شوارع مظللة ومضاءة وفنادق ومولات تجارية.. عمران المدينة الإسلامية ج 1
في حديثه عن فرنسا في القرن الحادي عشر الهجري/الـ16م؛ وصف مؤرخ الحضارات الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه الشهير ‘قصة الحضارة‘- الظلامَ المُطبِق الذي كانت غارقة فيها "المدن [الفرنسية] التي لم تزل غير مضاءة ليلا" وفي مقدمتها العاصمة باريس!!
وكذلك كان الأمر في إيطاليا حيث "الشوارع الرئيسة في المدن.. لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا"!! أما الحواضر الإسلامية غربا وشرقا فكانت -كما سيأتي من شهادته في نصوصه- عامرة بالأنوار في ظلمة لياليها.. مظللة الشوارع في هاجرة نهارها!!
لا يمكن لأي مسافر عبر الزمن أن يدفع الدهشة العميقة التي ستنتابه حينما يجول في تاريخ عمران المدينة الإسلامية؛ فقد عرف المسلمون مفهوم "المدينة" في وقت مبكر جدا مع المهجر النبوي، وفهموا كيف تشكل اللبنة الأساسية لإقامة دولة مركزية كبرى، إذ لن تقوم حضارة ودولة تتحرك بسرعة تحبس الأنفاس وتزدهر حضاريا -على نحو ما تم فعلا- من غير أساسٍ عميقِ التمدن والتحضر.
فمنذ البداية؛ كانت الدعوة إلى الهجرة نحو "المدينة" وهجر الصحراء من الإرشاد النبوي الملزم لأغلبية الداخلين في الإسلام، وكذلك كان الوعي المدني حاضرا تخطيطا وعمرانا منذ اللحظة التي حطّ فيها النبي ﷺ رحله عن ناقته "القصواء" وهو يخطط عمران المدينة الجديدة! لقد كانت اهتمامه يتجه إلى التوأمة بين المسجد والسوق، وضبط التوزان السكاني بدمج المهاجرين والأنصار في مؤاخاة إيمانية ومجاورة مدنية لم تعرفها الحاضرة العربية من قبل.
المدينة الإسلامية فضاء إنساني يوظَّف فيه الإنسان والعمران والإتقان توظيفا جماليا تبادليا يحقق بعضه بعضا، حيث ينتصب المسجد منارة تشرف على أرجاء المدينة، وتلهم حركة ساكنيها في شوارعها المنضبطة الممهَّدة للمرور، بما يعنيه ذلك من رفع للأذى عنها عدَّه الإسلام من شُعَب الإيمان، وخلال ذلك تسري حركة الماء النظيف عبر أنظمة الأسبلة والنوافير وجماعات السقّائين!
ورغم أن البعد العسكري كان حاضرا في نشأة مدن إسلامية عديدة خلال حقبة الفتوح؛ فإن النزعة العسكرية لم تَهزم الروحَ المدنية في الكوفة والبصرة والفسطاط، حيث ظل الوعي المدني هو الغالب في حلقات العلم ومجالس الفكر ومنتديات الأدب، فنشأت الفنون ودُوِّنت المعارف والعلوم، وبرزت أعلام في كل تخصص معرفي، وتصدت للصدارة أئمة في كل مذهب وتيار.
ومع تحول الدولة الإسلامية من الزراعة إلى التجارة؛ صارت الأسواق وورش الصناعة ركائز للعمران، فنشطت حركة الأموال والبضائع وازدهرت الحرف والصناعات، وتجاورت الديانات وتحاورت الثقافات، وتعايشت الأطياف والطوائف.
ومن حول ذلك ولمصلحته كله؛ انتظمت مصفوفات لا تنتهي من المرافق العامة في هيئة دوائر حكومية ومؤسسات علمية ومنشآت صحية ومراكز خدمية. وتلك باختصار هي قصة هذا المقال التي يرويها لكم على نحو نزعم أنه جديد في مادته وكثافته.
