صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 11 إلى 14 من 14
الموضوع:

أمي من فريق الأطرش - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 103 المشاهدات : 1037 الردود: 13
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #11
    مراقبة
    سيدة صغيرة الحجم
    تاريخ التسجيل: September-2016
    الدولة: Qatif ، Al-Awamiya
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 23,190 المواضيع: 8,329
    صوتيات: 139 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 28560
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: القراءة والطيور والنباتات والعملات
    أكلتي المفضلة: بحاري دجاج ،، صالونة سمك
    موبايلي: Galaxy Note 20. 5G
    آخر نشاط: منذ دقيقة واحدة
    مقالات المدونة: 1
    أمي من فريق الأطرش «9»

    سيمفونية الطبيعة أيقظتني من سبات الليل، زقزقة عصافير وصياح ديكة، أتمدد على المنام مثل قطة منتشية من الرقاد، أبصرت نجمة سهيل تبرق من بعيد، هبات نسايم صيف تنعش الحواس، فجر جديد يطل على فريق الأطرش، بهجة أنفس وأجساد تتنفس
    .
    ناداني خالي، ”ياالله ولد اختي بعد الريوگ نروح للمعامرة ونشد العدة على الحماره ونحمل المراحل في الگاري ونتوجه شرقا“.
    فطورنا عصيدة معدودة بالدبس ومبللة بالدهن مع حليب طازج تأتي به جدتي من أبقارهم المجاورات معهم سكنا، مشروب دافئ مطيب بالهيل، ورشفاته متعة لا تضاهى. أمي العودة تصحو قبل أذان الفجر لإعداد الفطور، طقس تؤديه نسوة الفريق بمتعة غامرة.
    عمي محمد حسين سالم زوج جدتي يسعل ويردد آيات الاستغفار، أولاده جاسم وعباس مسترخيان تحت العريش المكشوف على الجهات الأربع، يتحدثان مع خالي حسين بصوت خفيض، نداوة الصبح مع ”گرگعة“ النارجيلة وفناجين القهوة نغمات إلفة والموقد اشتعال لمّة، بعض كلامهم مؤجز أنباء يدور في فلك الزرع وخططهم اليومية ومستجدات أحوال الأهل والجيران وتصاريف الزمان، تلهج السنتهم بالبسملة والحمدلة والهيللة والحوقلة والسبحلة والمشألة، أحيانا ”يوشوشون“ بعضهم بهدوء تام، وكأنهم لا يتكلمون، فجأة ينفجرون ضحكا، وأُقهقه معهم دون معرفتي سبب ضحكهم، وجوههم طلقة، والتوكل على الله مصدر قوة، شحذ همم لبدء يوم جديد.
    خرجنا من البيت وعبرنا الدروب الندية بين بيوت العشيش، حراك أرجل مستنفرة، نفوس ماضية للحقول منذ تباشير الصبح، تصبيحات لا تنقطع كل بإزاره يرفل
    ، ”صبحك الله بالخير أبو عباس“، ”صبحك وربحك يا أبو جاسم“ إيقاع المشي حماس صدى والخطوات آمال معقودة، ثمة نسوة غاديات للعيون، يتهامسن وسط ”الأردية والمشامر“ والشمس لم تشرق بعد، تغريدات الطيور لغة وتسبيح، تحليق مبكر للبحث عن الزاد، كل يسعى لقوت يومه وعياله، ورقصات المناجل تحية عشق في أيدي رجال جبلوا على تقديس العمل، متيمون بحب الأرض، والثمر سنابل خير للمخلصين.
    وصلنا لحقل عمي ”لفليه“ وخيوط الشمس الذهبية تتسلل من بين سعفات النخيل، جو مشرق بالفرح غامر بالبهجة والانشراح، الجدوع والعذوق والأغصان تتفتق نظارة، تنساب عليها حبيبات الندى، الزرع يتبسم صبحا كأنه يرد التحية لأصحابه، أصوات البلابل تطرب النفس، ثمار ملقاة على امتداد العشب، رطب ولوز وجيمبو وتين، نخل زاخر بالخيرات، أن تعيش في ربى الطبيعة فالعافية لباسك والطيبة طبعك.
    جمعنا صرات البقل والفجل والفرفخ والحندبان، رتبناهم في ”المراحل“ وغطيناهم بالخيش المشبع بالماء، ووضعناهم داخل صندوق ”الگاري“، انطلقت مع خالي تقودنا الحمارة عابرين دروب ”المعامير“ المتعرجة، مررنا بجبلة ”العگير“ التي يفوح منها رائحة اللحم المشوي، أدخنة تتصاعد من سفحها وتعرجات أرضها المائلة سوادا ورمادا، اشتعالات نار في جثث حيوانات لم تزل تحترق، تحوم حولها كلاب تلعب بانيابها، قال لي خالي: هنا مستقر الدواب الميتة بفعل هرم أو مرض، هذه مقبرة الحيوانات، سألت خالي: لماذا لا يتم دفنها في حفر، منظر الحرق مؤلم وأيضا الروائح كريهة تزكم الأنوف، قال: النار أسرع في تحلل الجسد فيصبح رمادا بينما حفر القبور مضن بحجم الأجساد الضخمة، إلا من عزت عليه بقرة حلوب، إذا جاء أجلها أكرمها صاحبها دفنا في جوف التراب.
    منظر جبلة لعگير من كثرة اشتعالات النار التي تنهش أجساد البهائم الميتة تحسب المكان كأنه ”مقبرة هندوسية“ تلك ديانة تؤمن بحرق الانسان الميت، لاعتقادهم أن حرق الموتى سيحرق معهم خطاياهم، وتصاعد الدخان من الجسد هو بمثابة الخلاص، والنار المطهر النهائي للروح، لتصعد للآلهة وقد تخلصت من الذنوب والخطايا! معتقد راسخ منذ آلاف السنين ولم يتبدل برغم غالبية شعوب الأرض بجميع دياناتها وحتى الوثنيون في أدغال افريقيا يدفنون موتاهم، عقائد بعض الديانات تتغلب على كل منطق.
    بعد أن اجتزنا مساحة العگير قليلا، نظرنا يجول في الناحية اليسرى، لنخل طويل يسمى ”الريملات“ ومسجده الذي يسمى بأسمه، مبنى صغير تحسبه دارا إلا من محرابه وهو العلامة الوحيدة التي تبين بأنه مكان عبادة، مسجد بني من أجل العابرين الذين تدركهم الصلاة، سواء كانوا متجهين شرقا أو غربا وبالعكس، وفي نفس الوقت موقعه يتوسط شارعين يؤديان بتجاه الشمال الشرقي إلى منطقة الزور الوادعة.
    خالي يشير إلى نخل ”الحياله“ الذي قام عليه عمنا منذ زمن، يقع شمال نخل لحليبي يفصلهم الشارع وشرقيه نخل أم الوغل، انعطفنا جنوبا ثم شرقا وعن يميننا ”نخل أم چلوه“ شمال مقبرة المصلى، خطوات وواجهنا شرقا ”نخل الوزارة“ الممتد طولا، وعلى ناصية الدرب رأيت أول شخص أشاهده في حياتي يذاكر دروسه بين الزروع، ناديته من فوق مستراح الگاري قواك الله يا جاسم الحداد «سهوان» رمقنا بنظرة خاطفة وأعاد بصره في الكتاب ملوحا بيده دون كلام، قلت لخالي هذا بيتهم على سفح قصر تاروت من الجهة الجنوبية، - احد الشخصيات البارعة في تاروت - أخبرني خالي ”هذا أبوه يمتهن الحدادة مع أعمامه أبو عبد وحسن، لكن توفي أبوه“ الگيضية ”اللي راحت «1969» وبقي الاثنان يمارسان المهنة يساعدهما أحيانا أولاد أبو عبد، عبد الحسين وسعيد، هو الدكان الوحيد وسط سوق تاروت، شغلتهم واجد متعبة، تبغى اليها قوة عضلات، أصوات المطارق على الحديد تعور الرأس، وشرر النار المتطاير مثل الچي على أياديهم، بس نافعين الناس، نشتري من عندهم المحاش والمناجل والمناچس، والقدوم، وحتى السكاكين، ويعملوا سواطير القصابين، ومسامير الدرايش واللنجات والگواري ورمانات الأبواب“.
