ثلاثة عوامل حسمت الانقراض الجماعي في نهاية العصر البرمي
ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأكسجين وزيادة حامضية المياه هي العوامل الرئيسية التي أفنت 90% من الحياة على سطح كوكب الأرض قبل 252 مليون سنة.. وفق دراسة جديدة.
يكشف ساحل سفالبارد في النرويج عن حفريات صخرية تعود إلى العصر البرمي وسجل الانقراض الجماعي في ذلك العصر. Credit: W.J.Foster
في سيناريو شديد القِدم بدأت أحداثه بصورة تغيرات مناخية تشبه تلك التي نعيشها اليوم، انتهت الحياة على الأرض فيما يُوصف بأنه "أشرس انقراض جماعيّ شهدته الأرض"، فقبل 252 مليون سنة في العصر البرمي، ثارت سلسلة من البراكين في منطقة سيبيريا، صاحَب ذلك الثوران انبعاث كميات هائلة من غازات الدفيئة، أدت بدورها إلى ارتفاع درجات الحرارة على الأرض بعشر درجات مئوية كاملة، نتج عن ذلك انقراض الكائنات الحية على كوكبنا في البر والبحر، إذ لم ينجُ من هذا الهلاك سوى 25% من الكائنات البرية، لكن الطامة الكبرى كانت في البحار والمحيطات، فلم يتبقَّ من جميع الكائنات الحية سوى 10% فقط، حدث قاتم نستطيع وصفه بأنه "الموت العظيم"، "ولا نعلم عمّا إذا كانت الأنواع الناجية هي صاحبة جينات جيدة أم أنها ببساطة صاحبة حظ جيد؟".
ثلاثة عوامل حاسمة
ظلت أسباب الانقراض البرمي عقودًا وهي مصدر حيرة لعلماء الجيولوجيا؛ إذ دار جدل حول الأسباب الرئيسية وراء هذا الاندثار العظيم، ورغم ذلك فإنهم جميعًا متفقون على أن ما أصاب النظم البيئية حينذاك كان كارثةً بكل المقاييس، نشر فريق من العلماء دراسة جديدة، حددت نتائجها العوامل الأساسية وراء اختفاء الحياة على كوكبنا في نهاية العصر البرمي، منذ حوالي 252 مليون عام.
"إن التغيرات المناخية هي ناقوس الخطر الأول الذي يهدد المجتمعات والبيئات المختلفة"، هكذا بدأ ويليام فوستر -عالِم الجيولوجيا بمتحف فير ناتركيند (für Naturkunde) بمعهد ليبنز (Leibniz) للتطور وعلوم التنوع البيولوجي في برلين بألمانيا، والمؤلف الرئيسي للدراسة- حديثه لـ"للعلم"، مضيفًا أن "ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأكسجين وزيادة حامضية المياه ثلاثة عوامل بيئية أفنت الحياة على سطح كوكب الأرض قبل 252 مليون سنة".
وهو ما علقت عليه سناء السيد -عضو الفريق البحثي لمركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية وطالبة الدكتوراة بجامعة ميتشجن الأمريكية، وغير المشاركة في البحث- في حديثها لـ"للعلم" بقولها: "أي تغير بسيط في العوامل البيئية يؤثر بشكل مباشر على أحجام الكائنات الحية ومسارات هجرتها، بل من شأنه أيضًا أن يُحدث تغيرات فسيولوجية وتشريحية جوهرية في الكائن الحي".
وتكمل "السيد": "من خلال دراستي لإحدى فترات الاحتباس الحراري التي عانت منها الأرض قبل 56 مليون عام، والتي زادت فيها درجات الحرارة بنحو أربع درجات مئوية، استطعت إثبات تأثر الأسماك ومعيشتها وأحجامها بدرجة كبيرة جدًّا من جرَّاء عامل واحد، هو ارتفاع درجات الحرارة".
الذكاء الاصطناعي يكشف الحقيقة
عمل الفريق البحثي للدراسة الأخيرة على تحليل أكثر من 25000 سجل لـ1283 جنسًا من الكائنات البحرية الأحفورية، مثل ذوات الصدفتين والقواقع والإسفنج والطحالب والقشريات من منطقة جنوب الصين، وكلها تحوي هياكل عظمية معدنية أو أصدافًا، يمكن التحقق من عمر تلك الأحافير بدقة عالية باستخدام تقنيات وطرق خاصة، ما يوفر نظرةً ثاقبةً على النظم البيئية البحرية قبل الانقراض وبعده.
اعتمد الفريق البحثي أيضًا على قاعدة بيانات ضخمة توفر معلومات إضافية حول الجوانب البيئية المختلفة لحياة تلك الكائنات، وبواسطة تطبيق نظم الذكاء الاصطناعي عبر عملية التعلم الآلي، جرى تحليل كل هذه العوامل بشكل مشترك ومتزامن، في هذه العملية، اتخذت الآلة بشكل أساسي قرارات معينة من تلقاء نفسها في لحظة كانت هي الأكثر إثارةً بالنسبة للفريق.
