خريطة قديمة لتمدد الإمبراطوريتين البحريتين الإسبانية والبرتغالية تعود لعام 1623 (شترستوك)
توصف الفترة الاستعمارية (1492-1832) بحقبة التوسع التاريخية لتاج قشتالة الملكي الإسباني، إذ غزا الإسبان الأميركتين على إثر وصول كريستوفر كولومبس إلى الكاريبي عام 1492، واستمر النفوذ الإمبراطوري على مساحات شاسعة في "العالم الجديد" لأكثر من 3 قرون وانخفض عدد السكان الأصليين بنحو 80% بعد قرن ونصف القرن من رحلة كولومبس، وبخلاف قصة الإبادة تقدم روايات تاريخية محدودة قصصا للاحتكاك بين المستعمرين الجدد والسكان الأصليين لتلك البلاد.
في بداية القرن الـ16، حاولت إسبانيا غزو منطقة فلوريدا الأميركية، لكن حملتها فشلت وأسر أربعة من الغزاة الإسبان من قبل الهنود الحمر. وقد جعلتهم هذه التجربة يغيرون وجهة نظرهم عن السكان الأصليين.
وتروي إيزابيل روف في تقرير نشرته صحيفة "لوتون" (Le Temps) الفرنسية تفاصيل هذه القصة، ففي ربيع عام 1536، صادف الفرسان الأوروبيون في السهول الممتدة بين سييرا مادري والمحيط الهادي (شمال غرب المكسيك حاليا) مجموعة من الهنود الحمر الذين كانوا "حفاة الأقدام ويغطون أجسادهم بجلود الحيوانات". لكن هؤلاء الهنود لم يلوذوا بالفرار -مثلما كان يفعل الآخرون- وإنما اقتربوا من الإسبان الذين فوجئوا بأحدهم يحدثهم بطلاقة بلغتهم الإسبانية.
وقد وصف المؤرخ أندريس ريزنديز هذا اللقاء بنقطة التحول الفاصلة التي غيرت العلاقة بين المستوطنين البيض والسكان الأصليين، من مهاجمة بعضهم بعضا إلى التعاون.كان هناك من جهة الهنود الحمر ومن جهة أخرى ناجون من رحلة استكشافية بدأت قبل 10 سنوات تقريبا لغزو فلوريدا، ومن بين حوالي 300 رجل غادروا خليج المكسيك، نجا أربعة منهم فقط: 3 إسبان هم نونيز كابيزا دي فاكا واثنان آخران من النبلاء، وعبد أفريقي يدعى إستيبانيكو. وهم مدينون للهنود ببقائهم على قيد الحياة.
وقال ريزنديز "تجسد رحلتهم علامة فارقة في طريق الاستكشاف والغزو، وهو طريق كان من الممكن أن يغير الاستيلاء الوحشي على أراضي أميركا وثرواتها من قبل الأوروبيين".
مكافأة للفائزين
وأشارت الكاتبة إلى أن روايات الانتصار التي وصفت فتوحات إرنان كورتيس وفرانثيسكو بيثارو طغت على ما كتبه هؤلاء الإسبان الثلاثة، خاصة أن التاريخ يفضل المنتصرين بينما انطوت بعثة فلوريدا على سلسلة من الكوارث.
وعرف كورتيس بغزو إمبراطورية الأزتيك في بلاد المكسيك واشتهر بقسوته مع الهنود الحمر، بينما غزا بيثارو إمبراطورية الإنكا وأسس مدينة ليما عاصمة بيرو الحالية.
ومنح ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة شارل الخامس النبيل القشتالي بانفيلو دي نارفاييز أرض فلوريدا، فقام الأخير بتجميع حوالي 600 رجل غادروا إشبيلية في عام 1527 لاستكشاف هذه الأراضي الواقعة شمال المكسيك. كان من معه يمثلون صورة مصغرة للمجتمع، حيث تألفت هذه المجموعة من الأرستقراطيين والعلماء والأطباء والمحامين ورجال الدين والحرفيين والجنود والمغامرين وحتى النساء والعبيد.
