنشأ الحمّامات العامة في كل مدينة صغرت أم كبرت، وتلك الحمامات تختلف عن مفهومنا اليوم الذي يحصرها في بيت الخلاء، إذ كانت في ذلك الزمان للاستحمام والحجامة والتدليك والتنظف بالبُخار، وغيرها من المقاصد التي تدخل فيها أحيانا أغراض علاجية، فكانت "في مدينة طبرية مياه تنبع حارّة تفور في الصيف والشتاء ولا تنقطع، فتدخل المياه الحارّة إلى حماماتهم ولا يحتاجون لها إلى وقود"؛ طبقا للمؤرخ اليعقوبي في ‘البلدان‘.
وامتازت دمشق وأريافها بأنهارها، واستطاع سكان أهل غوطتها وقُراها أن يُجْروا "الماءَ في عامة دُورهم وسِككهم وحماماتهم"؛ طبقا للجغرافي الإصْطَخْري (ت 346هـ/957م) في ‘المسالك والممالك‘. وقد أُعجِب الرحالة المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م) بمدينة زَبيد اليمنية ورأى أن "آبارهم حلوة وحمّاماتهم نظيفة"، ووصف مدينة الرملة في فلسطين بأنها ذات "حمامات أنيقة".
ويقدم لنا الإمام المحدّث الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أرقاما مهولة عن عدد حمامات بغداد، وشكوى مؤرخيها من تناقص هذه الأعداد في عهود حُكْم متقاربة. وإذا أخذنا بأقل تلك الأرقام وأكثر قربا من المعقول -رغم ما فيه من ضخامة- فسنجد أنها "كانت في أيام عضد الدولة (السلطان البويهي ت 372هـ/983م) خمسة آلاف حمام"!!
أرقام معبّرة
ووفقا لإحصائيات عن الحمامات في مدن الحضارة الإسلامية -خلال عصور مختلفة وأقاليم مختلفة- تضمنها كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الهولندية، واستند فيها إلى كتب تواريخ البلدان الإسلامية؛ فإنه في القرن السادس الهجري/الـ12م كانت "حمامات حلب.. [في] مجموعها 195..، وكذلك.. حمامات دمشق 116 حماما على وجه الإجمال"، وأما حمامات قرطبة في نهاية القرن الرابع الهجري/الـ10م فكانت "تتراوح ما بين 300 حمام.. و600"، بينما كان عددها "مئة حمام" في فاس خلال القرن العاشر الهجري/الـ15م.
ويذكر المصدر نفسه أن حمامات إسطنبول كان "إجمالي عددها نحو 150 حماما" في القرن الـ11 الهجري/الـ17م، وهو رقم قريب من نظيره الذي قدمه -بعد قرنين من ذلك- العلامة شهاب الدين الآلوسي في ‘غرائب الاغتراب‘، فقد قدر عدد حماماتها العامة -حين زارها سنة 1262هـ/1849م- بأنها "مئة وثلاثون حماما".
وإذا أدركنا هذه الدينامية والحركة المستمرة في طرق وأسواق وجوامع ورِحاب وحمامات وفنادق المدينة الإسلامية مشرقًا ومغربًا؛ كان من الضروري أن نتساءل عن نظام النظافة في هذه المدن وطرق التخلص من القمامة اليومية التي كانت تنتج عن حركة البضائع والطعام وما إلى ذلك.
وقد وجدنا عمّالا مخصَّصين لجمع القمامة مثل "القمّام" و"الحرّاث" و"الكاسح"؛ فابن الفقيه الهمداني يذكر -في حديثه عن بغداد خلال النصف الأول من القرن الرابع الهجري/ القرن الـ10م- أن صديقًا له أُلقيت قمامة عند داره، فـ"أقبل قمّامُ الحمّام فغربلها وتزوّد (= حمَلَ) ما فيها ثم مضى".
وربما لجأت السلطات في إحدى المدن إلى تنظيم حملات شعبية للمشاركة في نظافة شوارع المدن وميادينها ومرافقها العامة؛ فالمؤرخ المقريزي يوثق لنا –في ‘اتعاظ الحنفاء‘- إطلاق اثنتين من هذه الحملات في القاهرة الفاطمية، إحداهما كانت سنة 391هـ/1002م حين أمرت السلطة الناس "بكنس الطرقات وحفر الموارد وتنظيفها"، والثانية عندما طالبتهم سنة 395هـ/1006م "بكنس الأزقة والشوارع وأبواب الدور في كل مكان، ففُعِل ذلك".