خبرة ملهِمة
هدف الإسلام من العُمران المديني إلى ترسيخ مبدأ الأخوة والتعاضد؛ فكانت المدينة قبل الهجرة مقسّمة إلى محلات سكنية منفصلة بين حصون لليهود ومواقع للأوس وأخرى لغرمائهم الخزرج. وهكذا فإن رسول الله ﷺ "قدِم المدينة وأهلها أخلاط: منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، وفيهم [اليهود] أهل الحَلْقة (= السلاح) والحصون، ومنهم حلفاءُ للحيَّيْنِ جميعا الأوس والخزرج؛ فأراد رسولُ الله ﷺ حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم (= مهادنتهم)"؛ وفقا للواقدي (ت 207هـ/822م) في كتابه ‘المغازي‘.
وكان أول نشاط عمراني قام به رسول الله ﷺ أنه "بنى مسجده ومساكنه" لزوجاته من حوله؛ طبقا لابن هشام الحمْيري (ت 213هـ/828م) في ‘السيرة النبوية‘. ثم شرع ﷺ يوطّن الناس في مواضع الفراغ القريبة من المسجد ليكون هو قبلتهم ورمز وحدتهم، وهذا ما يذكره ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- بقوله: "فلما قدم رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة مهاجرا أقطعَ الناس الدُّور"، فكل حيّ منها سكنه أفراد من قبيلة أو عشيرة واحدة.
وبهذا المقصد تجلت ملامح التخطيط العُمراني لنموذج المدينة الإسلامية منذ عصر النبوة، وهو تسخير العُمران للجمع بين تعزيز وشائج القربى وتذويب الفروقات القبلية، بحيث يكون المسجد هو الرمزَ العَقَدي والاجتماعي الجامع لساكنتها؛ فحوله تتجاور بيوتهم وأحياؤهم، وعنده تلتقي شخوصهم وجموعهم، وفي رحابه تتوحد صفوفهم وقلوبهم.
كما حرص النبي ﷺ على أن يكون للمدينة كلها سوق واحد ليتحرر المسلمون من التبعية الاقتصادية ليهود المدينة الذين كانوا سادة الحياة التجارة والصناعة فيها قبل الهجرة؛ فقد جاء في ‘إمتاع الأسماع‘ للمقريزي (ت 845هـ/1441م) أن رسول الله ﷺ جاء إلى "موضع النبيط، فقال: هذا سُوقُكم! فأقبل كعب بن الأشرف (زعيم اليهود ت 3هـ/625م)، فدخلها وقطّع أطنابها (= حبال خيامها)، فقال رسول الله ﷺ: لا جَرَم (= لا شكّ)؛ لأنقلنّها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة، ثم قال: هذا سُوقكم! لا يُحجر ولا يُضرب عليه الخَراج".
واحتوت طبوغرافية المدينة على طُرق تربط أحياءها ومناطقها بالمسجد النبوي، وفقا لما نجده في تعبير "سكّة من سِكك المدينة" الوارد في بعض أحاديث مُسْند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)، وكما في خبر أن الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) اعتاد أن "يجول في سِكَك المدينة" لتفقد الرعية؛ حسب ابن شَبّة (ت 262هـ/876م) في ‘تاريخ المدينة‘.
وكان من تراتيب التنظيم الإداري للمدينة أن النبي ﷺ خصّص فيها دارا للضيوف من الأفراد ووفود القبائل، فجعلها في إحدى الدُّور الواسعة التي كان يملكها عبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م)، فصار "عبد الرحمن يُنزلُ فيها ضيفانَ رسول الله ﷺ فكانت أيضًا تُسمّى دار الضيفان"؛ حسب ابن شبة أيضا.
وقد أوْلى النبي ﷺ عناية خاصة للأمن المائي لساكنة العاصمة الأولى للدولة الإسلامية، فحض أصحاب المال من الصحابة على شراء الآبار العذبة وجعلها منفعة عامة موقوفة على عموم المسلمين، وهو ما بيّنه الخليفة عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) لمحاصِريه الثائرين عليه قائلا: "هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قدِمَ المدينَة وليس بها ماءٌ يُستعذَبَ غير بئر رُومة؟ فقال رسول الله ﷺ: مَن يشتري بئر رُومَة فيجعلَ دلوَه مع دِلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتُها من صلب مالي"؛ (سُنن الترمذي).
