صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14
الموضوع:

أمي من فريق الأطرش

الزوار من محركات البحث: 99 المشاهدات : 997 الردود: 13
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    مراقبة
    ضوء أديسون
    تاريخ التسجيل: September-2016
    الدولة: Qatif ، Al-Awamiya
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 22,577 المواضيع: 8,066
    صوتيات: 139 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 27372
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: بيع كتب
    أكلتي المفضلة: بحاري دجاج ،، صالونة سمك
    موبايلي: Galaxy Note 20. 5G
    مقالات المدونة: 1

    أمي من فريق الأطرش

    أمي من فريق الأطرش «1»

    سلام عليكم أيها العابرون بين الدروب الظليلة، أيها الصاعدون جذوع النخل، يا أصحاب المناجل والسواعد المفتولة، سلام على جباهكم السمر التي لوحتها شموس ”الگيض“، تحايا عز لاجسادكم التي اعتجنت بطين الحرث وتشبعت بندى الورد، قبلات على هاماتكم العالية كما النخيل، تباركت خطواتكم الرادحة من غبشة الصبح إلى وقت المغيب، جسارة أقدامكم جدارة حياة مهرولة في كل المواسم.
    يا وجوه الخير، يا من شققتم الأرض شقا وأنبتم فيها بذور عطاء، ما أروع أناملكم المخضبة بالطلع وعبق الرياحين، تحايا حب بعدد غرسكم وألوان حصادكم، سلام عليكم يا رجال الأمس وسلام على أجسادكم المكافحة.
    ضمأ يشدني لشمال جزيرة تاروت لمنطقة شهيرة بزراعة الحشائش والخضار وحقول البطيخ والطماطم، حقول ممتدة إلى منطقة الجبال حتى تخوم البحر، أرض خصب ونماء، أنبتها المزارعون بأشجار النخيل والكنار والتين واللوز والموز والجيمبو والبمبر والرمان، أطياب ثمر ارتوت من نبع ”الركايا“ ودوران ”الجوازر“، والعيون الأرتوازية.
    منجل و”قدوم وصخين ومحش“ عدة عمل لرجال جابوا الأرض حرثا ونباتا وحصادا، صناديد لم يهزهم برد ولا ريح، ولم
    يقولوا أُف عن لحظة تعب ولم ينهرهم أحد، يفترشون السعف ويتوسدون الليف، يتنفسون اكسجين البساتين عطرا ويتوحدون مع كل غصن ونبتة، يراقبون مواقع النجوم ليستدلوا على دورة الفصول، وقياس ”الولمة“، وعلى مشارف المساقي و”اللبو“ انعكست صورهم وتسابقوا صعودا لفعل ”الترويس“ و”التنبيت“ قبل انشقاق عذوق النخلة، يستأنسون إلى اللفاف والتحدير.
    مشرئبة أعناقهم لشد الكر واحتضان جذع العمة، يداعبون ”شماريخ العذوق“ كصدر محبوبة مكتنز، أنأملهم تنتقي
    القطوف الدانية، يهبطون من عل وعلى الرأس ”مخرفة“، ملئ بالأحمر والأصفر، درجات ألوان تسر الناظرين، والمتساقط بني أو أسود، "صرام“ يلتقط فردة فردة، وآخر صعود التحدير“ لقص عذوق الرطب ”المتمر“، ينزل من عل بواسط حبل، وينشر في ”الفدا“ يكوم على السميم و”يچنز“ في ”القلات“، تنتظره الأسواق. جزء يرص على ”المسحة“ المبنية بالرماد المبلل «الطفو»، ذات أخاديد يتقطر عليها السائل الأسود وينساب في حفرة مبطنة، يغرف منها الدبس الغليظ ويوضع في أوان فخارية أو معدنية، كأنه عسل مصفى، يسكب على اللقيمات ويخلط مع البرنجوش والعصيد لذة للآكلين.
    الرطب أو التمر صنوان، آيات محكمات علت من شأنه وقدره، وأحاديث قيلت في حقه، وقصائد شعر تغزلت به، وبحوث ودراسات تحدثت عن فوائده ومزاياه، طعام الغني والفقير عبر الأزمنة، استقامت عليه أبدان وقوي عودها، درأ أقواما عن الجوع والفاقة.
    ما أسعد الفلاح حين يجمع حصاده، وجه مستبشر يلهج لسانه بالحمد والشكر: يا أيتها النخلة المباركة، أنت رفقيتنا من
    المهد إلى اللحد، كم نفوس فنيت وارتحلت، وأنت صامدة حية تعانقين عنان السماء.
    فلاحون صلبة أرجلهم درعوا الضواحي، لجزّ البقل والفجل والبصل و”القت“، يسبحون في مروج خضراء، متكئين بتحفز بين ربطة ”عقب“ لجعلها ”صرات“ تتجمع أكواما في جوف ”المرحلة“، تساق على الگاري لتحط رحلها في الأسواق ويطاف بها بين ازقة المنازل.
    تزدان مزارع كثيرة بحضيرة الأبقار والعجول، تعيش وتتزاوج في حضن الطبيعة وتتكاثر، وطعامها ”عومة وگت“ أنامل النساء حاضرة لمسك الضرع حلابة يومية، يقسم لحليب ولبن وسمن، منتج طازج لذة للشاربين
    .
    وخير معين للفلاح صلابة حمار يشد على ظهره القاري، للتحميل والمواصلات بين الغدو والرواح.
    إلفة حياة مجللة بالصلوات وتغريد الطيور، عيشة هنيئة بين ”طاسة“ لبن ورطب متنوع أشكاله وأحجامه وأسمائه ودرجات ألوانه.
    كل نخل يكنى باسم خاص به، والقواطع بينهما ليس إلا ”حضار“ من سعف حين يبلى، فالتداخل كثيف إلى حد التشابك من الصعب فرز كل نخل على حده، وحدهم الفلاحون يعرفون الفواصل والحدود من عداد الغرس وأسماء نوع نخلة ونخلة.
    فلاحون كلما غرسوا نبتا جديدا انبأتهم الأرض عن آثار لعهود سحيقة، من شدة سواعدهم في تقليب التربة هوت ”صخين“ على أوان فخارية وجرار صابونية، وتهشمت تماثيل بضربة فأس ومن سلم بيع بثمن بخس، غنمها أبو كبوس من وراء العيون، وقليل استوطن متاحفنا الوطنية.
    يا زروع يا أروع البساتين، يا معامير فريق الأطرش يا سحر العيون، جمالك فاتن بحسن بهاء، أنت أبعد من المرئي والمنظور، أنت أرض خصب وكنوز مخبأة
    .

  2. #2
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «2»