    وأكملت تفاخرا حسب تعاملي البسيط مع دكان الحداد ”وبعد أبو عبد يحط في دوامتنا كاور طويل مسنن حتى نشلف بها دومات الأصحاب اللي نغلبهم، ويسوي لينا بعد حنية الفخ بأربعة قروش“، بالفعل أبو عبد صانع ماهر وفنان وأستاد في مهنته، كان دكانه مقصدا لكل سكان الجزيرة.
    واصلنا المسير وخالي يربت على رقبة الحماره بالخيزرانة لتتجه نحو الدرب المراد، ويدندن ”لا لا يالخزرانه أهل الهوى ميلوكي، لا لا وان ميلوكي مالت الروح معاكي“ اقتربنا على مشارف مقصدنا، نزل غافية على امتداد البحر، ومنارة بيضاء منتصبة شموخا، اطارات الگاري وأرجل الحمار تخوضان في مياه
    مستنقعات راكدة ونبات الأسل يغطي مساحة شاسعة، برية مكشوفة إلا من نخيلات متفرقات، واحدة منهن يتدلى من سعفها خيوط وقطع أقمشة ملونة، هاقد وصلنا السنابس، ودخلناها عند مكان توديع الحجاج والمسافرين للديار المقدسة، سرنا شمالا ونصيح بالطرقات الترابية، ”بقل، رويد، فرفخ حندبان“، بين مناداة وأخرى تفتح أبواب البيوت، يخرج أطفال وتأتي نسوة، تتبادل الأيدي البيع والشراء، صرة صرتين، ثلاث، نضع قرش وقرشين في ”چيسة“ قماشية صغيرة، درعنا أغلب الدروب من الشمال إلى الجنوب، وكلما مررنا بمنعطف أو زاوية منزل، يوافيني خالي بمعلومة، فأنظر للأمكنة التي كونت لديه ذكرى بعين مختلفة، يشير بإصبعه هذه بناية الأسود ”هنا يا ولد اختي أول مرة أشوف دختور في حياتي وعمري خمس سنين كنت مريض بلگزوزو، وعالجني الذيباني وهذا أول دختور في السنابس، بعد ما ضربني لبراه تعفرت كنت أنا ويا أمي، جايين مشي، لكن رجعتي مانا عارف أحرك ارجولي متسودن، وأُمي ما هي قادره تخفني من فقلي لأني كنت دبه“ مقاربات المشهد 1959م، وأشار خالي بأن دكتور آخر نافس الذيباني وهو أبو أيوب وأيضا تذكر والدتي بأن هناك دكتور ثالث وحسب قولها ”دختور اسمه أبو فيصل، إذا جاء بيضرب يد أي مره لازم يلبسها چيس حتى لايشوفها ولا يلمسها“!
    بدأت الشمس تسخن ونحن نصيح «بقل رويد»، ووصلنا إلى وسط السنابس وقال خالي ”شفت هذه الدار المبنية ليست سكنا إنما تسمى“ عين السيف ”مقسومة
    نصين قسم للرجال وقسم للنساء، هذه عين مطلعتنها المكينة الجداحة“.
    رديت على خالي ”علمتني أمي عنها تقول إذا جت السنابس وراحت ويا أُمي العودة يزوروا بيت عمتها رضوية مرة علي بن عيسى فردان كانت ”تروي“ وياهم من عين السيف وعمرها تقريبا تسع سنين ”، رد خالي“ هذا صحيح أذكر جيتي ويا أمك العودة وخالتك زليخة كنت بعدني فريخ، نزور بنات عماتنا رضيوه وأم جاسم العبادي، والطريق مو بعيد من بيت بت عمتنا رضيوه إلى العين بس خمس دقائق مشي، هذا يا ولد اختي ما هو شيء قدام اللي بعلمك عنه، قبل لا يطلعوا عين السيف عن كلام أمك العودة، كانت نسوان وفتايا السنابس يطلعوا من غيشة الصبح ويدگوا مشوار مشي إلى وينه؟ إلى عين العودة عند قصر تاروت حتى يرووا الماي وكل وحدة على چتفها بغله - آنية فخارية - أو فنتين متروسات ماي ما يجوا إلا هم هلكانين وعلى رأسهم نقلة فياب، وكل يوم على هالحال رايحين وجايين، حياة نسوان ديك لسنين شقى في شقى، مساكين وحدههم جدلوا الماي من دون لرجال لأن عين العودة ما يوردوها إلا النسوان“ لسنين خلت أخبرتني أمي وجدتي عن حكايا جلب الماء!

  2. #12
    مراقبة
    سيدة صغيرة الحجم
    أمي من فريق الأطرش (10)


    أجول بالنظر في رابعة النهار، مفتونًا بامتدادات البحر، مراكب صيد منثورة على الساحل، تتراقص الموجات بإيقاع متواصل، ترتطم بجدران المنازل، رشات مالحة تدخل عنوة عبر الأبواب والنوافذ، وقفت مبهورًا بينما خالي يراقبني بابتسام، بللت أقدامي فانتشيت، أطفال يصطادون الأسماك الصغيرة والنوارس، فتنة مشهد غمرتني بوشائج الأمنيات، يرتد طرفي برمشة حلم، فأصبت بلهفة ظمأ، يا ليت بيتنا بجوار اللازورد. أدركنا العطش من شدة الحر والتحريج على بضاعتنا الخضراء، ارتشفنا بملء كفوفنا من عين السيف.
    قال خالي: كم صرة بقيت في المراحل؟ أجبته صرتان! ناديت: “بقل ورويد آخر حبتين، حياكم يا أجاويد “. خرجت امرأة من بيت العشيش (كبر) ترتدي ثوبًا هاشميًا يتدلي من على رأسها “مشمر” مشجر، وفي يديها حبات أرز، تلوك لسانها من بقايا أكل، أدركت أنها “فزّت” من سفرة الغداء، وأتت إلينا مسرعة، ناولتها آخر صرتين عند ظل الباب، فأعطتني قرشين رائحتهما سمك مشوي، وقالت: “لو كان غدانا فيه اشوية لجبت ليكم صحن عيش، أنت من وينه يا ولدي”، أجبتها “من تاروت وذاك خالي من فريق الأطرش، أبيع وياه في عطلة المدرسة”.