عهود جديدة
بعد وفاة النبي ﷺ وبداية الفتوحات الإسلامية في أواخر عصر الخليفة أبي بكر الصدِّيق (ت 13هـ/635م)، واتساع نشاط هذه الفتوحات في عصر الخليفة عمر بن الخطاب على جبهات العراق وفارس والشام ومصر، باتت الحاجة ملحة لإنشاء مدن تكون بمثابة قواعد عسكرية متقدمة لجيوش الفتوح.
وكانت بداية عصر "المدن الإسلامية" في جنوبي العراق بإنشاء الكوفة والبصرة اللتين يؤرخ الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) لتأسيسهما بسنة 17هـ/639م؛ فكان التخطيط العمراني فيهما -بأمر من الخليفة عمر الفاروق- اقتباسًا من النموذج النبوي لتخطيط المدينة المنورة، وهو النموذج الذي سيسير عليه -إلى حد بعيد- منشئو المدن الجديدة في الإسلام خلال القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، مثل الفُسطاط (21هـ/643م) والقيروان (50هـ/671م) وواسط (75هـ/695م).
بل إن المدن القديمة التي فتحها المسلمون ونزلوا فيها -كحواضر فارس وخراسان والشام ومصر- سار الفاتحون فيها مقتدين بالمنهج النبوي العمراني في إنزال المقاتلين والجند إلى الخُطط الخربة وإنشاء الجديدة، دون التعرض لخطط السكان الأصليين؛ فمثلا قُسّمت مدينة حمص "خُططا بين المسلمين حتى نزلوها، وأسكنهم [واليها] في كل مرفوض (كذا؟ ولعلها: مأهول) جلا (= نزَح) أهلُه، أو ساحة متروكة"؛ كما يخبرنا المؤرخ البلاذُري (ت 279هـ/892م) في ‘فتوح البلدان‘.
وبعد حقبة الفتوحات الراشدة وما أعقبها من تزايد أفواج المسلمين الجدد، وتحوُّل مدن جيوش الفتح -كالكوفة والبصرة والفسطاط- إلى مدن حضارية تختلط فيها التيارات الاجتماعية والثقافية والدينية، وتُنشَر في مساجدها علومُ الشريعة والآداب، وتزدهر في أسواقها الحِرَف والصناعات؛ برزت الحاجة إلى إنشاء مدن جديدة تستوعب كل تلك المتغيرات، وغيرها من المستجدات التي أخذت أحيانا طابعا سياسيا وأمنيا للحفاظ على السلطة في مدن جديدة كانت أقرب إلى عقلية القلاع ووظيفتها، بعيدا عن منغصات المعارضين بالرأي أو الثائرين بالسلاح.
وهكذا فإن عواصم الخلافة الإسلامية ودولها المستقلة خلال القرون اللاحقة مثل بغداد والقاهرة والمهدية بتونس، والزهراء والزاهرة بالأندلس، وفاس ومراكش والرباط بالمغرب الأقصى؛ صارت نموذجًا جديدًا للمدينة الإسلامية السياسية حتى بزوغ العصر الحديث، فقد أُنشئت في الأساس لتكون مُدنا مَلَكية نمت خارج أسوارها مجموعة من الضواحي والأحياء تسكنها العامة، وكانت تتوسطها قصور وقلاع الطبقة الحاكمة، وتبتعد عن مراكز الاضطرابات السياسية والعواصم القديمة للمعارضين والمناوئين.
وإلى جانب العواصم العسكرية والسياسية، وما كان في خدمتهما من مدن اقتصادية تمركزت غالبا على سواحل البحار والأنهار؛ فإن جغرافية العالم الإسلامي احتضنت العواصم الدينية المقدسة ممثلة بمكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، والتي تميزت بمكانتها الكبرى والمضاعفة في نفوس المسلمين منذ فجر التاريخ الإسلامي، على أن قداسة اثنتين منها (مكة والقدس) سبقت مجيء الإسلام بقرون كثيرة.