    فريق الأطرش مكان أثيري، تتزاحم فيه صور الماضي، وتختلط الذكريات، مشاهد عبقة لم تزل تحيا في الوجدان تنعش القلب وتأسر الحواس، معامير فريق الأطرش من أروع بساتين جزيرة تاروت، خضرتها متلونة بدرجات، وثمارها من كل
    صنف ولون، جذوع النخل منتصبة على مرمى البصر بعنفوان، مزروعة في خطوط مستقيمة ضمن مساحات متساوية، تعلوها ”جمارة“ متقدة يبرز من ”الفگر“ طلع نضيد، وينتشر سعفها نحو الجهات الست، يداعبها الريح كشعر فاتنة حسناء، كثافة وتشابك سعف بسعف، تراقص في مزاح، حفيف لا يهدأ يناغيه جوابا خرير متدفق من فوهات أنابيب العيون، ترتشف العصافير من ماء ”السمط“ المؤدي لسقي نباتات الضواحي، تسفق بجناحيها تمرجحا على الأغصان، وعند اطلالة الربيع تغرد البلابل برقصات التزاوج، عشق غرام مع هبات النسيم، تأتي الطيور الموسمية ومعها يحلو الحبال، أفخاخ الأولاد والشبان مدفونة تحت حفنة من تراب يبرز منها ”عنگوش“ طعم للأصرد والمدگي والحمامي والدمياني والشرياص والسمنة، أشكال طيور ذات أنغام وألوان، تجوب فضاء فريق الأطرش أسراب وأسراب، تحليقات رسل محبة وصفاء مودة لألفة مكان مفعم بسيمفونية الربيع.
    وبين المنظور الفاتن والمحسوس المدرك ثمة حكايات منسية لأحداث واقعية تقادم عهدها، مثقل بها بمعزة المتيم، والمتتبع لأثر من كبروا في السن ومن رحلوا، صورهم في القلب مشاهد حية، أصخت السمع كثيرا لمرويات أهلي وعنهم أنقل ما عاشوه زمنا قبل أن أخلق ويوم كنت صبيا.
    فريق الأطرش مهوى طفولتي وأحلى سني عمري، يأخذني حنين لتلك الأيام الخوالي و”براد لفاد“ هواء الشمال يناديني بصحبة خالي حسين هبوب وأبناء خالتي «الصفار» وأولاد خيلان والدتي «آل زرع» حيث يسكنون ويزرعون، أطياف بهجة وسط المعامير تلف كياني وتهزني هزا، ارتعشات مسرة والنعيم إسمه فريق الأطرش، قلبي يهف لمكان عزيز علي، فقد بارك ذلك النخل مقدم أمي مريم وشهد صرختها الأولى، أكلت من رطبه وخيراته وقوي عودها، وطاب لها المقام أربعة عشر ربيعا، وبعد عام زفت عروسا، أخذت طفلة من الجنائن النضرة إلى جوف الديرة المسورة.
    من كيانها تخلقت بإعلان أول حمل لها سنة 1960، وفي الشهر الخامس ذهبت لأداء فريضة الحج وزارت المصطفى
    ومقامات البقيع، وحلمت وهي بالمدينة المنورة بأنها سوف ترزق بولد، وحين لاحت بوادر أوجاع المخاض أسرعت عند أحضان أمها لتأنس عندها وتداريها «تعابيها» سعة من خدمة، أنجبتني على مسافة ليست بالبعيدة عن مكان ميلادها، وأسمتني عبد النبي لأن حلمها تحقق بجوار النبي، وبعد خمسة وعشرون يوما عادت لبيتنا المطل على قلعة تاروت تحملني رضيعا بين أدرعها، أبكي طوال درب المسير، ويتغير اسمي نتيجة اصرار أبي، استجابت أمي طوعا، وقبل أن تفطمني خرجنا من بيت العائلة القديم بسبب ضيق المكان، ودّعت أمي زوجة حميها عمي عبدالله، السيدة نجيبة الشبركة أم ميرزا شلي - عمة السيد عباس وماجد الشبركة - ووالدتها أم السيد أمين، ذهبنا إلى نزل بالإجار يدعى بيت لحسين، تماما مكان مقهى تاروت الشعبي حاليا عند مدخل الديرة من جهة السوق، وكلما حملت أمي ورزقت بمولود تأتي المصادفة بالانتقال إلى بيت آخر وبالإجار، انتقلنا إلى سبعة بيوتات وكلها داخل نطاق الديرة، فقط الأخير اصبح ملكا لنا في منطقة الحسينية، تماما يساوي عدد مرات حملها، أربعة أولاد وثلاث بنات! ولي أُخت أكبر مني اسمها «زهراء» من زوجة أبي القطيفية.
    تخبرني أمي بأني مشيت باكرا، لكنها تصر على حملي بعمر السنتين لمسافة كيلو متر سيرا على أقدامها لتحط رحلها شوقا إلى أمها ليلى أم علي.
    آه يا جدتي أيتها الفنانة في حياكة السراويل والبخانگ وتطريزات القحافي وبقشة التربة والمسابيح، وجهك مزدان بالبشرة وأناملك مستفزة لسف الخوص، أنست الوقت استثمارا في انتاج الحصر والسفرة، والگفيف والمراحل والزبيل، في حضنك سمعت سوالف الديدعات والعفاريت والجن، وكم أفرحتيني بدندنات الأهازيج والحكايات الشعبية، نافستك بنتك، والدتي مريم بسرد القصص ومواويل الأمس وترديد أنغام الطرب العراقي الأصيل من زهور حسين إلى حضيري أبو عزيز،
    التقطت تلك الأنغام وهي بعمر التاسعة، عبر راديو منتصب وسط بيت بت عمتها أم أحمد قاسمه «الخباز»، منزل عشيش في نخل لحبيبين، مكان جذب للنسوة حيث يحلو السهر على ضوء القمر والرفقة براءة عمر، أمي وخالتي زليخة تمسكان برداء أمهما بعد وجبة العشاء لتصحبهن عند جلسات سف الخوص وخياطة الملابس، صغيرات يقمن ”بتبكير لقداوة“ للأمهات وصب القهوة مع بنات خالها حجي حسن وحجي عبدالله آل زرع، والمكافأة الاستماع لأنغام المذياع الساحر وسط بيت قاسمه، تسابقن في ترديد الأغاني بشفافية الطفولة، ينشدنها وقت العصاري، واحدة تضرب بالملاس على صفرية وأخرى تنشد اللحن تقليدا، ”يا الله نغي أغنية زهور لا لا احضيري أحسن“، «عمي يبياع الورد گلي الورد بأيش.. قلي، بالك تدوس على الورد.. وتساوي خله.. خله، باچر يصير احساب يبه.. لله شتقله.. لله، والمر يا هالمخلوق ترى.. لاجله جرعته.. جرعته، مو كل ورد سموه ورد.. والريحة طيبة.. طيبة، يصير ورد مو خوش ورد.. رأسك يشيبه.. يشيبه، ورد زرعته خوش ورد.. بإيدي زرعته.. زرعته، من دجلة والفرات يبه.. ماي انا جبته.. جبته»
    .
    تتصاعد ضحكاتهن، وهن يصفقن الراح بالراح، تبرز أقمار وجوههن من بين تطريزات البخانق، مغردات كالطيور وسط خضرة غناء تحف بهن من كل الجهات، وجوه صبوحة بعمر الورد يأكلن ما تجود به الأرض، يتراقصن الحجلة والمخطة ويلعبن ”الخشيشو“ ويتلاقفن ”لحجيرات“، يدركن الوقت من تحرك ظلال النخيل وما بين لحظات الأصيل يرسمن أمانيهن دعاء أن يرزقهن الله عريسا غنيا ليحججهن ويزورهن عاما وكل عام، حراكهن بين الجد والمرح واللعب بشاير هناء وحب، يتسابقن سعادة بجلب الماي من نبع البساتين في شربات ومساخن فخارية، يمشين بين ”العانات والأسياب“ ونعومة العشب تداعب أقدامهن، وعلى صدورهن قلايد من خلال، يتمرجحن بحبل مشدود بين نخلة ونخلة، وينشدن «چيس ربابي في المخابي رنة حجول.. عريش مقابل الشمالي اسمع يا بلبول، طليت عليك يا حضرتي من دون لحضور.. رحت للمايه سگي ما صدت حاگول، عبود ولد عبد النبي يتغذى بحلى.. وديچ يزعگ في الحوي يا عيال عبود، عباس ساق حمارته يبغى المنامة.. شرطت عليه إمريته خذ لك عمامة، خذ لك اوزار مشخبطي حتى تصير حليو»، يتبادلن أدوار اللعب ”اني اني.. دوري دوري“ حبات رطب، تتساقط على رؤوسهن، يقضمن اللوز ويأخذن العنگيش بتلوين شفايفهن، ويقطفن، الرمان، ”هذه حالية لا.. هذه أحلى“ براءة لاهية في حضن جنائن فريق الأطرش الساحرة.
    التعديل الأخير تم بواسطة ❀ Bookworm ❀ ❦ ; 29/March/2022 الساعة 12:27 am