    “الله يبلغ أمميمتك في عرسك، وإن شاء الله تكون مريتك من السنابس”! كنت أنظر لوجهها المتهلل حنانًا ومن خلفها منارة شيخ محمد بلونها الأبيض شامخة في السماء، عبارتها مألوفة تسري على الألسن “الله يعرسك” تتقاطع مع جملة (قواك الله)، لكن صدى كلماتها تتناهى ترددًا لمسجد يوجب الدعوات عفوًا أو قصدًا، والظهيرة هجعة المتعبين المأخوذين بالنذور، دعوة تلك المرأة لم تخب، فبعد عشرين عاما مال قلبي شرقًا تاركًا كل الجهات، شريكة حياتي بيتهم على بعد خطوات من عين السيف وزمن القول كانت هي في عالم الذر، وحسب كلام عمتي أثناء الخطبة “بنتي محتركة في وجهك”. خالي يولع سيجارة وينفثها غناء “أربع وستين أخضر مرني في طريق الخرج محبوبي معاه، نور عيني لمن شافني تستر بالعباءة واستحى مني”، أغنية حجاب مبعثها البشتخته القديمة، قفلنا راجعين بعد يوم معبأ بالذكريات العطرة، سردت مشاهداتي لوالدتي مريم وهي تهز رأسها بامتنان ثم فاضت بالكلام وجعلتني أرى السنابس وكأني لم أرها بعيني العابرة. أجابتني باستئناس عن أمنيتي المفضلة حسب رؤياي ليت بيتنا يطل على البحر وأن يكون فريق الأطرش على مرمى حجر.
    بيّنت لي أن أماني الحالمين لم تكن بعيدة، فقد تحققت لأناس من تاروت بارتحالهم للسنابس، وذكرت تحديدًا العوائل التي انتقلت من الديرة وسكنت السنابس:
    * عائلة دغام مع(عائلة آل جبران التي سكنت الربيعية) كانوا جيرانًا، ونازلين مكان بيت عمك عبدالرسول الحالي “بيوتهم من جريد النخيل”.
    * عائلة المؤمن.
    * عائلة حجي عبدالله السني.
    * عائلة آل تركي.
    * عائلة الكواي.
    * عائلة البحارنه.

    * عائلة مغيزل.
    * والشيخ على بن يحي.
    * عائلة آل جابر.
    وهناك عوائل أخرى من أرض الجبل والخارجية والقاطنون وسط النخيل؛ عائلة الكرانات وآل طلاق، وقنمبر والجنوبي، وعند نهاية الستينات وعلى مدى ثلاثة عقود لحقت بهم أيضًا عوائل أخرى، الظريف، والحماقي، وآل عمران وغيرهم.
    طاب لوالدتي أثناء سرد ذكرياتها التوقف عند آل جابر بحكم القرابة، بأن العائلة أغلبها كانت تسكن تاروت، قبل الارتحال من منطقة الديرة، فقد قسموا بيتهم إلى قسمين؛ القسم الشرقي بقي فيه المحسن بن جابر المختص بحسونة الشياب، والجزء الغربي اشتراه الحاج عبدالكاظم والد ملا عبدالرسول البصاره.
    واستشهدت أمي بكلام والدتها “أمي تعلمنا، تقول الناس: هذا بن جابر بهيم مخلي الديره سلطانية، تحتها السوق وتحتها العين ورايح يسكن في وينه، يسكن في السنابس البعيدة، أيه ما يدرون عن الدنيا ويش بتصير تالي”! كلام أمي يأخذ مداه عبر منحنيات ذكرياتها في عهد الصبا، ابتدأ من منازل أقاربها، ومعارف جدتي، بوصف الأمكنة والناس، فيض شوق واستئناس لوجوه الغبطة، قبلات معطرة برائحة المشموم.
    أستجمع صور مشاهداتها بشكل مكثف برسم تجليات الحنين وألق الأمس. بتوصية من جدي محمد هبوب، بعد ولادة أي بقرة يمتلكها ضمن حظيرة بيته المسورة بالسعف وسط نخل “عين خشار” – إحدى مزارع الجهة الجنوبية لفريق الأطرش – أن تكون السحبات الأولية حليبًا ولبنًا سهما لبنات أخته الساكنات في السنابس. يا له من صدر ممتلئ لبقرة تسر الناظرين ترعى وسط العشب الأخضر، فمن حملها إلى حين ولادتها وإرضاع صغيرها، يكون ضرعها مكتنزًا يدر حليبًا متزايدًا قوامه الكثافة والسمن، هو الأفضل والأشهى والأجود، تتباهى جدتي أثناء الحلب “ويش حلاوة حليبة بقرة الوالد دسمة عدل عدل، وإذا خضينها واستوت، شوف اللبنة تصير شيرازة فيها للبا غزوز”.
    تتوشح جدتي بردائها ذي الخطوط الحمراء وملفعها المطرز بالزري، ترسل “غضارة لبنة الوالد” هدية خاصة للقريبين من القلب، تتحرك شرقاً ترافقها أمي وخالتي آمنة التي تقول عن بيت بت عمتها “بنروح بيت أبونا الفاني” -من كثرة زياراتهم وألفتهم لأهل البيت وحوش الدار- يتحركن صبحًا حاملات على رؤوسهن خيرات النخل من رطب ولوز وموز وتين ورمان، ومنتوجات البقر، يقطعن الدروب الترابية، المؤنسة بفعل حركة “المشاية”
    من نساء ورجال.
    وبعد أن تتوارى النخيل خلف ظهورهن تمامًا وتحديدًا عند “المسطح” أو الرملة شرق مقبرة المصلى ببضعة أمتار، تؤشر جدتي “داكيه بانت لينا السنابس” لتهون على بناتها طول المشوار وعبء حمولة الرأس وثقل سلال الأيدي، الباقي على وصولهن كيلو واحد، يقطعن الدرب سوالف وحكايا.
    حين يصلن إلى بيت علي بن عيسى فردان، يطرقن الباب وكل واحدة تسمع أنفاس الأخرى، تفتح لهن “ارضيوه” قلبها وتستقبلهن بصوتها الحنون “هله هله، هله بهالقبال” تطرح من على رأس جدتي “صفرية اللبن” وتأخذ “الگفيف” المليء بالثمار، كلمات الحنين المتبادلة تتصاعد من “حوش البيت” قبلات وحضنات لخالتي وأمي “هله بريحة خالي الغالي”، تحيات وترحيب يثلج صدورهن مثل ماء ورد ينساب على الوجوه، تقول أمي مريم “هذه ارضيوه اتعلقت بابوي، وهو يحب بنات أخته واجد كأنهن بناته، وقبل لا يجيبوني، كان أبوي ويا عماتي ساكنين في نخل السعلول” -يقع ضمن المزارع الممتدة على طول طريق تاروت القطيف القديم، غرب سوق الخضار- جدتي وارضيوه تبحران عن أحوال الأهل والخلان، تطويان الوقت ودّا ومحبة، جلسة مسرة وفزعة لتحضير الغداء، فرحة وردحة الصغار مثل رقصة عصافير على أغصان الشجر، تلعب أمي وخالتي برفقة بنات ارضيوه نصره ومدينه، ويتساعدن ذهابًا برفقة الأمهات لجلب الماء من عين السيف، جمال البحر ينعكس القا على وجوههن، وماية لهلال تسحب إلى الداخل متجاوزة حدود العين، تؤشر ارضيوه “هذي سنابيك لعائلة الضامن واللي جنبها آل حبيب وعليوات وفي الجنوب للكواي، وشماليهم لعائلة المبشر” ثمة بحارة عند السفن في حراك مستمر نزولًا وصعودًا، سفن أخرى سافرت منذ بداية الصيف للبحث عن اللؤلؤ، تنشد أمي العودة وهن حاملات على رؤوسهن شربات الماء ” أم الغنايم رقيوها على السيف، فيها اصبيان تجر المياديف، يا نوخذاهم لاطول عليهم، احبال الغوص قصص ايديهم، أم الحصم فيها براد وراحة، وفيب شيل ومرقد البراحة”.
