شوارع مظللة ومضاءة وفنادق ومولات تجارية.. عمران المدينة الإسلامية ج 2


شبكات مائية
كما يخبرنا الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ (ت 481هـ/1088م) -في رحلته ‘سَفَرْنامَهْ‘- عن نظام السقاية في القاهرة الفاطمية خلال أربعينيات القرن الخامس الهجري/الـ11م؛ فيقول: "ويُجلب ماء الشرب من النيل ينقله السقاؤون على الجمال، والآبار القريبة من النيل عذب ماؤها وأما البعيدة عنه فماؤها ملح".
وقد توسع عدد هؤلاء السقّائين بمرور الزمن مع زيادة أعداد السكان في المدن؛ فناصر خُسْرَوْ ينقل ما يتحدث به الناس من أن "في القاهرة ومصر اثنين وخمسين ألف جمل يحمل عليها السقاؤون الروايا، وهؤلاء عدا مَنْ يَحمل الماءَ على ظهره في الجِرار النحاسية أو القِرَب، وذلك في الحارات الضيقة التي لا تسير فيها الجمال".
ورغم التراجع الكبير في أعدادهم بعد عصر خُسْرَوْ؛ فإنه ظل ضخما كما نلمسه من تقدير الرحالة ابن بطوطة لأعدادهم حين زار القاهرةَ سنة 726هـ/1326م، فقد قال إن فيها "من السقّائين على الجمال اثنيْ عشر ألف سقّاء، وإن بها ثلاثين ألف مُكَارٍ (= مُكْرِي الدَّوابّ)".
ومما يلفت النظر أن بعض المدن الإسلامية توفرت فيها شبكات متقدمة من القنوات المائية تحت الأرض كانت تمد بيوت هذه المدن ومحلاتها بالمياه العذبة، وهو ما تناوله ابن خلدون (ت 808هـ/1405م) -في ‘المقدمة‘- متحدثا عن كيفية جلْبِ المياه إلى المدن وتوصيلها وإدخالها في المنازل عبر "القنوات المُفْضِية (= المؤدية) إلى البيوت".
ويزودنا ابن الفقيه الهَمَداني بتفاصيل دقيقة عن هندسة قنوات بغداد المائية، فيقول عن إحداها إنها "تدخل المدينة وتَنْفَذُ في أكثر شوارع الأرْباض (= الأحياء/الضواحي) تجري صيفا وشتاء، قد هُندِستْ هندسةً لا ينقطع لها ماء في وقت"!! كما امتلكت مدينة نيسابور عاصمة خراسان شبكة متقدمة من "قُنِيّ تجري تحت الأرض باردة في الصيف... تظهر في الضِّياع فتسقيها، ومنها ما يظهر في البلد ويدور في المحِلّات (= الأحياء)"؛ طبقا لابن حوقل.
ويذكر الرحالة الأندلسي ابن جُبير البلنسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- أنه لما زار مدينة الإسكندرية سنة 581هـ/1188م وجد أن "الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقّتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمدُّ بعضها بعضًا".
واشتهرت حصون ومدن الأندلس -خاصة التي لم تؤسَّس على الأنهار- بسهولة حفر آبارها وقرب مياهها من سطح الأرض، مثل مدينة مالقة الساحلية على البحر المتوسط التي كانت "كثيرة الآبار... وشرب أهلها من الآبار"، وكذلك حصن بُبَشْتَر المنيع -الذي كان يبعد عن قرطبة نحو 150كم- فإن منطقته كان "يُنْبَطُ فيها الآبار بأيسر عملٍ وكدٍّ"؛ حسب ابن عبد المنعم الحميري (ت بعد 710هـ/1310م) في ‘صفة جزيرة الأندلس‘.

