الخوارزميات ابتكرها بشر، ويشرف عليها بشر، ويغذيها بالمعلومات بشر، ومثلها مثل أي ابتكار آخر قادرة على أن تلعب دورا مهما في تطور البشرية، ونقلها إلى مستوى آخر من التقدم والازدهار، ولكنها قادرة كذلك على أن تكون شيطانا شريرا إذا أراد البشر لها ذلك.
وضعت فكرة التعلم الآلي لأول مرة في عام 1943 من قبل أستاذ علم المنطق والمختص في علم الأعصاب الحاسوبي والتر بيتس (غيتي)
يمكن لخوارزميات التعلم الآلي أن تؤدي مهاما عديدة ومعقدة في أيامنا هذه، من إتقان الألعاب الصعبة والمركبة، وتحديد الوجوه، إلى أتمتة المهام اليومية، واتخاذ قرارات تنبؤية مهمة أفضل من تلك التي يتخذها بعض البشر.
وقد جلب هذا العقد اختراقات خوارزمية لا حصر لها، وأيضا العديد من الخلافات، ولكن قد يجد المرء صعوبة في الاعتقاد بأن كل هذا التطور بدأ منذ أقل من قرن مضى مع العالمين والتر بيتس ووارن ماكولوتش.
كيف بدأت هذه الحكاية التي تسمى الخوارزميات؟
"الخوارزمية" (algorithm) هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما، وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي كان أول من ابتكرها في القرن التاسع الميلادي.
وقد تم وضع فكرة التعلم الآلي لأول مرة في عام 1943 من قبل أستاذ علم المنطق والمختص في علم الأعصاب الحاسوبي والتر بيتس وعالم فيسيولوجيا الأعصاب الحاسوبية وارين ماكولوتش، الذي نشر ورقة رياضية لرسم خريطة لعملية صنع القرار في الإدراك البشري والشبكات العصبية.
تعاملت الورقة مع كل خلية عصبية في الدماغ على أنها معالج رقمي بسيط، والدماغ كآلة حوسبة كاملة. وفي وقت لاحق، قدم عالم الرياضيات والحاسوب آلان تورينغ "اختبار تورينغ" (Turing test) في عام 1950، وما زال الاختبار المكون من لعبة تضم 3 أشخاص والتي تهدف إلى تحديد ما إذا كانت الآلات ذكية أم لا عصية على الحل من قبل أية آلة حتى أيامنا هذه، حيث يتطلب اختبار تورينغ جهاز حاسوب قادر على خداع الإنسان ليجعله يعتقد أن الآلة هي أيضا إنسان، وذلك كما ذكرت الكاتبة آفي جوباني في تقرير لها نشرته مجلة "أنالتيكس إنديا" (AnalyticsIndia) وتناولت فيه تاريخ الخوارزميات.
في خمسينيات القرن الماضي تم إجراء أبحاث رائدة في مجال التعلم الآلي باستخدام خوارزميات بسيطة، حيث كتب العالم آرثر صاموئيل من شركة "آي بي إم" (IPM) أول برنامج حاسوبي يلعب لعبة الداما الشهيرة، حيث تمت كتابة اللعبة باستخدام خوارزمية تسمى "ألفا بيتا" (alpha-beta)، وهي خوارزمية بحث تقلل عدد العقد التي يتم تقييمها بواسطة خوارزمية أخرى تدعى "ميني ماكس" (minimax) في أشجار البحث، ومنذ ذلك الحين تم استخدام هذه الطريقة في تصميم الألعاب التي تضم لاعبين اثنين، كما ذكرت الكاتبة في تقريرها.
في عام 1957، صمم عالم النفس الأميركي فرانك روزنبلات الـ"بيرسبترون" (Perceptron)، وهي أول شبكة عصبية تحفز عمليات التفكير في الدماغ البشري، وفي عام 1967 تم تقديم خوارزمية "الجار الأقرب" (The nearest neighbor) وهي إحدى الخوارزميات الرئيسية التي حلت "مشكلة البائع المتجول" (travelling salesman problem)، وهي عبارة عن مشكلة لبائع يبدأ في مدينة عشوائية ويزور المدن المجاورة بشكل متكرر حتى تتم زيارة جميع المدن.
في التسعينيات شاع استخدام الأساليب الإحصائية المتقدمة للخوارزميات (غيتي)
أواخر القرن الـ20
تم تقديم مفاهيم "التكاثر العكسي" (Backpropagation) في الستينيات، وأعيد تقديمها في الثمانينيات لإيجاد طبقات مخفية بين طبقات الإدخال والإخراج للشبكات العصبية، مما يجعلها مناسبة للاستخدام التجاري.