    تنبهر والدتي مريم من حفاوة بنت عمتها وتقول: “أحبها واجد واجد، رضيوه المخشوش والمضموم تطلعه، ما تخلي شيئًا عندها إلا تقسمه علينا، ديك اليوم بطلت كبتها، ترست گفه، چده متروسه حلاوة على كل رنگ، أقول من وين جمعته، أيه رضيوه عندها صدقان واجد الكل ايحبها “.
    ثمة قلوب تفيض محبة تأسر الجميع. عند الأوليين زيارات الأهل تسري كجري الدماء في العروق، تواصل جدتي طرق بيت بت عمة والدتي أم جاسم العبادي وسلام وتحية لزوجة طاهر الزريقي، أقارب أعزاء وصلة الأرحام توصية ربانية وهمزة الوصل هدايا معنوية وحسية والأرواح جنود مجندة.
    نسائم البحر تأخذ جدتي وبناتها من وسط السنابس إلى شماله، قاصدة نزل

    إحدى قريباتها العزيزات على قلبها، تطرق بابًا خشبيًا لسور طويل مبني من السعف، تهمس جدتي لبناتها، سوف ترون أجمل بستان في السنابس، فتح الباب وفي الاستقبال “العبودة بنت حسين بن رضوان” وبالأحضان مع أمي العودة، “جدتي تقول: هله يا بت عمتي، وهذه ترد هله يا بنت خالي، ايلاوش مكلفة على روحك بالدهنه وصفرية اللبن وحاملتنها من فريق الأطرش إلى هنيه”، “تستاهلين كل خير يا بت عمتي”.
    حين مشين من الباب الرئيسي إلى مكان الجلسة وهو العريش، قطعن مسافة طويلة، إنهن في أرض واسعة خضراء، تتباهى بالنخيل والأشجار المثمرات، والسكن فقط دارين للنوم تكاد لا ترى من كثافة الزرع، تحسب جدتي المكان أنه إحدى مزارع شمال تاروت، كأن “معامرة” قطعت من معامير فريق الأطرش وأوتي بها لتسكن بجوار بحر سنابس، مزرعة عامرة بالخضروات والبطيخ والطماطم والكوسة والباذنجان وأشجار التين والرمان واللوز، ثمار تتوزع على سفرة الغداء، والسوالف متعة روح في حضرة الأهل وظلال النخل، هدير الموج يرسل سلامًا للمتولعين بحب الطبيعة، نوارس البحر تقول بأن ابن جابر كان ذكيًا، زرع أرضه الشاسعة طولًا وعرضًا بما لذ وطاب من اللون الأخضر وثمار الخير والبركة.
    هجر الديرة وترك ذاك المنزل الضيق وارتحل إلى مكان جعله رحيبًا ليس بمساحته الكبيرة إنما بخضرته المتنوعة الآسرة للقلب. كم خيل للمتفائلين أن مزارع النخيل سوف تزحف في كل الجهات وأنها ستغطي كل أجزاء جزيرة تاروت ولن يبقى للسكن محلًا. إيه على إحساسكم النبيل يا شباب الأمس حين كنتم ترسلون لأصدقائهم في الداخل أو الخارج، أثناء المعايدات بصوركم الشخصية، مرفقة بمنظر زراعي، ومذيّل (مع تحيات المخلص: …) من جزيرة تاروت الخضراء، كلمة صدق بخرتها الأيام في عصر الجفاف، وذهب الإخلاص مع من زرعوا وذيل السلام بـ”المسجات” المعلبة، تحايا لأماكن خاوية على عروشها، (صديقكم: …) من جزيرة تاروت الصحراء.
    أبدنا الزرع وقتلنا الشامخات انتقامًا لمن أخافونا منها ليلًا “نام لا تجيك أم الخضر والليف”. نمنا وصحينا ووجدنا مزارعنا أعجاز نخل خاوية. صوت ناي حزين يبثه الهندي الأحمر: “تتحجر قلوب الناس عندما يبتعدون عن الطبيعة

  3. #13
    مراقبة
    سيدة صغيرة الحجم
    أمي من فريق الاطرش «11»

    شاهدت صبية يمشون الهوينا، يتحركون خطوات على حافة الطريق الفاصل بين الخارجية وفريق الأطرش، يتسابقون دون عجلة فالسرعة سوف تطيح بهم أرضا، لأن الوقوف أو المشي يحتاج منهم لرشاقة وقدرة تحمل، لباسهم لافت يرتدون ”هاف وفانيلة“ ليس زيا رياضيا وإنما لباس داخلي، بعضهم متأزر بثوبه، يقهقون، يصفّقون، يلمزون بعضهم بعبارات استهزائية، ”يا أعوب ويش عرفك تمشي، خلي المشي إلى حسنوه، هذاك أحسن منكم كلكما، لو حاضر ويانا لشفتوا منه العجب ”، بعد لحظات وصل كأنه سمع نداء أصحابه، زاد الترحيب به، لشطارته في المشي بثبات وتوازن دون سقوط، تأزر بشد“ درّاعته ”عند خصره وانطلق مستعرضا أمام الجميع، يقف في مهابة، يمشي بمهارة، تصفيق موحد، وحده في الميدان يتنطط مشيا، مر عليهم حجي مهدي قائلا لهم:“ مشيكم هذا بيقلب مصارينكم، موزين ليكم أبدا، انتبهوا لا تزوعوا، ما ادري انتوا صايمين لو فاطرين“، لم يعيروه أي اهتمام، مشى عنهم مستنكرا لعدم تجاوبهم لنصيحته، إنهم فتية يتسابقون مشيا ليس على أرجلهم وإنما على أيديهم، بعضهم يقف لثوان ولا يتوازن فيهوي متمرغا بالتراب، وآخر يقف قليلا ويعتدل دون سقوط، ومن استطاع المشي قلة، كلما انتصبوا على كفوفهم لمدة ثوان أو بضع دقائق، يقولون: يا سلام صارت الدنيا مقلوبة!.