  3. #3
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «

    يا أيها الفرح الطامي خذني مرجوحة عشق لفيافي فريق الأطرش دلني على دروب أمي وجدتي وحبابتي، أطبق قدماي على آثار وقع خطاهن، أسمعني رنين ”حجول“ الكواحل، ارسمني براءة محيا، لأتحمم بعين ”امعيط وخشكار“، وأعدني ذكرى حلم عند ذاك النبع التي غسلت فيه أمي يداي وأقدامي من الحناء، وقالت: ”حليو.. صبغ حناك يا ولديفرحا بالعيد مذهولا باللون، أقلب كفي مرات وأتأمل باطن قدمي جلوسا، كأني أول مرة أتحسس أطراف جسدي. أقبل يوم العودة وعند طابور الصباح زفّني طلاب مدرسة عمر بن عبد العزيز الإبتدائية برحيمة، وعيروني ”شوف البنت متحنية“، عند الفسحة أتكوّم بثيابي كي أغطي أطراف قدمي ويدي، أسمعني الأستاذ صلاح نصيبا من تعليق، وعلى وقع رطانة لهجات فلسطينية وبدوية وتهامية ودعت رحيمة بعد سنتين دراسيتين، ظل أبي في دكانه من دوني، سجلني عمي عبد الرسول في رحاب مدرسة ”تاروت الابتدائية المعروفة ب“ الغالي ”لكن دون شهادة أو ملف يثبت بأني درست مسبقا، ملف جديد لطالب مستجد، بكيت، أمي بفيض حنانها احتوتني، نبضها يسري في عروقي حين يقبض كفها كفي، وتأخذني ارتحالا إلى ربوع فريق الأطرش، هناك ينتظرني الحنان الأكبر، أمي العودة، هكذا نناديها، حينما يحل المساء وتنحدر الشمس عند المغيب تشعل جدتي النار في الحطب لتجهيز وجبة العشاء، رز يطبخ في جوف قدر قديم، يداها تقلب السمك على“ المشواية ”، أمي الصغيرة تهم بالطلوع قبل حلول أذان المغرب، لكن رائحة الطبخ تسيل لعابي، جدال بين أمي وأمي وعطف الجدة على الحفيد كبير“ يا بتي هذا هو الرز يتنشف ولودام استوى خلي عبد يأكل له لقمة عن افاده ”وضعت الرز بعد أن تحسست نضجه“ چيلة ملاس في المشكاب ”امتلأ عن آخره، تحمله أمي عني ونحن نسير جنوبا نحو الديرة، منظري مضحك كالملهوف دون أدنى صبر، يدي ترمي الأكل جزء في فمي والباقي يتناثر في الطريق، أمي تسرعني مشيا قبل ازدياد حلكة الظلام وسط عتمة دروب النخيل، أفرغت الصحن عن آخره فأمسكت بالهيكل العظمي لسمكة الگرگفان، أتأمل الشكل العجيب والرأس المتيبس من شدة الشواء، وأقول في خاطري كانت سمكة تحيا في البحر حرة طليقة جاء الصياد وخطفها، حرمها من الحياة وفمي استقبلها بطشا بلحمها، أبلغت أمي بمشاعري وترد على كلامي برؤية أكبر من فهمي،“ وحللنا لكم صيد البر والبحر ”وأردفت بكلام أخافني“ إحنا إذا متنا وحطونا في القبر، الدود بياكلنا أكال ”، تصور سريالي فاق إدراكي، ألحس يدي من بقايا الطعام وأشعر بشيء من الخوف وتأنيب الضمير لكن بعد ماذا؟ بعد أن افترست لحم السمكة وتجشأت“ هيكل القيته في ”المسگه“ غير عابئ بأي شيء، عند حدود مدخل لنجيمة رفع الأذان، أمي ترسل دائما تنهدات في مثل هذا الوقت من كل يوم وتقول: ”يا دفاع النوايب يا كشاف الشدايد، إلهي ادفع البلاء والنوائب عني وعن ولدي وزوجي وعن أمي واخوتي وخواتي وجيراني وجميع المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، كل بلاء وكل نايبة من بلاوي الزمان“، دعاء تكرره أمي مع كل فريضة وزادت عليه بعد ان رُزقت بأولاد وبنات وأحفاد، حرز قلبي بطمأنينة نفس.
    صوت أمي والأمهات مساحة حنية لا حدود لها، ونبراتهن عند خطب ما تخلب الحواس، وأشد حزنا أنينهن عند العزايا موجع ومبكي.
    تتلون الأحاسيس ورجفة سرت في البدن حين أصخت السمع عند معلمتي الأولى أم شاكر السني وهي تتلو على مسامعي ”وإذا الوحوش حُشرت“ تخيلت بأن القيامة ستقوم وقت الغروب، وكأني أرى قطيعا من الحيوانات الشرسة منطلقة في صراخ، والبشر عرايا خلفهم في عويل، تسكن روعي شمس الصباح المتساقطة على سطوح بيوت الديرة، الإجازة فسحة من الوقت لأكل ”البيوتة“ - عيش ولبن - تحت ظلال بيت جدتي، يتمطق لساني بطعم ”اللبنه الرايبة“، ألهج براءة بأن كل أكلة من يد الأمهات ولو كانت بسيطة فهي مشبعة، والشوق لرؤياهن عطش دائم.
    يمتزج تصوري للآيات مع أصوات لوليدات، الجالسات على كرسي خشبي أو ”قاعودة“ مصنوعة من خوص، تلاوات متداخلة، أقف متحيرا عند آية ”كلا إذا زرتم المقابر“ وآية أخرى ”خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد
    منتشر“ تسأل من عليها دور التلاوة ما هي الأجداث يا معلمة؟ ترد معلمتي الثانية «أم علوي الدعلوج»: يا بنتي هي القبور وتوضح لها معنى الآية، فيسافر بي الخيال خارج حدود المكان والزمان، وأرى رقود البشر منذ الآف السنين وكيف نهضوا منذ فجر الخليقة ويقمون مرة واحدة وينتشرون كالجراد ليوم الحساب؟! صور يشكلها خيالي، حسب ما يتراءا لي من آيات.
    صغيرا كنت أخشى توجيه أسئلة تتلعق بالوجود، وعن ماهية الروح، وكيف تغادر الجسد، كلما رأيت جنازة تمر بسوق تاروت تنتابي قشعريرة هذا رجل رأيته بالأمس، واليوم لا حراك، جثة هامدة، سيدفن بعد قليل، وتلك المرأة والجارة كانت تحيا بيننا، وكل شيء فيها مات، أين ستذهب أرواح من ارتحلوا وكيف تخلق أرواح جديدة، ومتى تنشأ روح الأجنة في بطون الأمهات، وما الفرق بين روح نملة وإنسان وجان، انشغالات فكرية أكبر من عمري سرعان ما أنساها، لأني أُلقمت بحجر النهر ذات يوم.
    أتنفس التوق لفريق الأطرش وأدع عفويتي سابحة في مظاهر البهجة، أبصاري متفتقة مثل تفتق زهرة الرمان، متأملا تسلسل نضج الخلال والبسر والرطب، متربعا تحت ظلال عريش من خوص تبيانا لأنواع الرطب وأسمائه من خلال شرح أمي وفراسة جدتي، كنت أدهش منهن حين يشرن إلى أية نخلة قبل ظهور البلح، هذه، بچيره، غراية، ماجية، خنيزية، خضيرية، خصبة، خصبة الدشة، حلاو، عوينات، حجوب، خواجية، اخلاصة...، تتملكني الحيرة من قدرتهن على ذلك، يستدلن بخبرتهن من نوعية السعف والجذع، تظن العين العابرة البعيدة عن الزرع بأن شكل النخل واحد، كلا وألف كلا، عيون أمهاتي تربّت وسط الزرع وتنفسن هواء الطلع، فلديهن خزين رؤية، والإنسان ابن بيئته، وسبحان الواحد الأحد الذي خلق فسوى، وأعطانا هذا التنوع في كل شيء.
    تطرب أذني برنين صوتي أمي: ”يا نخلة بالحوش ما أحلى رطبها، إذا جاها سموم الگيض يبس عسقها“، بالأمس انتظار موسم الرطب شهور مسرات للأولين، ماذا بقي منه الآن، أيها الطامي عد بي لمرابع زمن الطيبين
    .
    التعديل الأخير تم بواسطة ❀ Bookworm ❀ ❦ ; 29/March/2022 الساعة 12:23 am

  4. #4
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «4»

    كم شكوت للنخيل حالي لزمن عثرات الطفولة، عن أيام دراسية مضنية بين صقيع البرد وسموم الصيف، لمدرسة بلا كهرباء ولا ماء وفصول خالية من الكراسي، افترشنا ”حنبلا“ رقيقا يوجع عظامنا الرخوة، نتعب من كثرة الجلوس ونرتجف أثناء الكتابة وملء فراغات الحساب، يداي تتلوى ضربا وتحمر، حتى عطر الأستاذ رهبة، أضوج من الأجواء التعليمية المضجرة أحيانا، خشية عقاب بعدم اتمام الواجب أو تسميع أُنشودة. من شدّة الخوف ينعقد لساني وأبول في ثيابي، كرهت المدرسة أياما وشهورا، وأحببتها سنينا، وبعض المدرسين مثل الملائكة، وصنف منهم كالشياطين سريعوا
    الانفعال والغضب والكفوف على الخدود حاضرة، وآخرين بين هذا وهذا، كنت أخشى الدخول للصف ورؤية السبورة السوداء التي ارتطم رأسي بها رعبا ووجلا، أرتعد من وقفات المعلم وإيقاع حذائه الآتي إلى حقيبتي تفتيشا لأني نسيت كتابا أو دفتر ا، أصرخ ألما من شدة الجلد على خلفياتنا وأتعفّر، زميلي سيد محمد يلبس خمسة ”هافات“ للتخفيف من قسوة ”الفلَكة“ وما أشدّ الخيزرانة حين تهوي على جلودنا الغضة، حتى الجلوس يوجعنا، وكأن كل شيء من حولنا لا يرحم، لكنني أحببت كل مدرسي الرسم من محمود الطبل إلى أحمد أبو الهيجاء إلى مصطفى العكاوي وعلي داوود، فنانون أطلقوا العنان لخيالي. وبين فوضى الحواس، يشتد بي العذاب إذا هدّدني مجموعة طلاب أكبر مني سنا وقالوا لي ”بتروح في ستين داهية“ وأظن بأن الداهية ستنهي حياتي، لا أعرف معناها ولا حجمها، أتصورها احتمالا بأنها عاصفة ستقتلعني من الأرض وسأختفي من الوجود، ينهشني الخوف ويزيدني افتراسا إذا قال لي أحدهم ”بنوريك شغلك وقت الهدّه“ واضعا ابهامه وسبابته عند رقبته، حركة تحدي بأنه سيخنقني شنقا، أضطرب، أكتئب، أعيش الفراغ معلقا بلا معنى، لا أحد يدافع عني أو يحميني من البطش، دفاعي عن نفسي عسير، يحاصرني الضيق من كل جانب، جسدي النحيل يأخذ نصيبه من الضرب واللّكم، كدمات تطبع على وجهي من عنف الأشقياء، بعضهم تزيّن له نفسه بتكرار الصفع والبكس عدة مرات بتقمص دور لكمات محمد على كلاي وضربات فريد شوقي، ضحية عنف وحشي والجوع ينهشني نهشا، «جوع وضرب جموع»، مصروفي طوال اليوم ”قرشين“ وإذا ضاعا أو نهب مني أكون شبه صائم إلا من بلع لعابي.
    أفرُّ فرار العبيد من ساحة العلم والحارة والبيت، أهرب من اللجج العاصفة والمرسى فريق الأطرش، مرتع طفولة أمي، أغدو طائرا بجناح الفرح، طليقا احلق، بعيدا عن غلظة بعض المعلمين وحبسة المدرسة ورهاب كلاب السوق، كم مرة هربت والتجأت اختباء بين بساتين خيلان والدتي ورجل خالتي ومعامرة عمي محمد حسين زوج جدتي أبو جاسم سالم
    ، رجل قوي البنية جميل الطلعة مفتول العضلات، قضى عمره في الحرث والزرع متنقلا بين معامير كثيرة، يعمر مكان ويذهب لآخر، من نخل لنخل، يعتبر أحد الفلاحين الذين حرثوا منطقة الجبال، أنبتها بفسائل جديدة وبذرها بالبطيخ واستخرج منها خيرا وفيرا، وقبله خال والدتي حجي حسن بن زرع وعلامة مزرعته ”الغرافة“ التي يرفع بها الماء عبر ”دلو“ من جوف ”السيبه“، ويدفقه إلى مجاري الماء ”السمط“ لتروي زروع البطيخ والنخيلات الجديدة وفسائل لم تكبر بعد، أدركت المزرعتين ورأيتهما بين عامي 1971 و1972، ليت عندي كاميرا لأصور حقول البهجة، التي آنستني طمأنينة بكل ما مر بي من قسوة ورهبة.
    منطقة الجبال هي أبعد نقطة مزروعة شمالا ضمن مزارع فريق الأطرش، على مقربة من غابات المنگروف ”القرم“ وتفرعات خور البحر.
    عمّي لم يكن وحده في تنقلات المزارع التي قام عليها، كان يعاونه أولاده جاسم وعباس، الأول أمه زهراء بنت حجي يوسف بن يعقوب من سنابس، توفيت شابة، والثاني والدته السيدة معصومة آل نصيف، ومعهم خالي حسين هبوب، شبان تنافسوا في جزّ القت وصعود النخل، وإطعام الدواب، النارجيلة تلازم عمي والدخان من نصيب الثلاثة، والراديو يتنقلون به من غصن إلى آخر، تسلية أنغام واستماع أخبار.
    حين تحل العطل المدرسية أتنفس الصعداء، فالوقت مجزي للانطلاق شمالا، بيت أمي العودة هو الملفى والعيش بأمان، ومزرعة عمي أنفاس راحة بال، ذات صباح أحمل الراديو لخالي وأقربه منه كلما تحرك بين جزّ ”الگت“ وري ”الضواحي“، التقطت أُذني خبرا مفاده ”هنأ الرئيس الجزائري هواري بومدين رئيس الإتحاد السوفيتي ليونيد بريجنيف بمناسبة ذكرى ثورة اكتوبر“، لأول مرة أسمع هذه الأسماء، ولم أعي بعد مفهوم الخبر، أفهمني خالي بأن الأخبار تخبرنا ماذا يحدث في العالم.
    كنت أغبط خالي بأنه غير مرتبط بعالم المدرسة نهائيا، لا حبسة بين جدرانها من الصباح إلى الظهر، ولا أحد يعاقبه على نسيان واجب أو تسميع نشيد، لكن الحقيقة بأن خالي يشكو حاله ويندب حظه العاثر بأنه لم يحظ بالدخول للمدرسة علما بأنه يكبرني باربع سنوات، لم يأخذ أحد بيده لمقاعد الدرس، اليُتم حرمه من ذلك، فقد مات والده وعمره 40 يوما، تحمله أمي وتدور به على بيوت فريق الأطرش لكي يرضعوه، ارتوى من صدور خمس نساء تقريبا، جزاهن الله خيرا، بالإضافة لشرب حليب البقر، خالي رضع العزم والإعتماد على النفس والمثابرة والكفاح، نبيه لماح قوي البنية.
    ذات مرة فرّ عجل ضخم من زريبة معامرة عمه ”نخل لفليه“ لحق به سريعا وبعد مطاردة مضنية أطبق عليه بين كثافة أشجار التين واللوز، أمسكه من رقبته والأنفاس متقطعة، خارت قوى الاثنين من شدة الركض، يجره جرا والحركة بطيئة إلى داخل الحضيرة، ربط رجله بحبل المحبس ”الرسن“ المغروس بقطعة حديد في الأرض، أحيانا ينفك الحبل ”يفتل“ من كثرة الدوران والمزاحمة نحو الأكل بتقارب الأجساد وهيجان رغبات الفحولة.
    يخبرني خالي بأن المزارعين ليسوا متساوين في الشطارة، هناك المقدام الذي لا يهاب صعود النخيل، بينما آخر لا يجرؤ حتى على ركوب نخيلة، إن صعود النخيل وبالأخص العاليات يحتاج من الراكب مهارة وجسارة وقدرة فائقة وتحمل، ليس الصعود بالسهل، الكرّ لوحده ثقل وحركة شده وارتخائه فن وتعلق الراكب لثوان في الهواء إلا من ثبات أرجله على درجات الجذع يعد خطرا، العملية تحتاج إلى مرونة وشدة بأس صعودا والخفة نزولا بحذر، كم من راكب انقطع به حبل الكر وهوى أرضا وفارق الحياة، ثمة قصص وحكايات مؤلمة لأسماء معروفة وأقارب قضوا نحبهم من أجل رزقهم، شهداء ارتوت الأرض من دمائهم وردوا كيد الغرباء.
    إن سعي الرجال في النخل والبحر لم يكن سهلا برغم ما حدث من مآس من غدر الموج وانقطاع الكر إلا إنهم نذروا حياتهم للعمل، لم يتوقفوا ولم يكسلوا يوما، كدح وشقاء وصبر وعطاء وتضحيات جسام،
    تقول أمي:

