دروس مستفادة من تجربة بنجلاديش في التكيف مع التغيُّر المناخي
لا بديل للبلدان الغنية والفقيرة على السواء عن محاولة التكيُّف مع التغيرات المناخية.. هذا ما خلُص إليه التقرير الأخير الصادر عن «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ»
أحد المتطوعين في «برنامج التعامل مع الأعاصير» (CPP) يستعين بمكبّر صوت ليحث السكان على إخلاء المنطقة، والاحتماء بالملاجئ، تحسُّبًا لوصول الإعصار الاستوائي «أمفان» Amphan إلى مدينة خولنا في التاسع عشر مايو 2020.Credit: Kazi Shanto/AFP/Getty Images
أدت انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن النشاط البشري إلى ارتفاع حرارة كوكب الأرض، بما لذلك من عواقب وخيمة على النظم الإيكولوجية للكوكب، فضلًا عن حياة المجتمع البشري بوجهٍ عام، وهذا ما ظهر جليًّا في الجزء الأول من «تقرير التقييم السادس»، الذي أصدرته «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ» (IPCC) في شهر أغسطس من العام الماضي، وأما الجزء الثاني من هذا التقرير، فقد خرج في الثامن والعشرين من شهر فبراير الماضي، حاملًا في طيَّاته إعلانًا صادمًا، وكفيلًا بتغيير قواعد اللعبة، مَفادُه أن هذه التأثيرات الخطيرة لن تزيد مع الوقت إلا سوءًا، ليس هذا فحسب، بل هناك تأثيرات قائمة بالفعل، يلزم التدخُّل لعلاجها ومحاولة التكيُّف معها بصفة عاجلة.
بشكلٍ لا لبس فيه، يوضح هذا التقرير الشامل، الذي يضم المئات من أحدث الأبحاث العلمية، كيف أن تبعات التغير المناخي آخذةٌ في الحدوث بالفعل، وتسببت في وقوع خسائر وأضرار في البلدان الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء.
ليست هذه بالأخبار الجديدة بالنسبة لنا في بنجلاديش، ولا بالنسبة للمجتمعات والدول الأشد فقرًا والأكثر تعرضًا لأخطار الاحترار العالمي، لا سيما فيما يُعرف بالجنوب العالمي، كيف لا، ونحن نشهد ونشعر بالآثار الجسيمة للتغير المناخي منذ عشر سنوات أو يزيد، من فيضانات، وأعاصير، وموجات جفاف.
الجديد في الأمر هو أن العلماء الذين يعكفون على دراسة مسبِّبات الزيادة في معدلات هذه الظواهر المناخية المتطرفة، بإمكانهم الآن أن يربطوا بين اشتداد حدة هذه التأثيرات وارتفاع درجات الحرارة العالمية بنسبة تعدَّت درجة مئوية واحدة، وهذا يعني أنه في الوقت الذي تسعى فيه البلدان إلى الحد من الانبعاثات الحرارية بغرض إبقاء مقدار الارتفاع في درجات الحرارة العالمية، قياسًا إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية، دون 1.5 درجة مئوية (كما ينص اتفاق باريس للمناخ الذي وقعت عليه جميع البلدان في عام 2015)، إذا بالعالم قد بدأ بالفعل يتكبَّد الخسائر ويحصي الأضرار، أو دخل عصر التبعات الجِسام التي لا فكاك منها.
وما الفيضانات التي اجتاحت ألمانيا في الآونة الأخيرة، وراح ضحيتها 200 شخص تقريبًا، والفيضانات التي ضربت ولاية نيوجيرسي الأمريكية، في أعقاب إعصار «إيدا»Ida ، وأودت بحياة أكثر من 30 شخصًا، إلا نموذجان للظواهر المناخية التي تبعث على القلق في الدول الغنية، وهاهو العالم يشهد آثار التغيُّر المناخي بمعدلات غير مسبوقة كل يوم، وسوف تزداد الأوضاع سوءًا في المدى القريب.
الرسالة التي ينبغي توجيهها إلى جميع قادة العالم، وكذا إلى جميع الشعوب بطبيعة الحال، هي أنه لا بُدَّ من مضاعفة الجهود المبذولة للتكيُّف مع التغيُّر المناخي في كل مكان، بالتوازي مع مواجهة الخسائر وعلاج الأضرار التي بدأنا نلمس آثارها بالفعل، أما بالنسبة للبلدان الفقيرة، غير القادرة على النهوض بتلك المسؤولية بمفردها، فعلى البلدان الغنية أن تبادر إلى توفير الأموال اللازمة لها، إن لم يكن على سبيل التعويض عن التلوث الذي تسبَّبت فيه، فعلى الأقل من قَبيل إعلاء روح التضامن.