    تركتهم وذهبت إلى أمي العودة وفي وسط الحوش، حاولت أن أقلد ”لصبيان“ أكثر من مرة، بحماس أضع يدي أرضا وأدفع برجلي للأعلى في حركة خاطفة، بمجرد أن أرفع أقدامي أسقط حالا، ”أحطم“ يرتطم ظهري على الحصيرة وأترنح ألما، يحمرُّ وجهي من بؤس المحاولات وانتقاد جدتي وخالتي زليخة التي تناديني ”لا تعور اضلوعك ياولد اختي“، أوضحت لخالتي هدفي من الحركة، أريد أن أرى الدنيا كيف تصير مقلوبة! جاوبتني، ”نام على ظهرك فوق“ سجم ”أمك العودة وميل رأسك شويه إلى وراء، يعني رقبتك مندلعة على حافة المنام، يمكن تشوف الحوايج مقلوبة“، جربت لكني تزحلقت على رأسي من شدة تطرف أكتافي للأسفل، شعرت بالدوار، هدأت من عبثي، واسترحت بجوار جدتي وهي منهمكة في اعداد وجبة فطور رمضان، ممسكة بيد الرحى بحركة دائرية تطحن حبا، وخالتي تقلب ”خبز التاوه“ تساعدها خالتي زهره، ثم اتجهت للعجينة الطرية، تكور بأناملها كرات تسقطها في ”مگلاة“ الزيت، ”تشتشات“ لصنع اللگيمات وتقلبها بين وحين وآخر، وأول دفعة نضجت أستقبلها فمي ورحب بها بطني، وقبل أن أترك البيت متوجها إلى الديرة أعطتني جدتي صحن ”ساقو“ أحمله إلى أمي ليزين مائدة افطار يومنا الأخير من شهر رمضان، مشيت وطوال الدرب حاملا ”المشكاب“ براحة يدي اليمنى وأصابعي اليسرى ضاغطة على ”طباق صفرية“ غطاء له، وعند وصولي للمانعية، أصبح الشارع ضيقا بين بيت أبو علي العبداللطيف ودكان أبو فاضل الصديق، مالت كفوفي المشدودة التي تعبت من ثقل كتلة ”الساقو“ المشبعة بالدهن، فجأة تزحلقت من بين الصحن والغطاء وسقطت رأسا في ”المسگة“ التي تتوسط دربا غير مستو، نظرت اليها متأوها، تسمرت في مكاني لثوان مستغربا لضياع الأكلة السكرية الشبيهة بالحلوى، كنت أُمني النفس بمفاجأة أمي، كيف سيكون حالي حين أُقدم لها صحنا فارغا، مشيت بامتعاض وبمزاج متقلب، خطوات وشاهدت ابن عمتي محمد سليس أبو عبد الرسول في دكانه جالسا يتلو القرآن لا يرفع طرف عينيه للعابرين، يقابله مكان يجذبني كلما عبرت بجواره أقترب منه، وهو ”دكان العكاس“ استديو للتصوير الفوتوغرافي، لصاحبه علي مدن وهو أول استديو في جزيرة تاروت، لفتني أخوه حسن وهو يشمر عن ساعديه يهم بتصوير أحد الرجال وهو يعدل من هندامه أمام المرآة، وقفت برهة مندهشا لملامح وجوه الصور الموضوعة في المحل كأنها تحدق في الناظرين بتجهم، تساءلت في دخيلة نفسي كيف لهذه الكاميرا العجيبة القدرة على تصوير الأشياء والوجوه بالأبيض والأسود، ومن هو الجني الذي صنعها؟ أود لو أملك كاميرا لأصور كل ما تقع عليه عيناي، تحركت خطوات ومررت بدكان الحلاق عبد اللطيف المحاسنة ووجدته ممتلئا عن آخره، وبمسافة متر واحد ثمة نسوة جالسات عند عتبات دكان جمعية تاروت الخيرية ينتظرن مساعدة مالية بمناسبة قدوم العيد، محلات مزدحمة تضمهم عمارة أبو عبد العزيز العماني، وعن يساري التفت لرجل طاعن في السن منكبا على حفر زخرفة هندسية لباب خشبي جديد إنه الحاج محمد بن ابراهيم آل حسين، أمهر نجار في البلد فهو ليس نجارا عاديا إنما فنانا ونقاشا مبدعا، وعلى بعد خطوات دكان على بن رضي الصفار كاتب الخطابات والمعاريض للناس، وعند ناصية الشارع وقفت أنظر جنوبا رافعا بصري للأعلى فوق المبني وإذا به يضج بحركة غير عادية، عبرت ورجلاي تقوداني لدرج نادي المنار، صعدت وإذا بالخطاط والرسام عباس علي حسين محني الظهر على لافتة قماشية بيضاء يزينها بالورود بأحجام مختلفة، ورسومات من أخيه عبدالله، لشخصيات المسلسل الرمضاني أبو الفتح الأسكندري، انخطف بصري من خفة يد عباس في رسمه للورود الملونة والأغصان المتموجة، انبهار وأُمنية خفية، يا ليتني أكون مثله، قام عبدالله فسيل وسيد محمد فتح الله، بتعليق اللافتة على شرفة النادي، وفي المقابل صوب الجهة الشمالية للمنار يمينا ناحية الشرق يقع نادي النسر، وغربه نادي النصر كل منهما واضع لافتة قماشية ترحيبية بعيد الفطر المبارك لعام 1390 هجرية الموافق 1970 ميلادية، من دهشتي لما رأيته من رسم آسر، خطفني واستحوذ على حواسي نسيت حسرتي بانكباب كتلة ”الساقو“ التي غرقت في مجرى الماء، نزلت من النادي فرحا بما شاهدت ووصلت إلى أُمي بالصحن الفارغ لكن ذائقتي ممتلئة بالفن والألوان، بضع كلمات عتب سريعة من أمي دون توبيخ، ثم خرجت بعد لحظات ذاهبا لوسط السوق لأرى وضع اللافتات المعلقة على شرفات الأندية، لكن أبصرت أبوابهم مقفلة، كل يستعد لاقامة حفله الساهر بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، وقبل رفع الأذان بدقائق، ساد سكون مطبق، السوق باتت مقفرة، كل ملتم على سفرة الفطور مع عائلته، وقبل أن أتحرك رأيت شخصا اسمه «ت، ع، ح» يدنو من نادي النصر وهو يتلفت يمينا ويسارا مثل حركات سارق يريد أن يسطو على شيء بعيدا عن العيون، حين تأكد من خلو الشارع من المارة دس عودا داخل قفل الباب ثم كسره لكي لا يستطيع أحد اخراج ”الگشم“ لعبور المفتاح، حين رآني فجأة ارتبك، توجه لي وقال بنبرة تهديد ”إن علّمت يا ويلك، إن قلت لأحد ترى بقتلك“، طمأنته ثم انصرفت للبيت مدووشا بعض الشيء أفطرت مع أُمي وأبي، أخي عبد الحي لم يزل طفلا يحبو وصراخ أُختي فتحية الموضوعة على المنز أهزها لكي تغفو، لم أكترث بمائدة السفرة سوى بضع لقيمات مشبعة بالدبس، لأن بطني فائض من الأكل طوال النهار، فكري بات مشغولا بوضعية باب نادي النصر كأني أحد أعضائه، هممت بالخروج دون غسل يدي، وقال لي والدي ”وين رايح من الحين تو الناس“، قلت له ذاهب لمجلس بيت سليس، حجة للخروج سريعا إنما غايتي السوق، لأرى ماذا سيحدث، وقفت أراقب المشهد الذي يفصلني عنه الشارع العام لا أريد الاقتراب منهم لكي لا يراني الذي هدّدني ويعتقد أني أخبرتهم بشيء، قدم اثنان من شباب نادي النصر لفتح باب ناديهم، وهما عبدالله مطر وحسين اسماعيل ولحق بهم حبيب حمود، يحاولون ادخال المفتاح ولكن دون فائدة، ارتفعت أصواتهم صراخا وزعيقا، انفعلاتهم رجت السوق رجا، عصبية وغضب، تجمع آخرون من أعضاء النادي، حاولوا اخراج العود بسكين مقص الأظافر فلم يفلحوا، موقف لا يحسدون عليه، هل يخسرون حفلهم لهذه الليلة وكيف يعتذرون للضيوف المدعوين من شخصيات البلد، محسن المحسن بعضلاته ”دگدگ الباب ولم ينفتح“ وأخيرا قاموا برفع درفة الباب الحديد للأعلى فانفتح بعد عناء وتأخير وارتباك، دخلوا مسرعين لتجهيز حفلهم المسرحي المنوع، الولد الذي قام بكسر العود داخل القفل يكبرني بعامين، وهو من سكان منطقة الدشة الجنوبية، لماذا فعل ذلك؟ لأن جميع اخوته أعضاء في نادي المنار الرسمي بينما فريقي النصر والنسر ناديان من فرق الحواري يتلقيان الدعم والمساندة من تبرعات الأعضاء المنتسبين لكليهما. التنافس الرياضي مشوب بالغيرة والتخريب، بين أندية تاروت خلال عقد الستينات ومطلع السبعينات بلغ حد العداوة والخصام بين أولاد العم والخال. الذاكرة تموج بحراك أندية الأمس، ومواقف مليئة بمفارقات الحضور والغياب، سيكون البوح مفتوحا على مصراعيه في وقت ما وبكل التفاصيل.
