سُوْءُ الظَّنِّ
ثَمّةَ اختبارٌ حقيقي للإنسانِ عندما تراودهُ الشُّكوكُ فِي أمرٍ ما خاصةً فيما يتعلقُ بسوءِ فهمٍ لقولٍ أو فعلٍ صدرَ مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ؛ في أَنْ يكبحَ جماحَ شعورهِ هذا بحملِ هذا التَّصرف عَلَى عدةِ مَحامِل واحتمالاتٍ، قالَ جَلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12]، وقدْ وردَ عَنْ أميرِ المؤمنينَ ”عليهِ السلام“ قولهُ: [ضعْ أمرَ أخيكَ عَلى أحسنهِ حتى يأتيكَ مَا يغلبكَ منهُ، ولا تظنن بكلمةٍ خرجتْ مِنْ أخيكَ سوءٍ وأنتَ تجدُ لها في الْخيرِ مَحلا].
عَلَى المؤمنِ أَنْ يبادرَ هو باستقصاءِ الواقع والحقيقة ما استطاعَ لذلكَ سبيلًا حتى يذيبَ مواضعَ الشَّكِ ويقطعَ حبالها ويُحَجِّمَ مِنْ سيطرتها على نفسهِ.
الظَّنُّ في اللغةِ هو شكٌ ويقينٌ، وجمعُ الظَّنِ: ظُنُون، وظَنَنتُ في الدار: شَككت فيه، وظَنَنتُه ظَنّاً: اتَّهَمتُه. والظِّنَّة: التُّهَمَة. والظَّنُونُ: الرجل السيء الظَّنِ
أما مفهوم الظَّنِّ في الاصطلاحِ فهو عقدُ الْقلبِ وحكمهِ عليهِ بالسَّوءِ مِنْ غير يقينٍ، وتفسيرُ ذلكَ فِي أنهُ ليسَ لَكَ أَنْ تعتقدَ فِي غيركَ سُوءاً إلّا إذا انكشفَ لَكَ بعيانٍ لا يَحتملُ التأويل، وما لَمْ تعلمهُ ثمّ وقعَ في قلبكَ، فالشيطانُ يلقيهِ، فينبغي أن تكذبهُ، فإنّهُ أفسقُ الْفسّاق، فلا يجوزُ تصديقهُ، ولا يجوزُ إساءةُ الظنّ بالمسلمِ.
قالَ تعالى: ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ [الفتح: 13]
روِي أنّ رسولَ اللَّهِ ”صلى اللهُ عليهِ وآله وسلم“ نظرَ إلى الكعبةِ وقالَ: «مَرحَباً بِالبَيتِ مَا أَعظَمَكَ وَمَا أَعظَمَ حُرمَتَكَ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهِ لَلْمُؤْمِنِ أَعظَمُ حُرمَةٍ مِنكِ - لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنكِ وَاحِدَةً وَمِنْ المُؤْمِنِ ثَلَاثَةً مَالَهُ وَدَمَهُ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَ السُّوءِ".
وقدْ وردَ عَنْ أميرِ المؤمنينَ ”عليهِ السَّلام“ قولهُ: «وَلَا يَغْلِبَنَّ عَلَيْكَ سُوءُ الظَّنِ فَإِنَّهُ لَا يَدَعُ بَيْنَكَ وبَيْنَ خَلِيلٍ صُلْحاً».
ويُقَسَّمُ الظَّنُّ إلى نوعينِ؛ نوعٌ يَكُونُ فِي سوءِ الظَّنِّ بالنَّاسِ؛ أي ما يترتّبُ الأثرُ عليهِ، كأنْ يظنَ بأخيهِ المؤمنِ سوءًا، فيرميهِ بهِ، ويذكرهُ لغيرهِ ويرتّبُ سائرَ آثارهِ.
ونوعٌ آخرٌ يَكُونَ فِي سوءِ الظَّنِّ بِاللهِ والذي يَعُودُ إلى صفاتهِ وأفعالهِ سبحانهُ، كالكفار الذين يقولونَ أنّ اللهَ ليسَ بِعَالِمٍ، أو أنّهُ لا يعلمُ بالأمورِ الْجزئيةِ، أو أنّهُ لا يدري بما يعملهُ الْبشر فِي السُّر، وبما يخطرُ لهم في الْباطن. فقدْ وردَ عَنْ الرضا ”سلامُ اللهِ عليهِ“ أنّهُ قالَ: "أحسنْ الظنّ باللّهِ، فإنّ اللّهَ
يقولُ: أنا عندَ حُسن ظنّ عبدي المؤمن بي إِنْ خيراً فخيراً وإنْ شرّاً فشرّاً".
أما حكمُ الظَّنِّ كلُّ قولٍ وعملٍ يُسمعُ أو يُرى مِنْ مسلمٍ، ويتركَ احتمالاً بصحتهِ، فيُحملُ على الْفسادِ، فالاعتقاد به حرام.
وسوءُ الظَّنِّ مِنْ حيث هو، دون أن يظهرَ أثرهُ في قولٍ، أو فعلٍ ما هو بمحرم، وصاحبهُ غيرُ مسؤولٍ عنهُ، لأنّ الإنسانَ لا حُريةَ لهُ فِي ظنونهِ وتصوراتهِ، وإنّما تُوحي بِها الظُّروفُ والأسبابُ الخارجةُ عَنْ إرادتهِ واختيارهِ. فعليهِ أَنْ لا يعوّل على ظنِّ السَّوءِ، ويعتبرهُ كأنّهُ لَمْ يَكُنْ، وإذا عوّلَّ عليهِ وظهرَ أثرُ ذلكَ في قولٍ، أو فعلٍ كَانَ مَسْؤولاً، ومستحقًا للذَّمِ والْعقاب.
وعلاجهُ يَكُونَ في عدمِ تتبعهِ، وعدمُ تغييرِ القَلْبِ عمّا كان عليهِ بالنسبةِ إليهِ، مِنْ المراعاةِ، والتَّفقد، والإكرام، والاعتماد بسببهِ، بل ينبغي أَنْ نزيدَ فيهِ مِنْ مراعاتهِ وإعظامهِ والدعوةَ لهُ بالْخيرِ، فإنّ ذلكَ يُقنُط الشيطان ويدفعهُ عنكَ، فلا يلقي إليكَ خاطرُ السوءِ خوفًا مِنْ انشغالكَ بالدَّعاءِ وزيادة الإكرامِ عليهِ.
ومهما عرفتَ مِنْ عثرةٍ مِنْ مسلمٍ فانصحهُ في السَّرِ ولا تبادرْ إلى اغتيابهِ، ولا تعظهُ وأنتَ مسرورٌ باطلاعكَ على عيبهِ، لتنظرَ إليهِ بعينِ الْحقارة، مَعَ أنَّهُ ينظرَ إليكَ بعينِ التَّعظيمِ، بَلْ ينبغي أَنْ يَكُونَ قَصْدُكَ استخلاصهُ مِنْ الإثمِ، وتكونَ مَحْزُونًا كَمَا تحزنُ عَلَى نَفْسِكَ إذا دخلَ عليكَ نُقْصَانٌ.
نسألُ الْبَاري جلَّ وعلا بأنْ لا يَبَْتَلِيْنَا بسُوءِ الظَّنِّ، وأَنْ يحسنَ خاتمتنا.