نسقية حضارية
ورغم تنوع وظائف هذه المدن وتفاوت مكانة السياسية منها في الحجم والإسهام الحضاري؛ فإنها جميعها ظلت تجمعها عوامل مشتركة جعلتها -إلى حد كبير- توحي بوجود نسقية عمرانية وحضارية مستمدة من مرجعية دينية واحدة. وهكذا سنجد في الفقرات اللاحقة ما كان يوحد بين هذه الحواضر -على اختلاف أمصارها وأعصار- من معيارية في التخطيط والإدارة والمرافق والخدمات ونمط العيش والنظرة إلى الحياة.
لقد ارتبطت مسألة الاهتمام بالمرافق العامة الدينية والاجتماعية والصحية وغيرها بمسؤوليات السُّلطة الحاكمة -في المقام الأول- منذ الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، تلك الوظائف التي حددتها النظرية السياسية الإسلامية بوجوب تحقيق "مقاصد الشريعة"، الدائرة على إيجاد وحفظ "مصالح العباد" بدرجاتها الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات/الكماليات.
فالخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/716م) كان "ممّن زاد في المساجد وبناها، فبنى (= وسّع وطوّر) المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد قُبا، ومسجد دمشق، وأوّل من حفر المياه في طريق مكّة إلى الشام، وأوّل من عمل البيمارستانات للمرضى"، طبقا لابن الفقيه الهَمَداني (ت 365هـ/976م) في كتابه ‘البلدان‘.
وانطلاقا من تلك المسؤوليات وما تعنيه من صلاحيات؛ تجلت عناية الخلفاء والأمراء والولاة بالمرافق والخدمات العامة بشتى أنواعها داخل المدن الإسلامية السابقة على الإسلام والمستجدة فيه، وكانت نقطة البداية دائما -كما كانت أول مرة في العهد النبوي- بإنشاء المساجد، إذْ حرصت السلطات العامة في كل قُطْر إسلامي على أن يكون موضع المسجد الجامع وسط المدينة.
فقد كانت الفلسفة الناظمة للعمران في المجتمع الإسلامي تقضي بتمحوره حول المسجد باعتباره المعبِّر عن المقصد الأسمى بين "مقاصد الشرع"، وهو مقصد الدين بما يعنيه من وجود مرجعية تشريعية عليا يتحاكم الجميع إليها، ومن حول المسجد تتحلق المرافق الأخرى المحققة لبقية المقاصد الأخرى الضامنة لمصالح الناس بدوائرها المختلفة والتي خلاصتها: حفظ النفس وتنمية المال، وما يرتبط بتحقيق تلك المصالح من بيوت وأسواق ومؤسسات رسمية إدارية وأمنية وخدمية (تعليمية وصحية وإغاثية).
فعند إنشاء مدينة الكوفة سنة 17هـ/639م كان أول "شيء خُطَّ.. [فيها] وبُنِيَ -حين عزموا على البناء- المسجد"، ثم وضَع واليها سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ/676م) الخزانة العامة بجانب المسجد لتكون في حراسة الجميع، فجعل "بيوتَ الأموال منه إلى منتهى القصر (= دار الإمارة)"؛ كما يذكر الطبري في تاريخه.
وحين اكتمل بناء بغداد في عام 149هـ/767م أقيم في "وسط الرحبة (= الميدان المركزي) القصرُ..، وإلى جانب القصر المسجد الجامع، وليس حول القصر بناء.. إلا دار من ناحية الشام للحرَس، وسقيفة كبيرة.. يجلس في إحداهما صاحب الشرطة، وفي الأخرى صاحب الحرس"؛ وفقا للمؤرخ اليعقوبي (ت 292هـ/905م) في كتابه ‘البلدان‘.
مكونات مركزية
ثم إن هذه المدن امتازت كل منها بوجود ميدان مركزي في وسطها كانت تتمركز فيه غالبا المؤسسات الرسمية المركزية للمجتمع والحُكم والإدارة، وعلى رأسها المساجد الجامعة وقصور الحكام، وبجوارها مؤسسات الدولة مثل مقرات الحرس والشرطة، والإدارة المالية مثل مؤسسة "بيت المال" و"دار الضَّرْب" التي هي هيئة سكّ النقود أو البنك المركزي بتعبيرنا اليوم.