كما أن التقرير المناخي آنف الذكر يُبرز الحاجة إلى إشراك المجتمع بجميع فئاته وطوائفه في جهود التكيُّف مع التغيرات المناخية، على الصعيدين الوطني والعالمي، حبَّذا لو تتعلم بلدان العالم من بلدي، بنجلاديش، إذ نتبع هذا النهج الذي يشمل المجتمع ككل، لقد قطعنا بالفعل شوطًا طويلًا على طريق التعلُّم؛ بُغية تأهيل جميع أبناء هذا البلد، البالغ تعداده 160 مليون نسمة، لمواجهة آثار التغيُّر المناخي لدى وقوعها.
على سبيل المثال، طور الباحثون المتخصصون في دراسة محصول الأرز في بنجلاديش مجموعةً من السلالات المقاوِمة للملوحة، التي تتيحها الشركات الزراعية الخاصة للمزارعين في المناطق الساحلية المنخفضة، حيث تتسرب المياه المالحة إلى التربة، هذا على الرغم من أن هذه السلالات أكثر تكلفةً من السلالات التقليدية، والحق أن مستويات الملوحة في المناطق الساحلية ترتفع بوتيرة أسرع من قدرة علماء البلاد على تطوير هذه السلالات الجديدة، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى مزيد من التعاون بين العلماء على مستوى العالم من أجل تسريع وتيرة عمليات التكيُّف.
صحيحٌ أننا لم نتمكن من حل جميع المشكلات بعد، إلا أننا أحرزنا تقدمًا معتبرًا نحو إنقاذ الأرواح من الدمار الذي تخلِّفه الفيضانات والأعاصير، ولو أن بنجلاديش تعرضت للفيضانات التي شهدتها ألمانيا والولايات المتحدة، لما تكبَّدت تلك الخسائر في الأرواح التي تكبَّدها هذان البلدان، وقد رأينا على مدار العقود الماضية كيف كانت الأعاصير المدمرة تحصد أرواح مئات الآلاف في بلادنا، أما الآن، فلعلَّ لدى بنجلاديش أفضل برنامج على مستوى العالم للإنذار المبكر من أخطار الأعاصير، وإخلاء السكان من المناطق المهدَّدة، وخلال العقود القليلة الماضية، عملت بنجلاديش على تحسين عمليات تتبُّع الأعاصير عبر الأقمار الصناعية، وكذلك أنظمة الإنذار المبكر عبر أجهزة الراديو والهواتف المحمولة، وأيضًا من خلال المتطوعين الذين راحوا يجُوبون الشوارع حاملين مكبّرات الصوت لتحذير المواطنين.
وفي السياق ذاته، يجري تدريب طلاب المدارس الثانوية على التعامل مع الأعاصير، وتُوجَّه الزيارات إلى الأسر القاطنة في المناطق المعرضة للخطر، للتحدُّث وجهًا لوجه مع أفراد تلك الأُسر، وإخطارهم بأقرب ملجأ يلوذون به للاحتماء من الأعاصير، على أن تقع الملاجئ جميعها غير بعيدٍ من مقار إقامة تلك الأُسر، على مسافة تُقطع سيرًا على الأقدام، لقد رأينا نموذجًا واقعيًّا لمدى فاعلية هذه التدابير الاحترازية في مايو من عام 2020، عندما ضرب البلاد إعصار «أمفان» Amphan المدمر، غير أن عدد ضحاياه لم يزد على 30 شخصًا فقط، معظمهم من الصيادين الذين لم يعودوا من البحر في الوقت المناسب، وعلى الشاطئ، تلقَّى أكثر من ثلاثة ملايين شخص التحذيرات، واستطاعوا الاحتماء من الإعصار.
نحن في بنجلاديش على أتمِّ استعداد لمساعدة سائر البلدان على تعلُّم إستراتيجيات التكيُّف مع التغيُّر المناخي، وإننا لفي حاجة إلى مساعدتهم أيضًا، فلنجعل هذا سبيلًا يسلكها العالم أجمع