وتتابع آفي جوباني رصدها لتطور الخوارزميات لتذكر اكتشاف العالم جيرالد ديجونج عام 1981 التعلم القائم على التفسير بما في ذلك شرح البيانات وتعميمها، وتلاه ابتكار الشبكة العصبية "نت توك" (NetTalk) في عام 1985 بواسطة البروفيسور تيري سيجنوفسكي، وهي خوارزمية قادرة على نطق كلمات مثل طفل، وذلك بناء على النص، وفي عام 1989، طور كريستوفر واتكينز خوارزمية الـ "كيو لريننغ" (Q-Learning) التي حسنت التطبيقات العملية للتعلم المعزز.
وشاع في التسعينيات استخدام الأساليب الإحصائية المتقدمة للخوارزميات بالنظر إلى أن الشبكات العصبية بدت أقل قابلية للتفسير وتتطلب قوة حسابية أعلى، وتضمنت هذه الأساليب خوارزميات الغابة العشوائية التي تم تقديمها في عام 1995، وبعد ذلك حدث أكبر انتصار للخوارزميات والذكاء الاصطناعي عندما تغلب برنامج "ديب بلو" من شركة "آي بي إم" على بطل العالم في الشطرنج عام 1997.
تقدم سريع في الألفية الثانية
في أوائل العقد الأول من القرن الحالي -تقول الكاتبة- تطورت خوارزميات التعلم الآلي والتعلم غير الخاضع للإشراف المباشر، وفي عام 2009 أنشأ "في في لي" أستاذ علم الحاسوب في جامعة ستانفورد مجموعة بيانات كبيرة تعكس العالم الحقيقي والتي أصبحت لاحقا الأساس الذي انطلق منه العالم أليكس كريجفسكي الذي ابتكر شبكة "أليكس نت" (AlexNet)، وهي النسخة الأولى من شبكة "سي إن إن" (CNN).
وفي هذه الأثناء، وفي عام 2011، تغلبت "واتسون آي بي إم" (IBM’s Watson) على منافسيها من البشر في لعبة "جيبرادي" (Jeopardy) الشهيرة، وقريبا من هذا الوقت، قدمت شركة غوغل آليتها الخاصة التي أطلقت عليها اسم "غوغل برين" (Google Brain) التي يمكنها تصنيف الأشياء، وتابعت الشركة العملاقة عملها بابتكار خوارزمية لتصفح مقاطع الفيديو في "يوتيوب" (YouTube).
واستخدمت خوارزميات "ورد 2 فيك" (Word2vec) -التي تم تقديمها في عام 2013- الشبكات العصبية لتعلم جمع الكلمات، وأصبحت فيما بعد الأساس لنماذج اللغات الكبيرة. وفي عام 2014 طورت شركة فيسبوك ابتكارها المذهل الذي أعاد كتابة التاريخ وهو "فيسبوك ديب فيس" (Facebook DeepFace)، وهي خوارزمية تغلبت على جميع المعايير السابقة لخوارزميات الحاسوب من خلال قدرتها على التعرف على الوجوه البشرية.
الخوارزمية التي تعتمدها منصة "تيك توك" مثال على الخوارزميات فائقة الذكاء (غيتي)
خوارزميات العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة حاضرا ومستقبلا
اليوم، أصبحت الخوارزميات -كما تؤكد الكاتبة- العمود الفقري لتوليد الصور والفيديو والصوت، وتستخدم بشكل شائع للتزييف العميق، وفي عام 2016، تميزت خوارزمية "ألفا قو" (AlphaGo) بأحد أكثر انتصارات التعلم الآلي شيوعا، حيث تغلبت على بطل العالم في لعبة اللوحة الصينية "قو" (Go)، وفي عام 2017، تغلبت "ألفا قو" وخلفاؤها على العديد من الأبطال في عدة ألعاب معقدة، وفي عام 2017 بدأت شركة "وايمو" (Waymo) باختبار حافلاتها الصغيرة ذاتية القيادة، وحققت شركة "ديب مايند" (Deepmind) انتصارا آخر في عام 2018 مع خوارزمية "ألفا فولد" (AlphaFold) لقدرتها على التنبؤ ببنية البروتين.
وفي الحقيقة، فإن آفاق تطور الخوارزميات وطرق استخدامها في الحياة لا تكاد تعد ولا تحصى، ويكفي أن نعلم أن حجم سوق التداول العالمي في الخوارزميات وصل إلى 11.1 مليار دولار أميركي عام 2019، ومن المتوقع أن يصل إلى 18.8 مليار دولار أميركي عام 2024 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 11.1%، وذلك كما ذكرت منصة "ماركتس أند ماركتس" (Markets and Markets) مؤخرا.