يقول "فوستر": "اعتمدنا على الذكاء الاصطناعي، وفيه تدرب الآلة نفسها لإنشاء خوارزمية يمكنها شرح الاتجاهات والأنماط في البيانات ثم التنبؤ بهذه الاتجاهات في مجموعة بيانات جديدة، هذا يعني أنه يمكننا أن نفهم لأول مرة، أي الحيوانات من المحتمل أن ينقرض؟ ولماذا؟"، وهل جعلت بعض السمات كائنًا أكثر احتماليةً للبقاء في ظل الظروف السائدة في نهاية العصر البرمي أم لا؟
جينات سيئة أم حظ عسر؟
كيف يختار الموت أصحابه؟ وهل للانقراضات الجماعية تفضيلات معينة من الكائنات؟
وجد العلماء أن تآزر الانتقاء البيئي مع عوامل الإجهاد البيئية من تغيرات مناخية وغيرها هو التفسير الأمثل للانقراض البرمي؛ إذ يقع الخطر الأكبر للانقراض على الأجناس فقيرة التنوع، والتي تعيش في ظروف بيئية محددة أو لديها نمط حياة ثابت، فقد أظهرت الآلة أن نقص الأكسجين يمثل خطرًا داهمًا على الحيوانات التي كانت تعيش في المياه العميقة، في المقابل، فإن الحيوانات التي عاشت بالقرب من السطح تؤثر عليها التغيرات فيما يتعلق بدرجات الحرارة، باختصار فإن محدودية البيئة التي يفضلها الكائن في معيشته كموطن تغلق أمامه فرص الهروب إلى بيئات أخرى عند استحالة الحياة في الموطن الأصلي.
تقول "السيد": "هناك مجموعة محددة من العوامل هي المسؤولة عن تنوع الكائنات وانتشارها، وتكاد تكون متكررةً على مر العصور، مثل التغيرات في درجات الحرارة وذوبان الأكسجين في الماء، ولطالما أدت هذه العوامل دور البطولة في قصص الانقراض، فهي التي تحدد مَن المنقرض ومَن المستمر؟ مضيفةً أن "الدارس للتاريخ الجيولوجي يرى ذلك جليًّا، لذا علينا الانتباه جيدًا إلى الشواهد".
ووفق ما تشير إليه الدراسة من تأكيد أن الانقراض الجماعي يمكن أن يُعزى بشكل مباشر إلى نقص الأكسجين، وارتفاع درجات حرارة المياه وتحمُّضها، يجب أن نأخذ في الحسبان احتمالية وقوع أزمة مناخية في المستقبل، قد تكون سببًا لوقوع انقراض جديد على المدى البعيد، ولعل المحزن في الأمر هنا هو أننا نحن البشر سنكون ضمن الكائنات الحية المعرضة للانقراض.
الماضي مفتاح الحاضر
"المتأمل للتاريخ الجيولوجي لكوكب الأرض يجد فيه نوعًا من التكرار، فمن خلال أحداث الماضي نستطيع فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل"، وفق سناء السيد، ومن جانبه يرى "فوستر" أنه بالنظر إلى ما حدث في الأزمنة السحيقة للحياة على الأرض، فإن آليات الاحتباس الحراري الذي نعيشه الآن يمكن أن تهدد النظم البيئية البحرية في مستقبلنا القريب، إذا استمرت كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة إلى الغلاف الجوي للأرض في الزيادة بسرعة".
يأمل "فوستر" وفريقه تطوير خوارزمية تمكِّنهم من التنبؤ بمصير الكائنات الحية خلال العصر الحالي.
تقول "السيد": "إن للتغيرات المناخية عواقب وخيمة لا شك فيها، وكتاب الحياة على الأرض مليء بالعبرات لمَن يتعظ"، وتضيف: "إن ما نراه الآن من احتباس حراري وتغيرات بيئية هو نتاج زيادة درجات الحرارة بدرجة مئوية واحدة، ورغم ذلك فإن له تأثيرًا على توزيع مصائد الأسماك حول العالم، فعلى سبيل المثال، لو غيرت سمكة التونة مسار هجرتها واتجهت شمالًا أو جنوبًا عن مسارها الطبيعي لتغيرت بالتبعية خريطة مصائد الأسماك على مستوى دول العالم، ولتأثر اقتصاد الكثير من الدول، وهذا مثال بسيط لكيفية تأثير عامل واحد، وهو درجة الحرارة، على نوع واحد من الكائنات، وهو الأسماك".
وتنصح "السيد": "يجب أن نعي نحن البشر دورنا الحقيقي في سلسلة الحياة على الأرض، كنوع من الكائنات الحية التي تعيش بين ملايين الكائنات التي تحيا على سطح الأرض، نتشارك معها في البيئة نفسها والمناخ نفسه، يجب أن نشعر بالمسؤولية لكوننا نحن الكائنات العاقلة التي تحكم الكوكب، ونتخذ كل الاحتياطات اللازمة في الحفاظ على مختلِف البيئات