كان الهدف من هذه البعثة تأسيس إسبانيا جديدة وراء البحار والتبشير بالمسيحية، لكن هذه الرحلة سارت على نحو غير متوقع وواجه طاقمها الكثير من الصعاب. وصلت البعثة إلى حافة خليج المكسيك لكنها لم تستطع تحديد موقعها. نتيجة لذلك، قرر المستوطنون الانقسام إلى مجموعات وانتهى الأمر بمن قرروا مواصلة الرحلة بحرا بالعودة إلى كوبا من حيث غادروا. أما أولئك الذين سلكوا الطريق البري تركوا معهم الخيول والأسلحة، وكان هدفهم بلوغ أراضي المستعمرات الإسبانية جنوب نهر ريو غراندي دون أن يدركوا أنه تفصلهم عنها أكثر من 2500 كيلومتر.
كانوا يتقدمون ببطء ويعانون بسبب الجوع والإصابة بداء الحمى النمشية، وأخذوا يهاجمون وينهبون قرى السكان الأصليين في طريقهم. وحين بدأت المؤونة تنفد، أصبحت الرحلة مشروعا مجنونا إذ لم يبق أمامهم خيار سوى ذبح خيولهم وصهر أسلحتهم لصنع الأدوات. وكانوا يعتقدون أن أسلحتهم النارية ستضمن تفوقهم على الهنود الحمر.
القيام بمهام النساء
فشلت خطة الإبحار على قواربهم المؤقتة وغرق الكثير منهم، بما في ذلك النبيل نارفاييز. لم تكن أمام الناجين فرصة للانتصار ضد السكان الأصليين الذين اعتادوا على مجابهة العقبات الطبيعية. وبعض من بقي من الغزاة على قيد الحياة اختار الانعزال خوفا من مواجهة الهنود الحمر وانقلبوا في النهاية على بعضهم بسبب الجوع وتحولوا إلى نوع من آكلي لحوم البشر.
في المقابل، حاول البعض الآخر الاختلاط مع السكان الأصليين الذين أظهر بعضهم ضيافة وكرما مدهشين، في حين قتل البعض الآخر المتسللين أو أسروهم. كان الإسبان غير قادرين على الصيد بالقوس أو فعل أي شيء آخر، لذلك أوكلت لهم مهام النساء على غرار حمل الماء والخشب. وكانوا يعيشون حياة تشبه البدو يأكلون العناكب وبيض النمل والسمندل أو يملؤون بطونهم بجوز البقان أو المحار.
رسم يمثل وصول كريستوفر كولومبوس إلى جزيرة سان سلفادور الأميركية عام 1492 (غيتي)
وبما أن هؤلاء الأسرى كانوا من الكاثوليك، فقد اعتبروا ما حصل لهم نوعا من التضحية التي ستمنحهم الخلاص في النهاية. وكانوا يمارسون طقوسا دينية وجدها الهنود الحمر ساحرة، وباتوا يطلقون عليهم لقب "أبناء الشمس" ويقدرونهم وينسبون إليهم قدرات خارقة.
تقديم الهدايا
آمن هؤلاء الإسبان بقوتهم الخاصة واعتبروها علامة إلهية، وواصلوا مسيرتهم سعيا للانضمام إلى الأوروبيين الآخرين. ولكن هذه المرة كان برفقتهم جمع من الذين يطعمونهم ويحمونهم ويغمرونهم بالهدايا. وخلال الرحلة، انحرفوا عن مسارهم على طول خليج المكسيك نحو الشمال وسييرا مادري.
عندما وصل الرجال الأربعة أخيرا إلى ساحل المحيط الهادي في أوائل عام 1536، كانوا قد نجوا بأعجوبة من الموت وقطعوا آلاف الأميال سيرا على الأقدام، وأقاموا علاقات مع السكان الأصليين أثرت فيهم كثيرا. لقد وصلوا إلى الأراضي التي استعمرها المسؤول الاستعماري في المكسيك الإسبانية نونو دي غوزمان، وقد وعدوا أتباعهم بأنهم "سيمنعون مواطنيهم من قتل أو استعباد السكان الأصليين"، لكننا نعلم أن ذلك لم يحصل.
العودة
كانت عودتهم إلى الأراضي الإسبانية مريرة، فقد ظنوا أنهم سيستقبلون بحفاوة ويتمكنون من تأسيس مجتمع يقوم على "التعاون" لكنهم فصلوا عن تجربتهم مع الهنود وأصبحوا مجرد بيادق في لعبة القوة.
وقتل العبد الأفريقي إستيبانيكو، الذي لعب دورا مهما في توطيد العلاقات مع السكان الأصليين، على يد الهنود خلال مفاوضات فاشلة.