    صباحا تحممت في ”الحلقوم“، حوض مستطيل يفيض من ماء عين العودة، ثم ألبستني أمي ثوبا جديدة وهي تردد اهزوجة شعبية، ”يالعايدوه.. يالعايدوه.. تحت في النخل عيدنا“.
    أتحرك بثوب من غير راحة، ليست مفصلة على مقاس جسمي، واسعة فضفاضة، فهي ”درّاعة جاهزة“ يشتريها أبي من بسطة أبو عبد الرؤوف الرويعي الكائنة عند طرف حمام تاروت من الجهة الشرقية، أخذ وقتا في تجريب أكثر من ثوب لتناسبني، تطول تقصر حسب ما هو متوفر، ليس لي من خيار، وعند الزيادة تكون ماكينة أمي جاهزة، لتطوي من ذيلها والأكمام، وسوف تفتح لاحقا كلما ازددت طولا، ثوب تلازمني أعواما كأنها صديق يأبى الخصام، لم أجرب لبس الثياب المفصلة إلا بعد أن شببت عن الطوق.
    كم شكوت حالي بين التأفف والتمني، لماذا ”چسوتي“ للعيد والمدرسة من الثياب الجاهزة ”المگرطسة“؟
    ويزيد حنقي حين يقودني والدي إلى المحسن بن جابر، وبرفضه طلبي المستميت بعدم ادخالي عند الحلاقين الحديثين سواء الأخوين الغرقان أو حجي مكي المحاسنة أو عبداللطيف، يتملكني غيض وحسد لأن زملائي يتباهون بترتيب شعرهم بواسطة الماكينة الكهربائية، يصفف شعرهم الحلاق حبيب ومنصور الغرقان، بقصة المودة، وإذا انتهوا يكونون أجمل، رأسهم معطر بالفودر ورائحة الكولونيا التي تفوح عند رقابهم والآذان، بينما ”كشتهم لگدام تغطي الجبهة“ يتباهون بمنظرهم، ويقولون شكلنا صار مثل البطل أحمد رمزي ورشدي أباظة. أنوح داخليا كلما جرجرني والدي عند بن جابر لنسف شعري عن آخره، تنهمر دموعي مع تساقط خصلات حريري الأسود الملون بقطرات الدم بفعل شفرة الموس الحادة، ينعم بن جابر صحراء رأسي بتوصية من أبي ”خلي رأس ولدي سليب ناعم سطيح، أبغى أشوف طاسة رأسه“ تلگ ”، حتى لا يقوم شعره بسرعة“ ويؤكد بن جابر، ”أنظف للولد، عن ابخار الشعر وحتى لا يجيه لا صيبان ولا قمل“، كل الكلام زنزنة على مخي دون اقتناع، أبلع لعابي بقهر وتبرق عيني بالدمع والعق مخاطي المتدلي على فتحة أنفي، وأسمع حشرجة الموس كلما اقترب عند اذني مثل حسحسة حشرة مؤذية لا أستطيع ردها إلا بتبليح جلد رأسي. ينظر أبي للولد الذي يترك قصته على جبهته بأنه ”دلوع“ بل يقزمه بكلمات ”فاهچ ومايع“ وفي نظره بأن تطويل الشعر زينة للنسوان، والرجل لا يتشبه بهن، زينته في عارضه المخنجر.
    حين أنتهي من ”التحسونة“ يكنس المحسن شعر رأسي المتناثر أرضا ويلقيه في ”تنكة الخمام“، هكذا كلما ”عشعش“ المنبوذ على رأسي هنا مصيره لا محال، أفر من على كرسي المحسن ساخطا متذمرا، وأرتمي في حمام تاروت ليبرد الماء جسمي المولع بحرارة القهر، لعل نفسيتي الممتلئة غيضا وحنقا تبرد قليلا، لكني أعيش أيام نكد حين يزفني أصحاب الفريق وهم يهتفون:
    ”اگرع گرنگع طاح في الطاسة صرخ على أمه يبغى گرطاسة“.

    أجري مغتاضا مكتوم الصرخة، أبثها شكوى عند أمي،
    فتداريني بوضع قحفية على رأسي. لكن أنيني الطفولي يتلاشى عند مشاهد البؤس، فكلما رأيت رجالا فقراء واضعين في راحة أيديهم قحفية يدورن بها وسط السوق، ”يقولون يا الله من مال الله، من عطى عطا نفسه“ وجوه مسبوغة بمسكنة وذلة، يتوسلون حفنة قروش ليسدوا جوع صغارهم، وذاك الذي يريد أن يكمل نصف دينه لا يملك مالا، يجمع له المحسنون ما تجود به أنفسهم ”فلان يستافوا له حتى يعرس“.
    وعند عتبات مسجد عين العودة رأيت أمرأة واقفة بولدها الصغير عريانا إلا من ”هاف“ ممزق يستر عورته، تطلب أن يتكرم أحد بشراء كسوة العيد له، وتقول: ”خذوا ثواب هاليتيم لا تكسروا خاطره في يوم العيد“، مناظر علمتني أن أكفّ عن الشكوى من وضعي وأن لا أتذمر من ثوب جاهزة طويلة كانت أم قصيرة، بما أن أبي قادر على شرائها وقتما يشاء، هناك المحرمون لم يلبسوا الجديد يمشون حفاة.
    أسأل أمي والدهشة تتملكني، لماذا أم فلان وأم فلانة تخدم في بيوت الناس، جائني الرد: هذي فقيرة أرملة ليس عندها حيلة إلا الخدمة، وتلك تركها زوجها معلقة تواجه مصيرها فذهبت تخدم حتى تشبع بطنها وتأخذ فتات الأكل إلى أطفالها. رأيتهن يمشين بأسمال الدراويش، مرقعة ثيابهم، بيوتهم من عشيش مهترءة، يغرقون عند مزنة مطر.
    عرفت باكرا ما هي الفطرة وتعطى لمن، وتساءلت لسنين عديدة لماذا ظلت عوائل تتوارث الفقر وعوائل تزداد غنا، وآخرون يتمددون مالا وبالملايين يتباهون بحجم ثرواتهم المكدسة في البنوك، صنف يعطي، وصنف يزاحم حتى صاحب الدخل المحدود في لقمة عيشه.
    يفعل المؤمنون بتقسيم الفطرة لمن يستحقها من الليل لتقديمها صبحية يوم العيد، التفت للوراء قبل 57 عاما حين سمعت بها لأول مرة، مرورا بكل السنين وتعاقب الرمضانيات، والى الآن المقتدرون لم يكفوا عن تقديم الفطرة لأنها واجب شرعي، لكن الصورة لم تتغير لم تقل أعداد المحتاجين لها، بل تكاثروا أضعافا مضاعفة
    ، هل القدر مرسوم لأناس كتبت عليهم المسكنة، نصيبهم الفقر وطلب المساعدة إلى ما لانهاية!
    الأرقام تخبرنا بأن اعدادهم في تصاعد يوما بعد يوم، وإن اختلفت حاجيات عصر عن عصر، المحصلة معاناة متجددة، لا يدرك حجمها إلا من خبر الجمعيات الخيرية عن كثب، سيلامس حجم البؤس التي تعيشه بعض العوائل من حالات الضيم والعوز.