كفاءة أمنية
وحفظًا لدماء الناس وأعراضهم وممتلكاتهم وتجارتهم، وحماية للأمن العام اكتسب الجانب الأمني أهمية عظيمة عند تأسيس هذه المدن؛ فكان لإنشاء جهاز الشرطة -منذ بذوره الأولى في عصر الخلافة الراشدة وما تلاه- مكانته المركزية في حماية الأمن الداخلي بالمدن الإسلامية، سواء التي أنشأها المسلمون أو المدن القديمة التي ضموها إلى بلاد الإسلام خلال عهد الفتوح.
وخُصصت بداخل هذه المدن مراكز دائمة للشرطة كان أحدها يُعرف بـ"مجلس الشرطة" الذي كثيرا ما يكون بجواره مؤسسة سجون المدينة، كما نلاقيه في وصف اليعقوبي -في ‘البلدان‘- لتخطيط بغداد؛ فقد ذكر أن "الشارع الأعظم" فيها كان يضم "مجلس الشرطة والحبس الكبير، ومنازل الناس والأسواق في هذا الشارع يمنةً ويسرةً"، كما ربط بين "سكة الشرطة.. وسكة المُطْبِق وفيها الحبس الأعظم الذي يسمى “المُطْبِق” وثيق البناء محكَم السور".
وربما سُميت شوارع باسم مقرات الشرطة التي توجد فيها كما هو حال "سِكّة الشرطة" ببغداد التي كانت تقع "من باب البصرة إلى باب الكوفة"؛ حسب اليعقوبي أيضا. وفي القرن الرابع الهجري/الـ10م "كانت خضراء معاوية [في دمشق] وهي داره [قد حُولت إلى] مجلس الشرطة ودار الضرب"؛ وفقا للحسن العزيزي (ت 380هـ/991م) في كتابه ‘المسالك والممالك‘.
وبمرور الزمن تعززت قدرات هذا الجهاز على ملاحقة اللصوص والمجرمين وضبط عصاباتهم، ففي خلافة هارون الواثق العباسي (ت 232هـ/847م) حدث أنه في سنة 231هـ/846م "نقَبَ قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم (= اليوم 60 ألف دولار أميركي تقريبا)، وشيئا من الدنانير يسيرًا، فأُخِذوا بعدُ، وتتبع أخذَهم يزيدُ الحلواني (ت بعد 235هـ/849م) صاحب الشرطة"، أي المدير العام لمؤسستها.
ويبدو أن مستويات التراتبية الوظيفية في جهاز الشرطة كانت محددة بوضوح كما تفيد به تفاصيل قصة القبض على الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) الذي أعلن نفسَه خليفةً سنة 202هـ/817م، ثم اختفى مطارَدا حتى اعتُقل سنة 210هـ/825م، وأورد واقعة اعتقاله ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) وابن خلدون في تاريخيْهما.
وطبقا لأحداث تلك القصة؛ فإن مسؤوليات جهاز الشرطة كانت تبدأ من "الحراس" أو "أصحاب العَسَس" (دوريات الشوارع) الذين يرفعون التقارير أو المضبوطين إلى "صاحب المسلحة" (نقطة التفتيش)، ثم يوصلونهم إلى "صاحب الجسر" أو "مجلس الشرطة" (المركز الأمني بالمنطقة)، لتكتمل عبره إجراءات المتابعة ويراجع فيها الجهات العليا بمن فيها الخليفة نفسه.
وقد أدى تراكم الخبرات الأمنية إلى تطوير إدارة جهاز الشرطة التي صارت تُسند إلى مدير عام للأمن تغيّر لقبه من "صاحب الشرطة" فصار يدعى "شِحنة المدينة" أو "الشِّحنكية"، وكان من أشهر من تولاها في بغداد من رجال الدول عماد الدين زنكي (ت 569هـ/1173م)، وكان تقلده مسؤوليتها سنة 521هـ/1127م الخطوةَ الأولى في شهرته وزعامته، وما آلت إليه من تأسيسه الدولة الزنكية انطلاقا من تقليده ولاية الموصل سنة 522هـ/1128م.