ونظرًا لعِظَم هذه القمامات وكثرتها فقد كانت تُطرح في الأماكن النائية عن المدن، فـ"كانت دار الروميين مزبلة لأهل الكوفة تُطرح فيها القمامات والكُساحات (= الكُناسة) حَتَّى استقطعها للتابعي عنبسة بن سعيد بن العاص (ت بعد 100هـ/719م) من يزيد بْن عَبْد الملك (ت 105هـ/724م)، فأقطعه إياها فنقل ترابها"؛ وفقا للبلاذُري في ‘فتوح البلدان‘.
ومن الطريف أن يكون حجم القمامة مؤشرا مهما في مكانة المدن واتساع عمرانها، ومعيارا ملحوظا في ميزان المفاضلات والمفاخرات بين الأمصار؛ فقد بلغت "كيمان القاهرة" -وهي تلال بقايا الأتربة وما في معناها من مخلفات قمامات البيوت ومستعمَلات الأسواق- حدًا عظيمًا في عصري الأيوبيين والمماليك.
ويحدثنا المقريزي -في ‘المواعظ‘- أنه سمع من بعض شيوخ عصره أنهم كانوا "يفاخرون بمصر (= القاهرة) سائر البلاد ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) على الكيمان (= جمع كوم: التلال) والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبّانون والجبّانون والطباخون من الشِقاف (= قطع خزفية) الحمر التي يُوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين..، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق..؛ فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حُملت من الأسواق وأُخذ ما فيها أُلقيت إلى المزابل".
إسهام محوري
لئن أعطى حكّام المسلمين -منذ عصر النبي ومن بعده- القطائعَ العقارية للمدنيين والعسكريين في داخل المدن الجديدة أو ضواحيها للعمران والسُّكْنى، وشرع الولاة والحكّام يؤسسون الجوامع والقصور والسجون والأسواق والتحصينات الدفاعية والمؤسسات العامة؛ فقد أبدع عامة الناس من ناحيتهم في استغلال هذه القطائع أو الأحياء الجديدة، ليس في بناء دورهم وبيوتهم وقصورهم ومشاريعهم الخاصة فقط، بل وفي خدمة عموم المجتمع رغبة في الأجر الأخروي.
وبذلك كانت الأوقاف كلمة السر في تطور المدينة الإسلامية عبر تاريخها العريق وحتى يومنا هذا؛ فقد وقف النبي ﷺ والصحابة ومحسنو الأمة من بعدهم الأوقافَ الكثيرة، فأضحى تحبيس العقار -من أرض مزروعة أو آبار ونحوها- يُستفاد من ريعه الذي يُنفق في وجوه الخير، وأصبحت هذه الأوقاف مفتاح الثورة التنموية الكبرى في مختلف عصور الحضارة الإسلامية.
فقد خدمت هذه الأوقاف مجتمعات المدن والحواضر بأموال طائلة كانت تُصرف حصرا على مؤسسات التعليم والصحة ورعاية الفقراء والغرباء، وعزز دورَ هذه الأوقاف أنها كانت مستقلة عن أجهزة السلطة، ومحمية من تدخلها فيها لما تقرَّر شرعاً من أن شؤون الأموال الوقفية "مفوضة إلى القُضاة عند الإطلاق... ولا فرق في ذلك بين الأوقاف الخاصّة والعامة؛ لأن الخاصة ستؤول إلى العامة"؛ حسب قاضي القضاة الإمام بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ/1333م) في ‘تحرير الأحكام‘.
وكان لهذا الإشراف القضائي على الأوقاف أعظم الأثر في اتساع عُمران المدن الإسلامية وازدهار مؤسساتها الأهلية وإنتاجها الحضاري، وهذا ملمح مهم لاحظه عدد من علماء ومفكري الإسلام، "فالعلوم إنما تكثر حيثُ يكثُر العُمران، وتعظُم الحضارة، وذلك لأن تعلُّمَ العلم من جملة الصنائع، والصنائع قبل ذلك إنما تكثُر في الأمصار المستجِدّة العمران بطول أمد الدول لمتعاقبة عليها"؛ حسبما يقرره ابن خلدون في ‘المقدمة‘.