ويحدثنا التاجر الرحالة ابن حوقل الموصلي (ت 364هـ/975م) عن المستوى الأدنى لمكونات الإدارة المحلية في المدن التي زارها غير العواصم؛ فيقول مثلا إن مدن خراسان أيام الدولة السامانية كل منها "لا يخلو من قاضٍ، وصاحب بريد، وبُندار (= تاجر جملة)، وصاحب معونة (= مدير شرطة)...، وأصحاب أخبار (= جواسيس) وبُرُد يُنهُون (= يبلّغون) أخبارَهم (= الموظفين) إلى صاحب ناحيتهم (= مسؤول المنطقة)، وجباة للخراج والضمانات" أي الموارد المالية الحكومية.
وكثيرا ما نجد وصفا واسعا بارعا لأنواع المرافق العامة -الحكومية والأهلية- في كتب الرحلات منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى ما بعد القرن الثامن الهجري/الـ14م، الذي اعتنى فيه "شيخ الرحالين" ابن بطوطة المغربي (ت 779هـ/1378م) برصد ما رآه من مرافق خدمية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه طوال ثلاثة عقود، ولذا كثيرا ما يصف -في رحلته- مدينة ما زارها بمثل هذه الجملة: "ضخمة المنافع، كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع، لها أسواق حسان".
ومن النصوص المبينة لتنوُّع منشآت المرافق العامة التي كانت تحتوي عليها المدن الإسلامية عبر العصور، وتجاوُرِها بتناغم واضح الدلالة في جمعه بين المصالح الدينية والدنيوية؛ ما يمدنا به المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- متحدثا عن القاهرة، فيقول إنها كانت تشتمل على "البساتين والمناظر (= المتنزهات)، والقصور والدُّور، والرِّباع (= المحلات) والقياسر (= المجمعات التجارية/المُولات Malls ) والأسواق، والفنادق والخانات (= فنادق صغيرة/نُزُل) والحمامات، والشوارع والأزقة والدروب، والخُطط والحارات والأحكار (= جمع حِكْر: الموقوف من العقار/الأرض)، والمساجد والجوامع والزوايا والرُّبُط، والمشاهد والمدارس والتُّرَب (= المقابر) والحوانيت".
وما كانت هذه المدن لتستقر وتستمر إلا بضمان الأمن المائي لسكانها وتوافر المياه فيها طوال الوقت؛ ولذلك فهي إما أن تكون مُدُنًا منشأة على الأنهار مثل بغداد على دجلة، والقاهرة على النيل، أو تكون قريبة من الينابيع والآبار كمكة والمدينة والقدس وغيرها، ولهذا السبب توسّع الناس في استغلال مواقع مدنهم، فإن كانت على الأنهار انتشرت فيها مهنة السقّائين لجلبهم المياه من الأنهار إلى عامة الناس.
وقد وجدنا في "بغداد المدوّرة" التي بناها الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) "سكّة السقّائين" التي كانت تمتد من بين باب البصرة جنوبًا إلى باب خراسان شرقًا، ويبدو أن سكانها كانوا ممن يمتهنون السقاية لأهل بغداد، وهي مهنة عمل فيها عدد من العلماء كان من أقدمهم بحر بن كُنيز السقاء الباهلي (ت 160هـ/778م).
ويتحدث ابن الفقيه الهمداني عن مدينة سامراء -التي كانت عاصمة للدولة العباسية ما بين 221-279هـ/836-892م- فيقول إنه كان "يشرب جماعةُ مَنْ فيها من النهر الأعظم، وربما رأيتُها -إذا اشتد الحر والْتَهَبَ الهجيرُ..- والراوية (= قِربة الماء) في بعض المواضع في بعض الأوقات بدرهمين (= اليوم ثلاثة دولارات أميركية تقريبا) وأكثر، هذا في السلم والأمن...؛ وليس هكذا أهل بغداد لأن لهم آبارا يستعذبون ماءها ويستغنون عن نهرهم الأعظم بها".