أسواق عامرة
وحرص منشئو المدن الإسلامية الجديدة على تخصيص مواضع للأسواق وحركة التجارة والاقتصاد؛ فكانت الأسواق في الغالب تقع بالقرب من المساجد الجامعة؛ حيث خُصصت لها رحاب أو ميادين واسعة، بعضها كان مُسقّفا، وبعضها مفتوحا أمام جميع التجار، وكان الخليفة الفاروق يرى أن "الأسواق على سُنة المساجد، مَن سبق إلى مقعد فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغَ من بيعه"؛ كما يخبرنا الطبري.
لكن فيما بعد أضحت لهذه الأسواق خُطط وحارات ومسقَّفات وفنادق مخصصة، ونرى مسؤولية هذا التخطيط تقع على عاتق الخلفاء والولاة والموظفين العموميين؛ فالجغرافي اليعقوبي يروي أن الخليفة العباسي المنصور حين أنشأ بغداد دعا رجال دولته فبيّن لهم "ما قدّره للحوانيت والأسواق في كل رَبَضٍ (= حي/ضاحية)، وأمرهم أن يُوسعوا في الحوانيت ليكون في كل ربض سوق جامعة تجمع التجارات".
وحين جاء يزيد بن حاتم المُهلّبي الأَزْدي (ت 170هـ/786م) واليا عباسيا على منطقة الغرب الإسلامي بداية من تونس، ودخل القيروان سنة 155هـ/773م كان مما قام بإعادة تنظيمه أن "رتَّب أسواقها وأفرد لكل صناعة مكانًا"؛ طبقا للناصري السَّلَاوي (ت 1315هـ/1898م) في ‘الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى‘.
ولما أنشأ مؤسس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى الأمير إدريس الأول بن عبد الله العلوي (ت 177هـ/793م) مدينة فاس سنة 172هـ/798م، ثم استحدث عُدْوَةَ القرويين سنة 192هـ/808م "بنى القيسارية (= مجمع تجاري/مُول Mall) إلى جانب المسجد الجامع، وأدار الأسواق حوله"؛ حسب السلاوي.
وكلما زادت سعة المدن عبر التاريخ -بكثرة السكان والعمران- ازدادت حركة التجارة، واقتضت الحاجة إنشاء أسواق متخصصة جديدة؛ وبذلك حصل "تحوُّل الخلافة في القرنين الثامن والتاسع الميلادييْن (= الثاني والثالث الهجرييْن) من دولة زراعية عسكرية إلى دولة عالمية غير محلية مع الحياة التجارية والصناعية المكثفة، [مما] أدى إلى نمو المدن الكبيرة وتركيز رأس المال والعمالة...، وتحولت المدينة الإسلامية من مدينة عسكرية إلى سوق و”بورصة”، كما تحولت -في الوقت المناسب- إلى مركز لثقافة حضرية مزدهرة ومتنوعة"؛ طبقا لكتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الصادرة عن مؤسسة بريل الهولندية.
ومن الأمثلة الدالة على عِظَم اتساع الحركة التجارية داخل المدن لإسلامية؛ ما يذكره المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- من أنه "كان بمدينة مصر (= الفسطاط) والقاهرة وظواهرها من الأسواق شيء كثير جدّا، قد باد أكثرُها؛ وكفاك دليلا على كثرة عددها أن الذي خرِبَ من الأسواق فيما بين أراضي اللوق إلى باب البحر بالمقص (خارج أسوار القاهرة الغربية): اثنان وخمسون سوقا، أدركناها عامرة، فيها ما يبلغُ حوانيته نحو الستين حانوتا (مجموع حوانيت هذه الأسواق = 3000 حانوت!!)؛ وهذه الخطة من جملة ظاهر القاهرة الغربيّ، فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر؟!".
وفي ضوء هذه المعطيات الاقتصادية والتجارية الهائلة -وهي تخص عاصمة بلد إسلامي واحد- يفهم المرء ما استخلصه المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) بشأن سيادة الحضارة الإسلامية قديما للعالم في مجال المال والأعمال، وذلك حين يقول -في ‘قصة الحضارة‘- إنه كانت "بغداد وقرطبة في القرن التاسع (الميلادي/الثالث الهجري) مراكز للصناعة والتبادل التجاري، تكاد تضارع في سرعة حركتها وجنونها أي حاضرة من الحواضر في هذه الأيام (= القرن العشرين)"!!

تنمية معرفية
ولم يكن التعمير قاصرًا على المرافق العامة التعليمية والصحية والإغاثية وشبكات الطرق وخدماتها المختلفة؛ بل رأينا اهتماما عظيما بمناحي التنمية المعرفية، وكان في طليعة جهودها إنشاء المدارس المتنوعة التخصصات العلمية والانتماءات المذهبية والطائفية.
ويحدثنا ديورانت أيضا بإعجاب عن الانتشار الكبير للمؤسسات التعليمية في أرجاء العالم الإسلامي؛ فيقول إنه "كانت القاهرة والإسكندرية وبيت المقدس وبعلبك وحلب ودمشق والموصل وحمص وطوس ونيسابور -وكثير غيرها من المدن- تفخر بما فيها من مدارس كبرى، وكان في بغداد وحدها سنة 1064م (= 455هـ) ثلاثون مدرسة من هذا النوع، أضاف إليها نِظَاُم المُلك (الوزير السلجوقي ت 485هـ/1092م).. مدرسةً أخرى تفوقها كلها في سعتها وفخامة بنائها وأجهزتها، ويصفها أحد الرحالة بأنها أجمل بناء في المدينة كلها"!!
ويصف ديورانت المدرسة النظامية ببغداد -التي فتحت أبوابها للطلاب آخر سنة 459هـ/1066م- وما زُودت به من مرافق وخدمات شاملة؛ فيقول: "كانت هذه المدرسة الأخيرة تحتوي أربع مدارس للشريعة الإسلامية (= المذاهب الفقهية الأربعة) منفصلة كل منها عن الأخرى، يجد فيها الطلاب التعليم والطعام والعناية الطبية بالمجان، ويُعطَى كل منهم فوق ذلك دينارا ذهبيا (= اليوم 200 دولار أميركي تقريبا) لما يحتاجه من النفقات الأخرى. وكان في المدرسة مستشفى وحمام ومكتبة مفتحة الأبواب بالمجان للطلبة وهيئة التدريس"!!
والواقع أن المدرسة النظامية لم تكن إلا حلقة في سلسلة من المدارس الكثيرة التي أنشأها الوزير المصلح نظام الملك، فأحدث بها نهضة تاريخية كبرى في مجال التعليم غطت أهم حواضر الدولة السلجوقية على امتداد يناهز 5000كم، وعُرفت تاريخيا بـ"المدارس النِّظامية"، وكانت أبرز فروعها في بغداد والبصرة والموصل ونيسابور وأصفهان ومرو وهراة وبلخ.
ومما يرتبط بحقل التنمية المعرفية تأسيسُ المكتبات العامة التي كانت إما مرتبطة بالمدارس أو مستقلة عنها في المساجد أو أماكن خاصة بها. واشتهرت في هذا المجال المكتبات "الرسمية" الكبرى بدول العالم الإسلامي، مثل "بيت الحكمة" الذي أسسه العباسيون في بغداد، و"دار العلم" المنشأة في القاهرة أيام الفاطميين، و"خزانة العلوم" التي ازدانت بها قرطبة في دولة الأمويين بالأندلس.
وكانت هذه المكتبات تتيح خدماتها المختلفة (مطالعة داخلية وإعارة خارجية) للجمهور حتى في المدن النائية؛ فهذا مثلا الوزير البويهي بَهْرام بن مافِّنَهْ (ت 433هـ/1043م) ينشئ في مدينة "فيروزآباذ (= تقع اليوم غربي إيران) خزانةَ كتبٍ تشتمل على سبعة آلاف مجلد"؛ وفقا لابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘.