    حاولت بالأمس يوم كنت صغيرا أن أقف على يدي لأرى الدنيا كيف تبدو مقلوبة، تلك شقاوة عابرة ورؤية حالمة، لكن مع مرور الوقت أدركت بأن الأمر لا يستدعي فعل ذلك، لأن الواقع أدهى وأمر، سائرون بملء السمع والبصر، نرى الشقاء يعصف بالقريبين منا والبعيدين عنا من شعوب أمة الإسلام، نفوس لم تزل تئن وترزح تحت خط الفقر، يأكلها الجوع والخوف والمرض والتشرد والضياع، يشتبك السؤال في حلق الجواب ويرتد ارتكاسا رأسا على عقب «لماذا الدنيا مقلوبة» بين بذخ وترف حد الغرور والطغيان، وفقر مدقع حد امتهان كرامة الإنسان!. اللهم إنا نسألك العغو والعافية وحسن الختام.
    قبلات حب في يوم العيد على جبينك يا أماه، خذيني لفيافي فريق الأطرش، عيديني يا أُماه بحكايا حالمة لأرى زمانكم الأجمل، لأسوح معكم بهجة العيد تحت ظلال معاميركم، أطربيني نشيدا مع بنات الفريق اللبسات بخانگ العيد وأنتن تتمرجحن بين النخيل: ”يا العايدوه.. يالعايدوه.. عيدنا تحت في النخل، يا من يبشرني عن الحجي دخل، وأدخل على مكة وأبرك ما دخل، أدخل على مكة وهز الراية، يا راية الخضراء ويلچساية، والعيد عيدنا شگگنا احجول، ويا راية الخضراء على الرمضاء اجول، ويالعايدوه.. يالعايدوه.. عيدنا وتحت في النخل عيدنا
    “.

  4. #14
    مراقبة
    سيدة صغيرة الحجم
    أمي من فريق الأطرش «12»

    أحاديث تتشعب وذاكرة أمي كنز ثمين، أتوه عبر الحكاية والأهزوجة وقصص الأولين، يتمدد الوقت لحياة لم أعش وقائعها، أراها بعيون أمي وجدتي وخالتي زليخة وخالي حسين.
    امتزاج مرئيات عاصروها وسمعوا عنها، تختلط فيها الأزمنة بالأمكنة، وبروق الأخيلة، أقف حيرانا بين المدرك وغير المعقول، لكني أستأنس سفرا للعوالم الخفية، وما وراء الظنون، أرتحل بلهفة والشوق عناق، والفضاء حنين، أُصافح كل من عاش على هذه الأرض بين الضني وارتحالات الأنين.
    حوارات متناثرة وصور متداخلة، مواقف منسية تنهض من مرقدها، مشاهد تقادم عهدها تحيا من جديد. بين التساؤلات والإستفسار والتصديق والتفنيد، باغتتني والدتي بجملة استفهامية وبنبرة استنكارية، «عجل ماتصدق بما جاء به القرآن»، أردّ عليها بهدوء وابتسام، مصدق بكل آية وحرف من كلام الله، وتوضح مستعوذة بالله «وأنه كان رجال من الإنس يعودون برجال من الجن فزادوهم رهقا»، وتضيف حسب المرويات المتداولة: ”ترى الجن يفهموا لحچينا ويعرفوا ويش نقول، من قبل كانوا يطلعوا شاهر ظاهر، وشافتهم أمي وناس واجد - شفتيهم يا أِماه - الله لا يراويني وياهم، احترزت منهم بقراءة المعوذات“، وأرد عليها باستدراج وإيغال في الاستيضاح بشيء لا يخلو من المشاكسة طمعا في سبر عوالم الجان في الذاكرة الشعبية ”أي وقت كانوا يطلعوا الجنانوه، النهار أم الليل، ومن الذي يحضر أكثر الجني لو الجنية، وكيف لبسهم مثلنا لو ما عليهم ستر“ زطيه ”، أحجامهم، أطول منا لو أقصر، أنحف لو أضخم، وكيف تتوالد هذه الكائنات الغامضة، وهل هم قبائل وشعوب، وما هي طبيعة الكلام الدائر بين الأنسي والجني، تهديد، تخويف، لو سوالف عادية“.

    توضح والدتي والأمنية تسبقني لو كنت أسترق السمع وهي تتحدث بين نسوة في عمرها مررن بذات اليقين لظفرت بسرد صور كالمرايا المتقابلة: ”يا ولدي، ترى الجن بعضهم يأذوا من يادم، ومنهم مسالمين وصنف رحمانيين، وفيهم اذكاره ونفيات، - من الذي أخبرك؟ - هذاهم يقولوا افلان متلبستنه جنية وين ما يروح كل وياه وتعلمه بأشياء قبل لا تصير، ويقول للناس بعد أيام بيصير شيء، كيت وكيت، وتالي يصير، ما أدري چيفه صار كلامه سطر المسطره، عجل ويش عرف ضرابين الفال عن أسرار افلان وفلتان، من علمهم، يقولوا عنهم يتواصلوا مع الجان، وملا فلان كان يحضر الجان في قدح ويستووا زي العصافير، چم مره فچوا گيد المتلبسين، وطلعوا من أجسادهم الجن، وديك فلانه المسكينه كانت تحب زوجها وعلى سفرة العشاء ضربت سنور أسود بالملاس وطفرته عشان ما يأكل اودامهم، لو فالته له سمچة صافية چان افتكت، أصبح الله الصباح انقلبت حياتها فوق حدر، صارت ماطيگ أحد، كرهت زوجها، وتخوبلت لأن السنور طلع مو حيوان، جني منقلب سنور، تزوجها غصب عنها وصادفها مصادف، وتحط ادست في أولادها، وتصورخ زي المجنونة الله يدفع البلاء، هذا من ويه كل من فعايل الجنانوه“!
    يلتبس التصور بالإيهام وحالات الهلوسة بالانفصام، أحدث نفسي بشيء من الهممة " عن صيغة عقد النكاح، من أين للجني لسان التخاطب، وكيف ينطق الجني بالعربية ويتحاور بكلامنا الدارج، معنى هذا بأن الجن يتقنون لغات عديدة بآلاف اللهجات المحلية، لأن كل بلد من أمم الأرض لديهم ميراث عن حكايا الجن، ثمة رؤى متباينة حتى في الكتب المقدسة عن تصورات الجن.
    أوضحت لوالدتي استغرابي عن أخبار الجن، فالكثير منها متشابه، والحكاية عينها قيلت في أماكن بعيدة بتفاصيلها، مما يعني نقل حوادث الجن بالمشافهة وتجييرها في مكان ما قد لا يكون حدثت فيه أصلا، والغريب اتهام الجن بأنهم وراء الفقر والعجز والصرع والجنون وقلة الحظ.