    ”چلب لمعسعس ولا أسد رابض، ويش فايدتك تكون قوي لكن خايب، من وين يجيك الأكل، من وين يجيك الرزق، الدنيا تبغى ليها مراجل“ هكذا كان ديدن الأولين، ينتفسون العمل، وكما قيل شرف الإنسان العمل، وقيمة كل إنسان ما يعمل.
    ثمة مزارع عديدة تنقل فيها عمي محمد حسين أبو جاسم سالم، يطيب له مكان زمنا وينتقل لآخر، تنوع معامير ضمن مساحة فريق الأطرش، لم يتخل عن هذه البقعة المحببة إلى قلبه فضلها دون زروع جزيرة تاروت، مزارع عمرها عبر محطات عمره منذ أن كان يافعا إلى آخر يوم من حياته وهي على التوالي:
    1- ابو شليبي
    2- لجبال
    3- لحياله
    4- لجبال - مرة ثانية -
    5- أم الشعير
    6- صلخ أبو لعظامه
    7- الصلخ الصغير
    8- المسرح
    9- لفليه، نخل «لفلية» وهو من أجمل المعامير لتنوع مزروعاته وكبر مساحته.
    وآخر مكان قام عليه نخل «أم لقرون» وبينما هو قائم على هذه المزرعة صرعه مرض مفاجئ في معدته لعدة أيام وقد رأيته بنفسي يقول إلى أمي العودة وهو خارج من البيت متوجها إلى مستشفى السويكة، ”هالمرة روحة بلا رجعة في أمان الله، ابروا ذمتي“، كانت عيناه العسلية جاحضة وجفونه منتفخة، والوجه حفرته أوجاع السنين، بعد أيام من رقوده على السرير الأبيض انتقل إلى رحمة الله عن عمر ناهز 80 عاما، غادرنا عمي أبو جاسم يوم 29 شعبان سنة 1407 الموافق 1987، تاركا المحش والمنجل مغروسين في جذع نخلة، زرع ذبل لبعض الوقت، كأنه استشعر حزن الفقد ليد روته أياما وسنين
    .
    التنقل بين المزارع لم يتفرد به عمي محمد حسين رحمه الله بل لازم العديد من الفلاحين، يقومون على استصلاح نخل ما لسنوات معينة ثم يغريهم آخر فيذهبون لعماره، وأيضا الارتحال ليس خيارا، ولكن أشبه بالمساومة بين البقاء أو الضياع، لأن الغالبية العظمى من هؤلاء الفلاحين البسطاء ليسوا ملاكا لمعاميرهم! هم أشبه بالأجراء عند الملاك، الذين بيدهم المال والجاه، كبار استحوذوا على مساحات كبيرة اشتروها استثمارا للمسقبل، والبعض قبض على أراض بياض، وهناك ملاك اغتنموا ظرفا تاريخيا فاتتهم الهبات على طبق من ذهب، كل يغري المستضعفين لبضعة سنين لحرث البساتين واعمارها، مقابل بيع المزارع حصاده وتزويد المالك ببعض المنتوجات وقدر محدد من المال، قد يكون زهيدا، لكن الفلاح لا يملك قرار بقائه، فهو مرهون بمزاجية المالك.
    لو كان بيدي لطبّقت أحد المفاهيم الاشتراكية ”الأرض لمن يزرعها“ وقبل ألف سنة تحدث الفيلسوف ابن حزم الاندلسي بأن ”الأرض لمن يفلحها“.
    أين الفلاحون من هذا المفهوم المنصف، تلك زفرات ضائعة وآهات مكبوتة، فلّاحون لم يظفروا بشيء، عمروا مزارع فريق الأطرش طولا وعرضا وجعلوها بهذا الشموخ الفتان، من ملك منهم نخلا يعد واحد في المائة، كادحون كانوا وقود البستنة.
    ومع شديد الأسف والغصة في الحلق بدأ الزحف العمراني يغزو المساحة الخضراء منذ أكثر من خمسة عشر عاما، تشوه المكان واطبقت عليه الصناديق الإسمنتية من كل الجهات.
    لمن أبوح شكاوي وأسترجع وقفات الذكرى، بعد أن تآكلت فراديس الجمال، ففيها أنفاس حرية طفولتي وأنس مجتمع طيب القلب يحنّ اليها باستمرار، أحِّن لأرض أطعمتني من جوع وآمنتني من خوف
    .
    التعديل الأخير تم بواسطة ❀ Bookworm ❀ ❦ ; 29/March/2022 الساعة 12:20 am

  5. #5
    عضو محظور
    彡نور الشمس彡
    تاريخ التسجيل: August-2015
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 5,345 المواضيع: 769
    التقييم: 4774
    مزاجي: حسب الجو
    أكلتي المفضلة: حلويات +معجنات
    موبايلي: كلاكسيA72
    آخر نشاط: 1/September/2022
    شكرا قلبي

  6. #6
    مراقبة
    ضوء أديسون
    منورة حبي

  7. #7
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش.. (5)