وعندما زار مفتي بغداد العلامة شهاب الدين الآلوسي (ت 1270هـ/1853م) عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول سنة 1262هـ/1846م؛ ذكر -في كتابه ‘غرائب الاغتراب‘- أن فيها وحدها ما مجموعه "خمسمئة وثماني عشرة مدرسة وخمس وثلاثون مكتبة"!!

رعاية صحية
وكانت مراكز الرعاية الصحية من أعظم المرافق الخدمية العامة التي تميزت بها عواصم العالم الإسلامي وحواضره الكبرى شرقًا وغربًا؛ وقد أطلق القدماء على هذه المستشفيات أسماء ذات أصل فارسي فدعوها "البيمارستانات" أو "المارستانات"، وعرّبوها أحيانا بـ"دار الشفاء" أو "دار المرضى".
وقد أعطى رجال الدولة عنايتهم لإنشاء هذه المؤسسات الصحية التي كانت تقدم مجانا خدمات العلاج من كافة الأمراض (العضوية والعقلية) لمرتاديها، مهما كانت فئاتهم وانتماءاتهم، وهو ما جعل مؤرخا غربيا كبيرا مثل ويل ديورانت يعترف -في ‘قصة الحضارة‘- بأنه "تزعَّمَ الإسلامُ العالمَ كلَّه في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها"!!
وقد أمدّنا المؤرخ المقريزي مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأسماء عدد المارستانات/المستشفيات الكبرى التي أقيمت بالعواصم المصرية -من الفسطاط وحتى القاهرة- خلال أربعة قرون حتى عصره، ملاحظا أن بعضها انْدَرس قبل زمانه، وكلها كانت من إنشاء أمراء وسلاطين ووزراء. والمارستانات التي ذكرها هي وفقا لترتيب إنشائها زمنيا:
مارستان المغافر الذي أمر بإنشائه الفتح بن خاقان (ت 247هـ/861م) وزير الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م)، ومارستان ابن طولون الذي بناه الأمير أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م) مؤسس الدولة الطولونية، ومارستان كافور الإخشيدي (ت 357هـ/968م) آخر الحكّام الفعليين للدولة الإخشيدية، والمارستان المنصوري الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م)، والمارستان المؤيَّدي الذي أنشأه السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م).
ويقدم لنا ديورانت معطيات تاريخية تلخص عظمة تلك المؤسسات وخدماتها في أربع عواصم إسلامية كبرى، مؤكدا أنه "كان في جميع المدن الإسلامية الكبيرة مصحات للمصابين بالأمراض العقلية"؛ فيقول إن "البيمارستان الذي أنشأه نور الدين (محمود سلطان الدولة الزنكية ت 569هـ/1173م) في دمشق عام 1160م (= 555هـ) ظلّ ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن، ويقول المؤرخون إن نيرانه [التي تًعَدّ بها أغذية وأدوية المرضى] ظلت مشتعلة لا تنطفئ 267 سنة"!!
ويقول إنه "لما وفد ابن جُبير إلى بغداد في عام 1184م (= 580هـ) دُهش أيما دهشة من بيمارستانها العظيم الذي كان يعلو -كما تعلو القصور الملكية- على شاطئ نهر جلة، والذي كان يُطعِم المرضى ويمدهم بالدواء من غير ثمن"!! وفي القاهرة بدأ السلطان [المنصور] قلاوون في عام 1285م (= 684هـ) تشييد بيمارستان المنصور أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق"!!
وعن مستشفى السلطان المملوكي المنصور قلاوون هذا يقدم ديورانت تفاصيل بالغة الدقة والعجب؛ فيقول إنه "كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين"!
ويضيف أنه "كان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالا كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقّاء أو أحرارا، وكان كل مريض يُعطَى عند خروجه منه -بعد شفائه- مبلغا من المال حتى لا يُضطر إلى العمل لكسب قوته بعد خروجه منه مباشرة، وكان الذين ينتابهم الأرقُ يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويُعطَوْن -في بعض الأحيان- كتبا تاريخية للقراءة" تحصيلا للعلم أو تزجية للوقت!!

بنية عمرانية
وفي مجال خدمات البنية العمرانية؛ فإن المسلمين اعتنوا -عند إنشاء المدن- بتخطيط الشوارع والأزقة باعتبارها الفضاء العام الذي يجب أن يكون ملائما لحركة السكان والركبان؛ فحين بدأ المسلمون بناء مدينة الكوفة سنة 17هـ/639م حدّد لهم الخليفة عمر الفاروق أحجام اتساع شوارعها الرئيسة والمتوسطة وأزقتها الصغيرة.
وفي ذلك يروي الجغرافي الأندلسي أبو عُبيد البكري (ت 487هـ/1094م) -في ‘المسالك والممالك‘- أن الفاروق أمر ولاته في الأمصار الجديدة بأن "يكون الطريق [الكبير] أربعين ذراعا (18-20 مترًا)، وما دون ذلك عشرين، والأزقة سبع أذرع، وليس دون ذلك شيء..؛ فاجتمع أهل الرأي في التقدير" لتنفيذ تلك التوجيهات.
ولعل الفاروق استأنس في وضعه للحد الأدنى في اتساع الشوارع بحديث النبي ﷺ: "إذا اختلفتم في الطريق جُعِل عرضه سبع أذرع"؛ (صحيح مسلم). وقد ذكر الفقهاء أنه هذا الحديث يتعلق بـ"الأفنية إذا أراد أهلها البنيان؛ فيُجْعَل طريقهم عرضه سبعة أذرع لدخول الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقيها"؛ وفقا للإمام النووي (ت 676هـ/1277م) في ‘شرح مسلم‘.
وعلى النهج نفسه سار المنصور العباسي في تخطيط شوارع بغداد، لكنه زاد اتساع الشوارع عما حدده الفاروق توقعا لاختلاف زمان وظروف العاصمة الجديدة عن مدن عهد الفتوح؛ فأمر المهندسين "أن يجعلوا في كل رَبَض من السِّكك والدروب النافذة (= المفتوحة الطرفين) وغير النافذة ما يعتدل بها المنازل..، وحدّ لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعا (= 25 مترا)..، والدروب ستة عشر ذراعا"؛ طبقا لليعقوبي.
وقد اتسعت الشوارع والأزقة بمقدار إحاطة الأسوار بالمدن؛ إذ أثرت الأسوار في تحديد مساحة المدينة المسوَّرة، فكان لضيقها أثره في إنشاء المرافق العامة التي تحتاج عادة إلى مساحات واسعة خارج الأسوار، ومن أمثلة ذلك مصليات العيد والمقابر وميادين استعراض الجند، وأماكن تنظيم الاحتفالات العامة والألعاب الرياضية، والأسواق الأسبوعية التي ارتبطت مواضعها إلى حد بعيد بداخل المدينة عبر الشوارع الرئيسة وبوّاباتها الخارجية.
وكانت أسوار المدن تُتخذ للدفاع عنها من الغزو الخارجي؛ فلذلك زُوّدت بأبراج للمراقبة كان عددها يتحدد حسب الموقع الجغرافي للمدينة ومدى قربها من مراكز الخطر. ويصف المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- مدينة قرطبة -أيام الأمويين بالأندلس- فيقول إنه "كان بسورها ثلثمئة برج"!!