    ”بس يا أماه، الحين ما أشوف أحد يتكلم عن الجن مثل أول، هاجروا، لو اختفوا، وين راحوا، يمكن ما في شيء صار مجرد تخيلات، ورؤية أحلام، وربما“ أوادم تتخبز" تختفي وراء نخلة ويصدروا أصوات خشنة لتخويف الناس، ويقولوا سمعنا جني ليلة البارحة، قاطعتني: ”تبغى تقول لي بأن ما في جنانوه يطلعوا، لو أعلمك عن بعض بيوت في الديرة صفّرت من أهلها بسبب مراقص الجنانوه، بيوت حليوه انهجرت وصارت خرايب، وماتوا بعض أهلها بسببهم، مو قال قالوه، سمعت الحچي من اللي طفرتهم الجنانوه، ناس مؤمنة تحلف وتقسم بأنهم شافوهم، يتخاطروا عليهم أنصاص الليالي، ما يخلوهم يناموا من داك الونين والرديح ومراچخ البيبان والدرايش، الله يكفينا شرهم، ترى الجنانوه يمر على الناس ويشوفونا، وماحد يدري عنهم، لأنهم يتقلبوا على كل رنگ، سنانير، حماير، صخال، عواوي، طيور، شفت فلانه إذا دق عليها طيرها، يا غياث المستغيثين يبهدلها فوق حدر، تغيب وتحضر، ما تعرفها من هيه هالمره، تتغير ويتنفخ وجها وتتزير عافيتها ويزبد بوزها، الله يدفع البلاء، ما سمعت عن الجني اللي يطلع في البحر،“ أبو مغوي ”اللي يسبح في المگطع بين تاروت والقطيف قبل لا يستوي الجسر يزعق على الناس اللي رايحة وجاية، يقول ليهم تعالوا الدرب منيه، مو مناك، نيته يأخذهم للمكان الغزير يغرق قواريهم وعبراتهم في الخور، سوالف صارت واستوت من فعايل الجنانوه، أعوذ بالله من شر الإنس والجن، يمكن مو كلهم شر ولا كل بني آدم خير، والبلاء موجود في الافنين، يا ولدي اقرأ القرآن وادبر آياته، الجنانوه موجودين من خلقت الدنيا“.
    وبّخت نفسي لعدم مجادلة والدتي اثناء استرسالها في تقليب صفحات ذاكرتها المتموجة بالعجيب والغريب، ساعيا بكل حواسي والحماس لهفة أن تبوح لي بكل شيء، دوّنت وقائع ومشاهد غرائبية، جالت في نفوس حاصرها الخوف والموت.
    أستأنس بطيب الكلام مرات، ولحظات أتوجع، بل يغالب الحلو المر تارة، وأخرى العكس، يربكني سماع مشاهد مفجعة ليست من وحي الخيال إنما أشد من الخيال نفسه، عن أيام الضنك القابضة على مهجة الأرواح باحتسائها الفقر، سكارى لا يدري بهم أحد إلا من رقّ قلبه ودسّ لقمة لوجه الله، التضور جوعا آفة أكلت ماء الوجوه، نسوة لم يكذبهم البصر، وقفن أمام رسو محامل الغرباء يتسولن ”آنية وربية“ باذلال وامتهان كرامة و«..........». سوء المنظر لم يطمر تحت التراب نلقاه يتكرر في هذا الزمان المتوحش، مشردو الحروب والفارّين من البطش، الهائمون في دروب المنافي، والضائعون في الأزقة الخلفية والقابعون خلف الجدران المتصدعة
    .
    ينسلّ مشهد آخر أخبرتني به والداتي عن أمرأة لا تملك من اللباس إلا ثياب مهترئة بالية، تسحب رجليها إلى مغتسل المقبرة لتلتقط بقايا ملابس الموتى!! وحين ترتديهم، يسألها البعض، من أين لك هذا؟ أفصحت بصدق مشوب بالخجل، استنكروا مصافحتها هروبا من رائحة الموت، وتأوهوا لدخولها المكان بمفردها وعدم الخوف من ”ديدعة المغيسل“ المسماة ”شيبة“، قالت والخاطر مكسور، ”ويش أسوي الله يعلم بحالي ألبس فياب مفلتين حتى أستر عافيتي عن سموم الگيض ومرابعين لشتاء، لا أخو عندي ولا رجل يحميني، البين خطفهم وخلاني وحيدة وعندي كسكسة جهال“! كم من أنفس شبعت قهرا من ضيم الأيام. أحكّ رأسي متعجبا من هول ما أسمع، قالت والدتي: «الفقر وهذا ما يسوي».
    في سنين الضعف هبّت البطون لأكل الجراد والعصافير وجلد أرجل الدجاج، وطائر البحر ”اللّوه“ ودجاجة ”اعدى“ المتواجدة عند جداول الماء. الجوعى لا يجدون قطعة خبز، نقعوا خشوف الرطب ولحسوا ”ظروف التمر“ مع الأسف باتت الصورة اليوم معكوسة، أكداس أرغفة الخبز تلقى في حاوية القمامة!.
    تقول والدتي: ”الحمد لله، الحين الناس صارت بخير لكن قاموا يلعبوا بالنعمة، مادروا عن سنين الفقر ومصايبها“، يتدحرج الوعي ويغيب الفهم، وبخضة السؤال كطفل لا يعلم شيء أقول لوالدتي معقول كل هذا صار، ترد باختصار: ”ويش قال الإمام، - لو كان الفقر رجلا لقتلته - ما قالها منا والطريق“.
    ثمّة أشياء تتوارى عن البوح، والصمت لحظة استغفار، أستند على مسند التيه وأغفو لحظة، بقلب الصورة عبر «لو»، لولا قطرة البترول التي رحمت بنا، لبقي حالنا بين كرّ وفرّ، نتحسّب لعنات الفقر وهجمات البُداة
    .
    سنين العوز والقحط كوابيس جثمت على الصدور، أوجعت الضمائر وأدمت القلوب. لا تتكلم عن فلسفة التُقى والفضيلة طالما يتضوّر الجسد جوعا ويستأكل المحروم كسرة خبز.
    لفحة تذكير مثل رشحة ماء على وجهي الذي اكتساه غبار أوجاع المستضعفين، ”يا ولدي حين نتوجه إلى القبلة عند كل صلاة، ويش نقول: أعوذ بالله من الفقر ومن الشيطان الرجيم“، أول شيء الفقر، ومن بعده الشيطان ".
    استفسرت عن زمن لم أعشه إلا لماما، ما مقدار مساحة التباين، هل كل الناس كانوا فقراء وضعفاء، أجمعت الآراء، صنف أغنياء بتفاوت وصنف فقراء ومنهم المطحونين وما بينهم ميسوري الحال، البحارة والقائمين على الزراعة هم في نعمة وخير، وكل ذي صاحب حرفة يتحصل على قوت يومه، ولم تكن أي مهنة مشينة، هناك الرواي، والدلال، ومنظف الطرقات وجامع القاذورات ومستخرج فضلات الحمامات، ونسوة كافحن لجلب القرش، افترشن الطرقات لبيع السمك والريحان والخلال. برغم حالات الضنك وموجات العسر، ثمة قدر من التراحم بين الناس. إن كان الفقر هيمن سنينا فإن شيئا آخر يوازيه حضورا، تلك الأرواح الخفية. فقد نبذت أمي العودة، ”المنادبين“ خوفا من ”اسمله وبله“، ونجت صديقتها من هلاك ”أم الجزر“.
    بين الواقع والمتخيل وبين قسوة الحياة وشظف العيش المغموس بالجهد والمرض والفقد، ثمة تهيؤات تتراءى لهن كواقع معاش، حكايات مسرحها جدران البيوت العتيقة وظلمة غابات النخيل المعتمة، والمشي في دروب الليالي المقمرة، طائفة من صور ومشاهد معلقة على أستار الزمن لم تزل تحيا في الذاكرة، إحياؤها ليس ترفا إنما رسم معاناة الأسلاف، والاقتراب قدر الإمكان من حيوات قد تبدو مغيبة

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال