الإعداد التربوي في شهر رمضان
السيد فاضل علوي ال درويش
يمثل شهر رمضان مدرسة روحية وتربوية من خلال إعداد الصائم لاكتساب القيم والمضامين التي تؤهله للخوض في ميادين الحياة، متسلحا بالصبر والاستقامة والبصيرة في مواجهة المغريات الداعية لمعصية الخالق وارتكاب الموبقات المسقطة له في وحل النزوات والشهوات، فهذه الدورة على امتداد شهر كامل - بما تحمله من منبهات وموجهات - كفيلة بإحداث حالة من التغيير في النفس البشرية على مستوى الفكر والسلوك، فإن تلك السقطات ونقاط الضعف التي يتسلل من خلالها الشيطان الرجيم ليوقعه الخطيئة تسد ثغراتها في الشهر الكريم، بما يتهيأ للصائم من أجواء روحية مكثفة تقترن بحالة الإمساك التي يراقب فيها نفسه وجوارحه من فعل أي من المفطرات، وبعد انقضاء تلك الدورة التدريبية الممتدة لشهر كامل تتبلور في شخصيته مجموعة من المضامين المرجوة من الصيام.
وما يطرح حوله من تساؤل هو افتقاد البعض للشعور بمعالم التغيير الأخلاقي والتربوي التي يتحدث عنها علماء الأخلاق مما هو مستوحى من الروايات الشريفة المتعلقة بآداب الصيام، فكيف يمكننا فهم هذه الحالة من الإخفاق لمن صام الشهر كاملا دون جرحه بتناول أي مفطر، بل وكان من المواظبين على تلاوة القرآن الكريم فيه والاستظلال بالأجواء العبادية فيه وخصوصا في ليالي القدر المباركة؟
لتقريب الصورة والحصول على إجابة شافية ومقنعة لابد لنا من ملاحظة مثال يقرب لنا المعنى المطلوب، فالمريض بعد استشعاره لمظاهر المرض من آلام ومتاعب يتوجه نحو الطبيب للبحث عن علاج مناسب له، وبعد المعاينة وتشخيص المرض والأسباب المؤدية له يوصف له العلاج المناسب ليتناوله لفترة معينة، وهكذا لو بحثنا في مشكلة عدم تغير حال الصائم عن العام السابق وبقاء تلك العيوب والرذائل الأخلاقية فيه، فلا بد أولا من فهم حقيقة الصيام المؤثر في التغيير الإيجابي وبلورة الشخصية المتصفة بالتقوى والصبر والإرادة القوية وهكذا بالنسبة لبقية المكتسبات، فالصوم ليس مجرد الإمساك عن المفطرات بالمفهوم الفقهي دون النظر للمعاني الأخلاقية للصوم وهو صوم الجوارح، فهناك من المخالفات والمعاصي التي قد يرتكبها الصائم دون أن تؤدي لبطلان صومه كاستماع الغناء أو تبرج المرأة أو النظرة المحرمة مثلا ولكنها تجرح الصيام وتمنع من الاستفادة من فيوضاته، فإذا أردنا صوما يحصن أنفسنا ويجنبها ارتكاب الموبقات فلا بد من مراقبة جميع الجوارح.
ومحاسبة النفس وتفكر المرء في حاله في الشهر الكريم من أفضل الأعمال العبادية والمعينة على تبصر مواطن الضعف عنده، فالإقلاع عن ارتكاب السيئات رهين بمعرفة الأسباب المؤدية لها، وبعدها يصل إلى مرحلة التوبة النصوح وامتلاك الإرادة القوية في تركها مستقبلا، ومما يعينه على ترك الآثام هو التفكر في اليوم الآخر وما يتضمنه من أهوال وعقوبات للمسيئين، فإن هذه الصورة الماثلة بين عينيه توعيه وتحذره من العواقب الوخيمة للاسترسال في المعاصي.
ومما يكسب الوعي وإدراك خطورة مخالفة الأوامر الإلهية هو مجموعة الأدعية والمناجاة التي تشحن النفس بالخشية من الله تعالى والاستئناس بذكره والثقة بتدبيره، ولذا فإن هذه الأدعية تحمل مجموعة من الإشارات والمفاهيم الأخلاقية وتلفت النظر لاكتسابها وتجنب ما ذكرته من مساوئ ونقائص.
من منا يرضى يوما أن يفقد حريته ويبقى سجينا بين القضبان ومغللا بالقيود، فلنفكر في حالنا وقد أضحينا أسارى لشهواتنا فلا نقوى على مغالبتها ورفض الاستجابة لها، قد انحدرنا من عالم الكرامة الإنسانية إلى عالم البهيمية والغرائز، وها نحن أمام فرصة لنتحرر من أغلال الشهوات ونسمو لعالم الفضيلة والإرادة القوية وطهارة النفس من دنس الرذائل.
تزكية النفس وتطهيرها يحتاج إلى جهود ووسائل تعين الصائم على زرعها في نفسه، وتلك البرامج العبادية والروحية تغذي الفكر والروح، فعندما نتأمل شيئا من الآيات القرآنية التي نتلوها في شهر ربيع القرآن ونتدبر في معانيها فإن ذهننا يتهيأ لقبول الحكمة والتفكير الواعي، كما أن الأدعية المباركة في هذا الشهر الكريم زاخرة بالقيم والمفاهيم الأخلاقية والتربوية، وما يمنع من الحصول على هذه الومضات الروحية هو حالة الفهم القاصر لحقيقة الصوم في الشهر الكريم والاقتصار على إسقاط التكليف بترك المفطرات، ليخرج المرء من هذه الدورة التربوية حينئذ خالي الوفاض من أي تغيير إيجابي