    كان يوم المنى حين استجابت والدتي لطلبي، بأن أبيت ليلة عند أمي العودة، هي مكافأة سارة بمناسبة نجاحي من الصف الثاني، لأن الأماني من وحي أناشيد كتاب المطالعة عسيرة المنال، “أبي اشترى لي ساعة فلم أنم من الفرح”، وأنشودة: “ما احسن الدراجة وقت الحاجة “، هدايا مصادرة عندي، وحدهم طلاب المدرسة من كان أبوه في شركة أرامكو أو ميسور الحال يتلقون مكافئة النجاح.
    ها هو زميلنا من الدشة يتحسس الساعة الجديدة التي تحيط بمعصمه لأول مرة، ماركة و”نستن” محتارًا بتحريك عقاربها بين التوقيت الأفرنجي أو العربي؛ فاختار الأول حسب أخيه الأكبر الذي علمه التحريك ولقنه الآتي: “ساعتي مضبوطة تيمها اكرنچ، على ساعة بيكبنك” مصطلحات لا نعرف مدلولاتها، ولا حتى صاحبنا الذي يطوي كم ثوبه قليلًا
    لكي تراها العيون، كأنها سوار من فضة، وبين لحظة وأخرى يمعن النظر ويهف عليها من بخار فمه ليلمع زجاجتها فركًا بكمه الثاني، يعاود تنظيفها بسبب تطاير غبار لعبة “الدغشة”، ومن شدة تعلقه لا يريد أن ينزعها من معصمه، ذات مرة نساها واستحم بها في حمام تاروت؛ فتسلل الماء لداخلها، وأصبحت العقارب شبه متوقفة، والأرقام لا ترى، تعلوها مسحة من ضباب، أوصاه والده لو حصل أي خلل فيها (أخرت أو قدمت)؛ فليذهب بها لحجي إبراهيم الدرازي، مصلح الساعات الوحيد في جزيرة تاروت، بمهنية أرجعها كما كانت.
    كم تسألنا بتعجب، من علم هذا الإنسان مهارة غير معتادة في البلد؟ ومن الذي دله عليها؟ المفارقة بأن أبناءه لا يعرفون من الأمر شيئًا ولا أحد منهم اتخذ المهنة.
    نرى “السيطور” منبهًا مزعجًا يورد من “الكانتين” يتباهون به عمال شركة أرامكو، ويقبضون هدية التقاعد ساعة فخمة “رولكس” لكن بعد ماذا؟ بعد أن تقوس الظهر، واهتزت الركب، بالكاد يحركون الأقدام، صلاتهم من جلوس ! عطس تطاير رذاذ على عمر احترق آباء تركوا الفلاحة، والصيد، وكابدوا بين أبخرة الزيت، وأدخنة المعامل، من أجل تحسين لقمة العيش، ارتحلوا بصمت، ولم يوثق معاناتهم أحد، كأنهم لم يعبروا الحياة التي كانت مجلجلة بالكفاح والأخطار، ربما صورة عابرة في جريدة قافلة الزيت وهي الأخرى ضاعت في بحور النسيان.
    من قال بأن لبس الساعة لمعرفة الوقت، هي اكسسوار زينة، وقدر من التباهي، ولو اخترعت عند الأولين لقيل فيها شعرًا وتتابعت أحاديث العنعنة بفضل لبسها يمينًا، وربما شمالًا حسب مزاجية الراوي أو المتفق عليه عند السلف! أمة لم تخترع ساعة واحدة فقط تباهت بالمزولة القابعة في بهو قصر الخليفة، والرعية عنها نيام.
    ينادى بأن “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك “، جملة لفظ تائهة؛ لأن من شيمنا هدرنا الوقت، وإن كان الأمر مبالغ فيه، إذًا كيف أصبحنا آخر الأمم؛ فنحن لم نصنع ساعة واحدة من الأمس لليوم، ونخشى يطول للغد، ما الغريب في ذلك لا عجب، طالما ملابسنا لم تزل للآن مستوردة !.
    هائمًا ولمع المرايا لماض يتجلى في الوجدان موغل في صفحات الذاكرة بتلاوين صور الطفولة.
    وأمامًا من أوتي بدراجة هوائية فقد غنم مكأفاة نجاح عظيمة، زميلنا لم تسعه الدنيا هو يقود “سيكله ” أمامنا مزهوًا
    باستعراضاته البهلوانية على “ديحدرات” الديرة، يظن نفسه بأنه يسوق سيارة مرسدس، شبهه “حميدوه” بقائد سيارة، وهو يردد طرطقة عيسى الأحسائي “مرسدس وارد الألمان مكتوب على اللوحة خصوصي السعودية”، حسرة الفقراء مثلي ومثله التخيل والدندنة، ذات يوم طلبت من صاحب الدراجة ” أبغي أسوق سيكلك لفة”، يرد بتهديد مبطن “تعرف تسوق ” وبعد إلحاح وترجي أمسكت بالدراجة لكني لم أحسن القيادة بسبب المارة و”عناصيص” الأرض، وزاد الطين بلة حين أكل “الصنكل” من ذيل ثوبي وارتطمت أرضًا، تمزق طرفها السفلي واتسخت بـ”الكريز” وصرخة آتية منه “حول حول ما تعرف تسوق يا غشيم “، نزلت مكسور الخاطر، والتعليقات تلاحقتي من الرفاق بقهقهات وتنذر، صاحب “السيكل” دفعني للوراء لأني تسببت في حدوث ” فشخة خفيفة في الرفرف وركلة في الكفر ” ذهب لإصلاحها عند الحاج حبيب الخباز الكائن وسط سوق تاروت، أسفل مبنى نادي النسر، تمت وزنية الإطار، ثم ركب دراجته، وطار عنا قائلًا “ما أعطي أحد سيكلي مرة فانية باي باي “.
    كم تحسرت بأنني لم أظفر لا بسيكل ولا ساعة، رسمتها أشكالًا حول معصمي تعويضًا عن أمنية مفقودة!
    وكم انتابتني حالات السرحان بما كنت أتمنى من لعب الطفولة، كانت هديتي أثمن بأن دفعني والدي لإتمام القرآن مصرًا على أن أختمه كاملًا، وخيبت ظنه.
    أرسلني مع ابن عمي كريم إلى الحاج أبو عبد آل درويش، الكائن منزله وسط نخل “المفضلي”، تعلمت بعض السور داخل كوخ واسع مبني من “الجريد “، وكان الأولاد متفاوتين في الأعمار جزء للتو يردد طوال الوقت الحروف “ألف لاشيله”، ونطق التشكيل بسم، باء كسرة بي، السين ساكن” وآخرون يعيدون تلاوة السور لمزيد من الإتقان، وبحثًا عن جودة القراءة بثقة أكبر، يطلب منهم معلمنا متابعة الضعفاء أو الجدد، امتدت دراستنا طوال العطلة الصيفية، الحيز الذي ندرس فيه قريب من فريق الأطرش قبل منطقة الخارجية بقليل، وهذا هو المفرح، والمأمل عندي، وبينما لساني يتلو كلام الله تفكيري شارد شمالًا، تكثر أغلاطي، ويشدد علي معلمي بألا أتجاوز أي آية إلا بعد النطق الصحيح.
    مشتت البال وعبد الكريم أسرع مني تعلمًا، حين يرخصنا معلمنا أبو عبد، آخذ ولد عمي لمعامير أهلي وأنطلق به لأجواء المزارع وتدفق العيون، نقطف اللوز، ونفلق الرمان، وأوصتني أمي العودة بأن القشور لا نرميها نجمعها في “كفة” وتأخذه وتنشره مع قشور أخرى، وقبل أن يجف تضغطه بأناملها على شكل كرات صغيرة ثم تنشره ثانية ويصبح قاسيًا بفعل حرارة الشمس، ويسمى “كرورو” ليكون ضمن بهارات “مركة المطبوخ”، أصابعنا متلونة من أكل اللوز السكندري، نرجع من فريق الأطرش محملين بالحشائش، وسلة الرطب وبعض الخضار .
    أبلغنا معلمنا الحاج عبد الحسين آل درويش بأن نحضر غداء الأربعاء صحن مع مبلغ وقدره ريالين، في اليوم التالي كل عند الوعد حاضرًا، حان وقت الضحى، ونحن نردد وراءه “المساية “:
    تمسى يا معلم بالسعادة ومرنا بأمرك في الرواح، بدأنا بالنبي أحمد محمد رسول الله حي على الفلاح، وحيدرة أبي
    حسن علي مبيد الشرك في يوم الكفاح، وفاطمة وابنيها جميعًا هما السبطان أرباب الصلاح، وقال لهم معلمهم بقول يحثهم على فعل الصلاح؛ فيوم السبت أحضرونا لتحظوا بالرشاد، وبالنجاح، وفي الاثنين للدرس احفظوه كذا يوم الثلاثاء بلا مزاح، ويوم الأربعاء للخط خطوا خطوطًا ليس فيها لواح، وفي يوم الخميس ألا استعيدوا دروسًا في المساء، وفي الصباح، وجمعة كل أسبوع إليكم فتعطيل به خير انشراح، وصلى الله على الهادي وآله هدايا العالمين إلى النجاح “.
    بهجة غامرة تكسو وجوهنا، والترقب سيد الموقف، واللعاب يسيل من بين الشفايف، اختار معلمنا أبو عبد الأكبر منًا سنًا لتوزيع الأكل، همة ونشاط من يوسف حجيرات يساعده موسى الرويعي لغرف “الحريرة” من القدر الكبير كل في صحنه، ينظمنا اصطفافًا حسين عبد الرحيم حماد، متعة طعام تحت ظلال النخيل، وفي اليد قارورة “فانتا”، وغرفة أخرى في صحن كل واحد منا “سهم للبيت”.
    أجواء قرآنية ممتعة، وسارة، وتعلم بين المرونة والحزم، من لدن رجل وقور مؤمن طاعن في السن.
    لكن أمي اكتشفت مع مرور الوقت بأني أتغيب عن حضور “المعلم” بسبب قرب المكان من فريق الأطرش الجاذب لي نفسيًا ومعنويًا ووجدانيًا، تقول أمي: ” أنت ويا ولد عمك كله تبغى تهيتوا ما تبغوا تتعلموا بس تبغوا تردحوا في المعامير “.
    أخرجني والدي وأدخلني عند المعلمة أم علوي الدعلوج، وعندها لم أكمل حتى ربع أجزاء القرآن، ولا أدري سبب ضجري من التعلم.