وفي الواقع فقد أخذنا نشهد مؤخرا ابتكار خوارزميات فائقة الذكاء مثل خوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، وربما كانت الخوارزمية التي تعتمدها منصة "تيك توك" (Tiktok) مثالا جيدا عليها، ويوضح الفيديو كيف تعمل هذا الخوارزمية المراوغة التي تعتبر من أكثر الخوارزميات تطورا وذكاء.
وباختصار، تعد خوارزمية "تيك توك" نظاما معقدا مصمما لخدمة محتوى المستخدمين بناء على ما تعتقد الخوارزمية أنه ذو أهمية عالية بالنسبة للمستخدم، ووفق "تيك توك" يوصي النظام بالمحتوى عن طريق ترتيب مقاطع الفيديو بناء على مجموعة من العوامل، بدءا من الاهتمامات التي تعبر عنها كمستخدم جديد، والتكيف مع الأشياء التي تشير إلى أنك لست مهتما بها أيضا، أي أنها خوارزمية تدرس بعمق وتحلل بذكاء وتراقب بنشاط كل ما يتعلق بمستخدميها وطريقة تصرفهم أثناء وجودهم في المنصة، وذلك وفق ما ذكرت الكاتبة جيسيكا وورب في مدونتها على موقع "ليتر" (Later) مؤخرا.
الثقة العمياء في الخوارزميات لاتخاذ قرارات حساسة يمكن أن تلحق الضرر بالعديد من البشر (مواقع التواصل الاجتماعي)
الخوارزميات الشريرة.. أسلحة التدمير الرياضي
لكن، هناك وجه آخر معتم للقمر الخوارزمي، فهناك جانب شرير وفي غاية الخطورة لها.
في كتابها، "أسلحة التدمير الرياضي" (Weapons of Math Destruction)، تستكشف عالمة الرياضيات "كاثي أونيل" كيف أن الثقة العمياء في الخوارزميات لاتخاذ قرارات حساسة يمكن أن تلحق الضرر بالعديد من البشر.
وتستكشف أونيل في كتابها العديد من الحالات التي تسببت فيها الخوارزميات في إلحاق الضرر بحياة الناس، وتشمل الأمثلة أنظمة تسجيل الائتمان التي تعاقب الأشخاص بشكل خاطئ، و"خوارزميات النكوص" (recidivism algorithms) التي تعطي أحكاما أشد للمدعى عليهم بناء على لونهم وخلفياتهم العرقية، وأنظمة تسجيل المعلمين التي تنتهي بفصل المعلمين ذوي الأداء الجيد ومكافأة الغشاشين، والخوارزميات التجارية التي تحقق مليارات الدولارات على حساب فئات الدخل المنخفض، وذلك كما ذكرت منصة "تيك توكس" (techtalks) مؤخرا.
وقد يؤدي تأثير الخوارزمية إلى إنشاء نظام ذكاء اصطناعي خطير، فالخوارزميات يمكنها أن تقرر إبقاء الشخص في السجن بناء على عرقه، وليس لدى المدعى عليه وسيلة لمعرفة سبب اعتباره غير مؤهل للحصول على عفو.
وهناك ما هو أكثر خطورة من ذلك، فقد ذكرت "الجزيرة نت" في تقرير لها مؤخرا أن فريقا بحثيا أوروبيا أثبت أنه يمكن للذكاء الاصطناعي، إذا استخدم عن عمد، أن يصنع عددا كبيرا من الأسلحة البيولوجية والكيميائية الجديدة تماما بسهولة كبيرة، والتي يمكن بعد العمل على تطويرها أن تساعد في تغيير خارطة الحرب على هذا الكوكب.
وتصمم الخوارزميات في العادة لتقليل الأضرار ورفع الفائدة، بمعنى أنه بعد أن تُخلّق المركبات الكيميائية في الدورة الأولى للخوارزمية، يتم تنقيحها بالدورة الثانية لتخدم غرض الأمان بشكل أساسي، فلا تكون ضارة بالإنسان.
لكن، وبحسب الجزيرة نت، فقد قام الباحثون بعكس هذه الآلية، فتعلمت الخوارزمية أن تفضّل الضرر وتتجنب الفائدة، وفي أقل من 6 ساعات بعد تشغيلها، أنتج نموذجهم 40 ألف جزيء كيميائي يتميز بأنه ضار للجسد البشري.
وبعد، إن الخوارزميات ابتكرها بشر، ويشرف عليها بشر، ويغذيها بالمعلومات بشر، ومثلها مثل أي ابتكار آخر قادرة على أن تلعب دورا مهما في تطور البشرية، ونقلها إلى مستوى آخر من التقدم والازدهار، ولكنها قادرة كذلك على أن تكون شيطانا شريرا إذا أراد البشر لها ذلك.