ويضرب ابن خلدون أمثلة تاريخية ومن واقع عصره على العلاقة المترابطة بين العمران بمعناه المديني والإنشائي التوسّعي، وبين ازدهار الحضارة وعلى رأسها العلوم والفنون؛ فيقول: "واعتبر (= اختبر) ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لمّا كثُر عمرانها صدْرَ الإسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون، حتّى أرْبَوْا (= فاقوا) على المتقدّمين وفاتوا المتأخّرين".
ويضيف قائلا: "ولمّا تناقصَ عمرانها وابْذَعَرَّ (= تفرَّق) سُكّانها؛ انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفُقِد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن -لهذا العهد- نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أنّ عمرانها مستبحِر؛ وحضارتها مستحكِمة منذ آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها تعليم العلم".
ولم يكن ذلك الدور العظيم الذي أدته أموال الأوقاف الأهلية لينال من مكانة أدوار عمرانية سلطانية كانت بالغة في قيمتها الإستراتيجية، نظرا للسياق التاريخي الحساس الذي جاءت فيه، والأثر البعيد الذي أحدثته في تحديد مصير منطقة مركز العالم الإسلامي، والدفع مجددا بدول أقاليمه نحو الفاعلية الحضارية.
تحولات حاسمة
ففي القرن السادس الهجري/الـ12م؛ شهدت منطقة الشام قيام الدولة الزنكية التي أعطت عناية كبيرة لحركة العمران، ضمن مشروع النهضة الشاملة الذي تبناه السلطان نور الدين محمود بن زنكي لإطلاق حركة التحرير الكامل لأقطار المنطقة من الاحتلال الصليبي.
وسعيا منه لتحقيق مشروعه الطموح هذا؛ فإنه "بنى أسوارَ مُدن الشام جميعها وقلاعها..، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات (= المستشفيات) والخانات (= محطات الاستراحة) في الطرق، وبنى الخانكاهات (= زوايا) للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوُقوف الكثيرة"؛ طبقا لابن الأثير في ‘الكامل‘.
وفي الإطار نفسه؛ اهتم السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) -الذي ورث شرعية عرش نور الدين ومشروعه المقاوم- بتعزيز حركة العمران تلك، بل ومدها إلى آفاق أرحب حضاريا، وأوسع جغرافياً فشملت -إلى عموم الشام- مصر والحجاز واليمن وجزءا من المغرب الأدنى (ليبيا اليوم).
وقد دُهش الرحالة ابن جُبير الأندلسي لدى زيارته الإسكندرية سنة 578هـ/1182م لما رآه من كثرة "المدارس والمحارس (= رباطات الزوايا) الموضوعة فيه لأهل الطلب (= طلاب العلم) والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه، ومُدرّسا يُعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء (= راتبًا) يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان [صلاح الدين] بهؤلاء الغرباء الطارئين، حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصبَ لهم مارستاناً لعلاج مَن مرض منهم".
وإذا أخذنا بشهادة مؤرخ عظيم مثل ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘؛ فبوسعنا الحكم بأن عمران القاهرة بلغ أوْجَه تاريخيا في عصر السلطان المملوكي بِيبَرس البُنْدُقْداري (ت 676هـ/1277م)، وفي ذلك يقول مؤرخنا إن بيبرس "بُنِيَ في أيامه بالديار المصريّة ما لم يُبْنَ في أيام الخلفاء المصريّين (= السلاطين الفاطميون) ولا ملوك بَني أيّوب: من الأبنية والرّباع والخانات والقواسير والدُّور والمساجد والحمّامات...، وكل ذلك من كثرة عدله وإنصافه للرعية والنظر في أمورهم".
ولم يكن عُمران القاهرة -منذ بداية العصر الأيوبي بإنهاء صلاح الدين الأيوبي الدولة الفاطمية بمصر سنة 567هـ/1171م- حكرًا على السلطة فقط، بل إن أكثره ظل مرتبطا بالأوقاف سواء أكان الواقف سلطانا أم من عامة الشعب كما ذكرنا؛ ولذلك "استكثروا من بناء المدارس والزوايا والرُّبُط ووقفوا عليها الأوقاف المُغِلَّة... فكثُرت الأوقاف لذلك..، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقَت (= راجتْ) بها أسواق العلوم وزخرت بِحارها"؛ وفقا لابن خلدون.