كما كانت هذه الأسوار مزودة ببوابات تتيح للمدن التواصل مع الأقطار والحواضر الأخرى، ومن ذلك مثلا أن مدينة إسطنبول كان عليها سور "مرتفع في الجملة.. وله اليوم -على ما في التقريبات- ثمانية وعشرون بابا"؛ وفقا للعلامة شهاب الدين الآلوسي في كتابه ‘غرائب الاغتراب‘.

تبليط وتظليل
وكان تعبيد أو تبليط الشوارع ملازما لنشأة المدن الإسلامية منذ عهد الصحابة، وإن ظل متفاوتًا -في وجوده وأنواعه- من مدينة إلى أخرى؛ ولعل أولى الوقائع في إحداثه تلك التي شهدتها المدينة المنورة في عهد معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، حيث "بلَّطَ مروان بن الحكم (والي المدينة والخليفة الأموي الرابع ت 65هـ/686م) البلاطَ بأمر معاوية" في المناطق المحيطة بالمسجد النبوي الشريف.
وتواصل الاهتمام بتبليط الشوارع على نحو واسع بحيث نالت منه المدن غير الكبيرة حظها، كما نجده في مدينة قفصة التونسية التي كانت شوارعها في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي "مفروشة بالبلاط وحولها عمارة كثيرة"، طبقا لليعقوبي في كتابه ‘البلدان‘.
وفي القرن الموالي؛ يرصد الرحالة ابن حوقل -في كتابه ‘صورة الأرض‘- ظاهرة تبليط الشوارع -إلى حد التزويق والتأنق- في عدد من المدن الكبرى التي زارها في رحلاته التي امتدت ثلاثين عاما، فيقول مثلا عن الإسكندرية: "ولها طرقات مفروشة بأنواع الرخام والحجر الملوَّن"، ويفيدنا بأن "جميع طرق حمص -من أسواقها وسِكَكها- مفروشة بالحجارة مبلطة".
بل إنهم لم يكتفوا برصف الشوارع حتى سعوا لتسقيفها وقاية للمارة من حر الشمس؛ فهذا المؤرخ ويل ديورانت يخبرنا -في كتابه ‘قصة الحضارة‘ نقلا عن الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ- بأنه في القاهرة الفاطمية "كانت الشوارع الكبرى مظللة من وهج الشمس" في عز الهاجرة!!
كما عالجوا أيضا مشكلة تجمُّع مياه الأمطار ونحوها في الطرقات بأساليب تدخل عموما في إجراءات نظام "المجاري والصرف الصحي"؛ فالمؤرخ السمهودي (ت 911هـ/1505م) يحدثنا -في كتابه ‘وفاء الوفاء‘- عن مشكلة تجمُّع مياه المطر بالمدينة المنورة وخاصة حول المسجد النبوي، فيذكر وجود "بلاليع (= جمع بالوعة) يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار [فإن مياهها] تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغُدْران الكِبار".
ثم أوضح السمهودي الكيفية التي حُلّت بها هذه المشكلة؛ فقال إن "”مُتولِّي العمارة” (= كبير مسؤولي الإنشاءات الحكومية) حفَر سَرَبا (= مَجْرَى) لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد [النبوي]، وأوصلها بالسَّرَب الذي يسير فيه وسخ العين [المائية]؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد".

أضواء كاشفة
ومما يدخل في خدمات الشوارع إنارتها ليلا بالأضواء للسالكين فيها، وهي إنارة كانت متعددة المصادر والأنواع ما بين الشموع والمشاعل والقناديل الصغيرة والضخمة والمصابيح الزجاجية الملونة؛ فقد كان كثير من بيوت الأغنياء الواقعة في الشوارع مزوَّدة بوسائل إنارة تتدلي من جنبات المنازل وشرفاتها وسقوفها، وكانت قوتها وكثافتها تكفي لأن تفيض أضواؤُها على الشوارع والأزقة من حولها.
ومن أقدم صور ذلك في الحواضر الإسلامية الكبرى ما يحدثنا به ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- عن "زُقَاق القناديل" في القاهرة وسبب تسميته هذه؛ فيقول إنه "سُمِّي بذلك لأنه كان [فيه] منازل الأشراف (= أعيان المجتمع) وكانت على أبوابهم القناديل، وكان [بدايةً] يقال له ‘زقاق الأشراف‘" لما كان يسكنه من رجال الدولة وعلية القوم.
وجاء في ترجمة القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) للإمام المحدّث أبي الوليد الباجي الأندلسي (ت 474هـ/1081م) -في ‘ترتيب المدارك‘- أنه "استأجر نفسَه مدةَ مُقامه ببغداد [يطلب العلم] -فيما سمعته مستفيضا- لحراسةِ دربٍ (= شارع)، فكان يستعين بإجارته على نفقته وبضوئه على مطالعته"!!
ويفيدنا هذا النص بأمور مهمة؛ منها وجود إنارة في الدروب تصل قوتها إلى حد أنها يمكن أن تقرأ عليها كتب العلم ذات الخطوط الدقيقة، ووجود مهنة "حراسة الدروب" يتولاها حراس يحفظون مداخل الشوارع وخاصة في الأحياء السكنية الراقية، وأنها كانت مهنة مفتوحة أمام الغرباء -من طلاب العلم وغيرهم- كما هي متاحة لأهل البلد.
ومع استبحار الحضارة الإسلامية؛ بلغت عواصمها مستوى عظيما في إنارة مدنها وإضاءة شوارعها، وهو ما يؤكده هذا النص البالغ الدلالة الذي يرويه الثقات ويصور اتساع إشعاع إنارة مدينة قرطبة أيام كانت عاصمة للدولة الإسلامية بالأندلس؛ فقد قال المؤرخ عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1249م) في ‘المُعْجِب في تلخيص أخبار المغرب‘: "وسمعتُ ببلاد الأندلس -من غير واحد من مشايخها- أن الماشي كان يستضيء بسُرُوج قرطبة ثلاثة فراسخ (= 15كم تقريبا) لا ينقطع عنه الضوء"!!
وما أخبر به المراكشي عن كثافة أضواء شوارع قرطبة يبدو أنه -على ما قد يحمله من مبالغة- أصبح مسلما به لدى المؤرخين الغربيين دون إنكار أو تشكيك؛ فهذا المؤرخ ويل ديورانت يصف -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- قرطبةَ الأموية في القرن الرابع الهجري/الـ10م قائلا: "وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طَوَاران (= رصيفان) على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال (= 16كم) على ضوء مصابيح الشوارع، وبين صفين لا ينقطعان من المباني"!!
ولن تكتمل الدلالة الحضارية فيما أثبته ديورانت -معجبا به- عن أنوار قرطبة إلا إذا أدركنا ما كانت عليه مدن أوروبا بعد ذلك بستة قرون. ففي حديثه عن فرنسا القرن الحادي عشر الهجري/الـ16م؛ تطرق إلى الحديث عن "المدن التي لم تزل غير مضاءة ليلا" وفي مقدمتها العاصمة باريس!! وكذلك في إيطاليا حيث "كانت الطرق وعرة شديدة الخطر، والشوارع الرئيسة في المدن مرصوفة بالبلاط، ولكنها لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا"!!
ويخبرنا المقريزي -في عدة مواضع من ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه في نهاية القرن نفسه وبداية الذي يليه دأب خلفاء الفاطميين بمصر على إلزام عموم الشعب في القاهرة "بأن يوقدوا القناديل في سائر البلد على جميع الحوانيت، وأبواب الدور، والمحال والسِّكك الشارعة (= المفتوحة الطرفين) وغير الشارعة...، فتناظروا (= تنافسوا) فيه واستكثروا منه في الشوارع والأزقة..، وصار الناس في القاهرة ومصر طول الليل في بيع وشراء، وأكثروا أيضا من وقود الشموع العظيمة"!!