    ثم تابعني والدي بنفسه كلما جاء للبيت قادمًا من رحيمة للقراءة أمامه صباح كل يوم جمعة فهو لا يتلو فقط القرآن بل حافظ سورًا عديدة، ويستشهد أثناء أحاديثه ليس بآية واحدة بل يتبع الآية بالآية للإثبات، والبرهان حسب الموقف وما يتطلبه من تحولات الحياة،
    كان أبي معلمي الأول لكتاب الله وعمري لم يتجاوز الثلاث سنوات، رغم التأفف، وثقل اللسان وحالات الحنق من شيء اسمه تعلم الذي عانيته كطفل سارح يحب اللعب، والعبث، والشخبطة والرسم، إلا أنني مدين طوال عمري لكل من ساهم في تعليمي بدءًا من والدي ومعلماتي ومعلمي، وكل المدرسين في جميع مراحلي الدراسية بلا استثناء، فلولاهم لكنت جاهلًا ضالًا ضائعًا، بكل الحب أنحني لهم وأقبل هاماتهم إجلالًا.
    الهدايا المادية ربما تفنى وتنسى لكن الهدايا المعنوية آثارها باقية مع الزمن بل تبقى متغلغلة في الروح، شكرًا لكل من علمني حرفًا.
    وتمسى يا معلمي بالسعادة دنيا وآخرة.
    التعديل الأخير تم بواسطة ❀ Bookworm ❀ ❦ ; 29/March/2022 الساعة 12:29 am

  8. #8
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «6»

    ينوح حمام النخيل على زرع أينع وحان قطافه، أبصرته العيون فرحة وبهجة، تشابكت الأيدي لجزه والبيع في الأسواق، وعلى حين غرة نهبه السراق، جفاف حل، ولد انسل، جوع عم، ساد الوهم، سقط النجم إنكفأ البطن، العيش ضنك، والفرار يباس، والرؤية سواد، خارت القوى.
    أكفٌ رفعت والأدعية ملء الأفئدة، تضرعات وتوسلات لدفع الضر، بعد تسع سنين انكشف السوء وانجلى البلاء، ”ضحكت الدنيا بعد نور الشمس“ تحايت النفوس، هبت السواعد، زرعا وحرثا وحراك، عناقيد تدلت من جديد، مساحات خصب تسر الأنظار، أرض خضراء باركها الرحمن جودا وعطاء.
    هائما بأحاديث الشجن، مسترجعا صور نبض السنين. تحكي لي والدتي بأن والدها حجي محمد حسين محمد سلمان هبوب، أراد أن يشتري منطقة ”الجبال“ كاملة ولكن عمل ”خيرة“ وأتى الجواب بالنهي!، ربح المكان رجل من دارين يدعى «لشليبي»، هو النصيب أو الحظ حين يبتسم ويعبس لناس دون ناس.
    أكبر تفاني جميع المزارعين باحياء الأرض وقضاء سني عمرهم في عمارها بين حرث وزرع، وكأنهم أصحاب المكان.

    ما أجمل منظر النسوة الحاملات فوق رؤوسهم صواني الغذاء إلى أزواجهن الفلاحين، يتخطفن وقت الظهيرة بين معامير فريق الأطرش ويعبرن الزروع والظلال، يفترشن سفرة دائرية صنعت من خوص، ويضعن في وسطها ”ماعون العيش“ رز موشح بالسمن البلدي، والايدام سمك أو ربيان، وجبة يومية مشبعة، مزينة بفردات رطب وتمر، وفجل وبقل و”شربة“ ماء. أجساد قوامها مائدة بسيطة، يقتاتون ما يزرعون وخيرات البحر ملك للجميع.
    اللحوم الحمراء قليلة التناول، يقبلون عليها عند ولائم الأعراس والنذور، يأكلون ما يسد الرمق قانعين هانئين، بلغوا من العمر عتيا وهم بصحة وعافية، مؤمنين كدا بحي على خير العمل، لأن وقتهم حراك يومي في الحقل والبحر.
    تقول أمي بعفويتها ومنطقها العقلاني البسيط "ماشفت لأول أحد يمشي على عكاز أبدا، شرعوا فوق الفمانين والتسعين وهما اقواي، ماحد جالس، الكل يشتغل أما في المعامير يزرعوا أو ايدشوا البحر أو يباروا لحضور، ماقالوا تعبنا، والنسوان مفل، من قعدتها الصبح إلى زين تنام وهي تشتغل، تعابي البيت في كل شيء، ترضع وتربي الجهال، وتنفع الحياوين، تغسل لماعين ولفياب في لعيون أو في العانات، تسبح اولادها وتجي تطبخ وتخم، ماتستريح حتى دقيقة تفتر زي الدوامة. الحين يادافع البلاء زادت الأمراض، وكفرت العكاكيز، من ويش من الخيابة، وكفرت الگعدة اتبهت العافية، الأول بعد اكلهم طري بس الدبس والسمن
    مخزن، ماعرفوا اكل القواطي ولا عفايس بطنات المطاعم ولا أكلات نصايف الليل، الاول كل وحدة تطبخ اكلها في بيتها بنظافته وسناعته، الحين الكل عاجز والكل مو قادر، آه ويلي، ركبتي، صنيفي، ظهري، وكل شي يعورهم، كبو كبو تحتي الماي ما اقدر اشربه ".
    كلما تحركنا أتى النفع لنا نفسيا وجسديا ومعنويا، ففي الحركة تحل البركة، «اسع يا عبدي وأنا أسعى معاك»، رزق وخير وعافية.
    أعيش النعيم في ربوع فريق الأطرش بين الماء والخضرة والوجه المبتسم، طيبة لا متناهية تشع من لدن النساء والرجال على حد سواء، هم أقاربي وانسابي ومعارف وجيران أهلي، عاشوا بين زروعهم الفاتنة التي انعكست على أخلاقياتهم، هم أهل نخوة وحمية، عند الملمات صفا واحدا.
    أركض حافيا بين الظلال ونداوة الأرض، وأتسلق النخيلات الصغيرة، أُفتش بين السعغات عن أعشاش البلابيل والعصافير بغية سرقت فرخ لم يقوى بعد على الطيران، أسطو على الصغار ولكن يدي ترتجف آخذ واحدا فقط وأترك الباقي فاتحين أفوهاهم في انتظار زاد أمهم، نيتي بأن أطعم الفرخ قطرات ماء، وفجأة يغمض عينيه نتيجة حركة أناملي العابثة والمرتبكة يداهمني الحزن حين يفارق الحياة، أكاد أبكي حين توبخني أمي ”مو زين عليك من الله، اترك العصافير لصغار في اعشاشهم ولا تقرب صوبهم فاني مرة“، لكن جدتي تأخذني بالاحضان وتهمس في اذني ”تقبل احد يأخذك من امك“!

    إن شاء الله يا أُماه، سمعت نصيحتها مخاتلا، فالشقاوة تزين السطو على الأعشاش، دنوت مرة لأخذ فرخ واذا الأم على السعفة بالقرب مني تراقب، أحسست بالرأفة وتخيلت نفسي مكانها، تألمت وروح العاطفة تجلت أمامي درسا بليغا. ما أقسى على الكائن أن يهجر من عشه، ويبات في العراء.
    أصحيح يا أماه مر على بلدنا ناس ناموا في العراء وماتوا من الجوع؟ طنت أُذني من هول ما سمعت لما حل بالديار من بؤس وفقر وأوجاع، أجساد واهنة والناس حيارى! من يتصور كم من الويلات قاست هذه الأرض وكم من مصائب فتكت بالعباد، مشاهد تعصر القلب، هي ”سنة المطاقة“ «البطاقة» شح فيها الأكل وقلت المواد الغذائية الأساسية، لا سكر ولا رز ولا طحين، ولا حبوب تصل للأسواق، كل السفن التجارية معطلة لا أحد يجرؤ على الابحار، الملاحة متوقفة، لا تصدير ولا توريد بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية
    .
    قننت الحكومة توزيع الغذاء لما هو مخزن من طعام عبر بطاقة، بموجبها تصرف مؤنة محددة لكل أسرة بما فيها التمر، وحين طال أمد الحرب من «1939- 1945» زادت المعاناة أضعافا مضاعفة، ستة أعوام لحرب ضروس أهلكت الحرث والنسل وقضت على 70 مليون انسان، امتدت توابعها وارتدادتها ثلاثا بالنسبة الينا، بمجموع تسع سنين فقر وهلع وخوف وسطو، الهزال نهش الأجساد والجوع فتك بالعباد، مجاميع من الأطفال قضوا نحبهم من الأمراض والأوبئة، صدور النساء جفت، وعيونهن لا تتوقف عن النحيب، توزعت مقابر صغيرة عند المساجد، ظلت علامتها إلى عهد قريب شواهد مغروسة من كرب النخيل أمام كل محراب.
    مسجد عزيز، مسجد الشيخ علاء، مسجد الشيخ علي، مسجد الشيخ محمد بسنابس، مسجد نخل الغالي، ومسجد بالقرب من سوق تاروت - ازيل بسبب مرور الشارع العام - سنين عسر والناس في مصائب والهول عظيم، من يصدق الجحيم الذي عاشه الأجداد أثناء الحرب الثانية من شح الطعام والمعنون بسنة ”المطاقة“، هو ابتداء سنة الصرف بالبطاقة بحلول 1360 الموافق 1940م إلى أن وضعت الحرب أوزارها.
    وعن عذابات تلك السنين المهلكات، تفتقت قريحة الشاعر الشعبي عيسى بن ناصر النطعة، من أرض الجبل بتاروت يصور احوال الناس:

    زالت أبراك الأرض واذهب غناها.. وتعطلت منها المجاري والأكوان
    ياجامع للمال تحظى بلظاها.. من أجل ما ترحم فقير وجوعان
    والأغنيا بالمال شح عطاها.. والفلك واقف ينتظر صوب ديان
    كم مرة بالدرب تمشي بعراها.. نكس سواطرها الحيا وزود ليمان
    ماعندها ستر ودلي غطاها.. عن عين ناظرها وضعيفين ليمان
    وطفالها من الجوع ذبلن شفاها.. تريد المعيشة وطالب القوت عجزان
    البحر لو يسقي مابل فاها.. البحر لو يسقي الفضا صار دخان
    هذي ثمان سنين تطحن قصاها............. *
    والتاسع لمن بلغ منتهاها.. ضجوا بجاه الله شيوخ وشبان

    إن هذه القصيدة الشعبية تصور معاناة مجتمع الشاعر وما رآه من أهوال، هي ممتدة جغرافيا لما هو أبعد وأبعد، والأنكى من ذلك ما بلغني على لسان والدتي بأشياء لا تصدق حيث تقول " أخذت الولد ورحت بالسوق بابيعه.. ضحك لي بسنه وعييت مابيعه".
    مسوى الفقر بتروح تبيع ولدها حتى لايموت وتأخذ بقيمة بيعته ليها أكل حتى تعيش، ناس باعوا اولادهم وباعوا بيوتهم، شوف الحين قامت الناس تلعب بالنعمة - معقولة يا أماه أحد يبيع ولده - يقولوا صار في ذيك لسنين وقبل حتى المطاقة واللي باعوا بيوتهم واجد، والله ما ادري ياولدي هذا اللي سمعته أني ماشفت بعدني ما أخلق، صدق چدب بس ناس واجد اتحچوا عن أيام الفقر ومصايب سنة المطاقة بسبب حرب ههتر ”. تقصد «هتلر» واستذكرت شعر آخر“ ياهي سنة سنت علينا بجورها وجفت........ " غاب عن بالها التكملة، ثم أردفت بأن نساء كثيرات ليس عندهن أي شيء تطبخه، حيث لا يوجد شيء، ”باحشي شي ولاعندي شي“ و”أگزر انهاري على نهيك حماري“ تنتظر متى ينهق الحمار عل وعسى تحصل على أي شي، تطبخه.
    إن كان ثمة تراث شفاهي مؤلم تناقلته الألسن يصعب تصوره، هناك مجتمعات مرت بماس ومحن، وصفحات التاريخ ملئ بالفضائع والحروب والكوارث،
    وما مر بنا قبل سنة أثناء الوباء الأخير هي أحداث زلزلت الانسانية كافة، لهو دليل على تجدد المحن والخطوب. لو دونت معاناة كل عائلة على حدة في الأزمنة القديمة التي عاشها الأجداد بما فيها سنين البطاقة لقرأنا العجب العجاب، وثمة أشياء من الصعب ذكرها يندى لها الجبين، يكفي بأن الأفواه أكلت الحشائش!
    ما أروع فعل الخطباء حين يرفعون أكفهم أمام السامعين ويتلون الدعاء المعتاد عند نهاية كل مجلس ”اللهم آمنا في أوطاننا.. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان“ وهنا الأمن بمعناه الشامل والواسع. ماض يفوح بحلوه ومره يتقلب بين المسرات والأوجاع، زوداني به تباعا والدتي وخالتي زليخة وخالي حسين هبوب وباسترجاع أقوال جدتي تحت ”عرايش الگيض“ وهبوب نسائم الشمال.
    فضاء فريق الأطرش سلام وأمان وهواء عليل يوقظ كل الحواس

  9. #9
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «7»

    مسحور بفضاء فريق الأطرش ومتيم، والعمر جنائن فرح، أحسب الشمس تشرق شمالا كفراشة يجذبها الضوء، أُيَمِّمُ وجهي لتراب لامس أقدام أمي، وهواء الهبوب، دمغت الألسن لقبا لها دون اسمينا يابت هبوب، ظل منسوجا برداء الريح تناغيه نسمات الزروع.
    برفقة خالتي زهراء سالم وبنت خالتي زينب الصفار، نسرح ونمرح، في بيت أمي العودة، نمسك عمود العريش وهو جذع شجرة اللوز، ندور حواليه وننشد ”اني سطح واني بطح واني وريدة القدح واللي مايعرس اخته هالشهر تالي زمانه يفتضح.. تاه يخالي“ نتسابق دورانا خمس أو سبع لفات ممسكين الجذع بكف واحد
    والأخرى ممدودة مثل جناح محلق في الهواء وجسمنا مائلا نحوها يكاد كفنا يلامس الأرض، ندور ثلاثتنا في وقت واحد كأننا نؤدي رقصة صوفية، نتجلي متعة وبراءة، ونأخذ كفنا السابح في الهواء ونربت على فمنا وننشد: ”واوا واوا، حرارتي مرارتي سبع الطيور في جارتي، يا أمنا كبيره صغيره من الشاط إلى الباط إلى كبير المنزله، ياسليسله دليني يا أمةالسجر والتيني، إلى مادليني زلعتچ وملعتچ بالسيف والسچيني، جتنا ابنيه من قطر فيها زعازيع ومطر فيها صبي غاوي انجاوي يلعب على فيّ الگمر يامقرطع الصروالي“.
    نستريح قليلا لنلتقط أنفاسنا، وحال وقوفنا عن الدوران وحسب اتفاقنا بأن لا نمسك ولا نتكئ على أي شيء، نتحرك باتجاه البرنية والعودة ثانية لعمود العريش ومن يستطيع منا المشي بثبات ولا يسقط هو الفائز، لكن هذا محال، بمجرد أن نقف نحسب أنفسنا لم نزل ندور، نشعر بأن الأرض تموج بنا، جسمنا يتمايل ويتثنى، سكارى وما نحن بسكارى، نغالب جسدنا، نفرد ذراعينا كأننا سنطير من أجل أن لا نقع، لعلنا نتوازن قدر المستطاع، نقاوم، فجأءة نخر أرضا لا نلوي على شيء، سوى ضحكاتنا التي تفزع الدجاجات الملونة والأفراخ المنتشرات على امتداد ”الحوي“. تهدأ انفاسنا وينثال الجدل اللطيف حول أعمارنا المتقاربة، اختلفنا من الذي أكبر بيوم أو شهر من الثاني، كل وضح مولده حسب مفهومه
    :
    ”أنا جابوني ربيع، زهور: أني أصغر منك يمكن بشهر، زناب: قريبات شهرين أكبر منكم افنينكم“، حسمت الأمر جدتي ”كلكم جابوكم في سنة واحدة، أنت يا زينب يوم افنعشر صفر، وعبد عشرين في ربيع الأول، وزهور تساطعش فاني جمادى“. نرتوي من ماء البرنية البارد ونسكب بقايا الكأس على وجوهنا المتوهجة حمرة بفعل اللعب و”الحمو“ حرارة الصيف اللاهبة.
    أقبلت علينا مشيقرية زوجة خال أمي حجي حسن بن زرع وفي يدها صحن الممروس، ما أن وضعته أمامنا حتى التهمناه مع قرص مقطع، ”الخبز العربي“ نأكل بتلذذ وشبهناه بطعم الحلوى، قالت خالتي زهراء ”چيفه سويتيه مرة خالي“ وأخبرتنا عن مكوناته وطريقة تحضيره، ”نجيب قدر ونحط فيه طحين وشكر ودهنة غنم، وعليهم ماي، ونخلطهم زين ونحط لقدر على الضو، ونحركه كل شوية حتى مايحتمش، واذا استوى عدل، انتفتفه بالملاس لزين مايصير مثلات منفورة لنشا“.
    شكرناها بعفوية والسنتنا تلهج بالدعاء لها على الطبخة الحلوه. تمددنا على الحصير نهفهف بعضنا بمروحة الخوص الملونة من صنع أمي العودة، ونقرب المهفة من وجوهنا ونقول ”هاب من الله، هاب من الله“ واذا لم يرمش جفننا تحديا، نطلق عبارات الاستنكار، ”ليش ما تهاب من الله ترى بيعاقبك“، كان العناد من جانبي
    حاولت أن لا يرمش جفني ولا أغمض عيني، وما أن تحركت خارج البيت قاصدا صندقة حسن تقي وهو الدكان الوحيد في فريق الأطرش، وقبل أن أصل صرخت على اثر شوكة دخلت قدمي من سعفة يابسة ملقاة أرضا بجوار نخيلة على ناصية درب بيت خال أمي، سال الدم ورجعت كأني أعرج، وجائني الرد سريعا ”هذا حوبة اللي مايهاب من الله“، أخذت خالتي فردة من حذائها تضرب به باطن رجلي لكي يتوقف الدم، وكانت تقول ”كأنها سلاية أم سليچ“، وضعت أمي العودة ذرة بن قهوة مطحونة على الجرح فتوقف النزف وربطت قدمي بقطعة قماش.
    استرحنا على الحصيرة بين ضحك وأنين واكتفينا بلعبتي الصبة واللقفة. عند الظهر جهزت أمي العودة سفرة الغذاء، رز يعلوه سمك مطبوخ ب ”الكرورو“ وحبات البصل كاملا غير مقطعات، ما أن ندخلها في فمنا إلا ونستشعر ليونتها كثمرة التين، ولا تطفئ ملوحة الأكل إلا شرائح البطيخ، أفواهنا تتمتع بحلاوة الطعم، ثمار بأحجام كبيرة من منتوجات مزارع لجبال القائم عليها عمي والد خالتي زهراء، وهي الوحيدة من الحاج محمد حسين سالم.
    وتعتبر أصغر الخالات كانت تحير زميلاتها ”لوليدات“ أمام معلمتها في منطقة الخارجية، بت عمتها بنت علي بن عيسى السنونه التي ينادوها ب «مرزوقة» أم حسين الحبيب. تقول خالتي لهن: ”تصدقوا بأن أخوي جاسم متزوج اختي زليخة“ ينتابهن العجب ”لا لا هذا ما يصير، أنت تلعبي علينا“، تقسم لهن بعفوية البراءة، ويأخذهن التفكير استغراقا، وبعد أن تاهت منهن الإجابة، تتدخل المعلمة بمعرفتها فأوضحت لهن الأمر تحت ظلال النخيل.

    نخيل شهد تفاني المعلمات في كل من منطقتي أرض الجيل والخارجية اللذان تعتبران من أقدم منطقتين في تاروت بعد الديرة، وسط الأكواخ وحفيف الشجر تعالت التراتيل وتلاقت منذ الصبح مع تسابيح الطير، والظهر استراحة، والعودة ثانية وقت العصر، بنات وأولاد تضمهم أم واحدة تدعى ”لمعلمه“، تلقنهم فك الحرف وتسلكهم نحو دروب الكلمات، ارتحالا لسطور النور، في البدء يتقنون جزء عم وتتوالى الأجزاء تباعا حسب طول نفس المتعلم أو المتعلمة وعند ختمة القرآن بشاير فرح بحجم الدنيا، بعض البنات لا يملكن قيمة تعلمهن فتتعهد أسرهم بدفع المال لاحقا بعد أن تخطب الفتاة يدفع من مهرها! والمحظوظة من دفعتها عائلتها للتعلم وفي نفس الوقت أتقنت القراءة، وكان ينظر لمن يعرف التلاوة كاملة هذا انسان خاتم القرآن، نظرة تقدير واعتزاز واحترام، ويقال أيضا: سوف يكون ضياء له في الحياة وما بعد الممات.
    وأبلغتني أمي بأنها أدخلت لتعلم القرآن عند زوجة عمها الحاج حسن حماد أم أحمد والشيخ غالب، في منطقة الديرة، لكن لم تواصل بسبب بعد المسافة لطفلة صغيرة لا أحد يرافقها، والأمكنة في ذلك الوقت شبه نائية وكأنها مقطوعة بسبب كثافة النخيل بين المناطق، قدرها أن يتوفى والدها بعمر العشر سنوات، اليتم ومساعدة أمها حرمها من تعلم القرآن في الصغر
    .
    وزودتني أمي بأسماء الرائعات اللاتي علمن الصغيرات كتاب الله أيام طفولتها في كل من الخارجية وأرض الجبل لأن فريق الأطرش لم تكن فيها ولا معلمة واحدة، والدتي تذكرت البعض وتقول ربما غاب عن بالها أسماء فالعودة إلى أكثر من 70 عاما للوراء ليس سهلا، وقد وضعت الأسماء حرفيا حسب مخاطبة الناس في ذلك الوقت.
    الخارجية:
    1- «طيوب»، طيبة حسين عبدالله العلق «أم علي بن عيسى بن مكي العلق».
    2- «رويعية» بنت حجي محمد الرويعي، زوجة آل درويش.
    3- «مرزوقة» أم حسين الحبيب بنت علي بن عيسى السنونه.
    وبالنسبة للرجال:
    الحاج سلمان
    العقيلي وولده علي بن سلمان العقيلي.
    أرض الجبل:
    1- أم بدر زوجة بن أمين.
    2- نورية «طيوب»
    بنت آل نور زوجة علي بن عيسى آل دعبل.
    3- «دقدوقة» أم حبيب الدقدوق زوجة آل عبد النبي.
    4-...... بنت منصور آل درويش
    5-...... بنت نصيف.
    بالاضافة إلى الحاج محمود بن درويش وبالقرب منه أخيه عبد الحسين في نخل المفضلي «معلم كاتب السطور».
    رحم الله هؤلاء المعلمين والمعلمات الأفاضل، اجتهدوا وحفروا في الصخر لتعليم الأطفال في زمن البؤس والفقر، عبر مصاحف طالعتها العيون انكبابا لتلقي نور الله وقد تناقلتها الأجيال
    .
    الجدير بالذكر بأن جميع المصاحف المتداولة في ذلك الزمن قادمة من الهند ”مطبعة محمدي بمبي“ التي تأسست سنة 1837م حيث لا توجد مطابع على امتداد الخليج والجزيرة العربية، وأيضا عند بدايات افتتاح المدارس الحكومية كانت كتب الطلاب تأتي من مصر ”مطبعة بولاق“ التي تأسست في القاهرة سنة 1819م.
    إن كان للاستعمار من حسنة، فحسنته بأنه أدخل المطابع لهاتين الدولتين، فانتشرت الكتب والمصاحف على نطاق واسع وراحت عجلة المطابع تطبع الكتب بأنواعها والمجلات والصحف، المفارقة بأن موقف بعض العقول العارفة لقيمة العلم كانت مشوبا بالنهي والتحذير من طباعة كتاب الله عبر آلات الكفار، إلا إن الزمن طوى حقبة كان فيها الوعي ملتبس بين القبول والرفض تماما مثل حكاية افتتاح مدارس البنات بأنها جرم سوف يؤدي للمفسدة!! ألف تحية لكل من اضاء العقول وانتشل النفوس من براثن الظلام.
    فلاش من الذاكرة:
    كم شاهدت طلابا طوال فترة السبعيات الميلادية من القرن المنصرم يستذكرون دروسهم تحت فيافي النخيل، هربا من قسوة حر البيوت، لأن المكيفات لم تأت بعد، مثلهم عرجت للمذاكرة جنوبا وشرقا، والمكان المحبب لي شمالا برفقة زملائي رضا نجم وجعفر آل حبيب وجاسم وعلي السنونة، وشهدت عصرا صيف 76 جدالا محتدما بين ثلاثة من المتفوقين دراسيا حول حل مسألة رياضية وهما هلال الوحيد وزكي شاه درويش وعلي مسيري، مشاهد متشابهة لغيرهم من أبناء فريق الأطرش والخارجية يدرعون البساتين حفظا وحلول مسائل، وبين الزروع ذكريات أرقام وحروف وتدوينات قلم، انتعاش نفس وانشراح صدر، وتلقي العلم والصبر عليه مثل نبتة كلما رعيتها كبرت وأثمرت مستقبلا.
    كان فريق الأطرش مرتعا للمذاكرة والفلاحون مساحة ترحاب وحسن تقدير بضيافة وكرم.




  10. #10
    مراقبة
    ضوء أديسون
    أمي من فريق الأطرش «8»

    للأمكنة طعم ورائحة ونكهة لا تقاوم، تتغلل في الحواس من غير استئذان، الطلع والريحان وتفتق الزهر فيض حسن لمزارع الشمال، شذى يفوح من بساتين فريق الأطرش عطرا ونشوة، تتلاقى الأرواح لحكايات عشق مسافرة، هائمة في ليله الهادئ كما النفوس المطئنة، أنين ونغمة رنين سلبت الحواس، بين الخدر والنعاس براءة تاهت في بحور وجدان ليلى.
    موعد اللقاء يجمعنا مع حلول الظلام، نتساعد في اشعال اللمبات ونوزعها على امتداد أرضية بيت أمي العودة، و”اللمبة“ عبارة عن قارورة زجاجية ملئ بالگاز وبداخلها فتيلة تبرز للاعلى قليلا مثبتة عند الفوهة بالتمر تتشبع بالگاز طوال الاشتعال وتضاء من مغيب الشمس إلى الربع الأول من الليل.
    هي اللمبة ضوئها المنعكس على وجوهنا أثناء تحلقنا حول أمي العودة، لتطربنا بأهازيجها وحكاياتها العذبة، تداعبنا في البدء بالألغاز «الحزاوي»، "يا وليداتي عبد وزهرة وزينب، يالله تعرفوا هالحزاية:
    من له في العلم ساس أو باس، حدني على چفة تمشي بليا رأس؟"
    نحزر ونفكر نطلق عدة أسماء ونعجز، ثم تجيبنا بأنها ”الگبگبة“ - سرطان البحر -، ثم تأتينا بلغز ثان، ”كل طير طار على اللامة، قتلته ماطلع دمه“؟
    نرمي أسماء خبط عشواء فلا نهتدي للمقصود، تجيبنا بأنه الغزال ”اليعسوب“، وتأتينا بلغز آخر:
    ”حجرة حجنجرة ماهي احجاره له، تبيض وتفقس وتمشي على اربع ماهي حماره له“، من كثرة سماعنا لهذا اللغز اجبناها فورا وبصوت متسارع، ”الجوعنية“ السلحفاة، كم نتمنى بأن الوقت يكون بطيئا كمشيتها ليطول أُنسنا.
    تسرح أُمي قليلا ثم تستدرك لغزا بأخذها نفس طويل: ”اولها عظام الفيل، فانيها دق المفاقيل، فالفها عقاق لخضر، رابعها مرجان لحمر، خامسها زاد لمقلين“،
    طرحنا أسماء كثيرة ولم نهتدي للجواب، تتبسم أُمنا وتطلق ضحكات خفيفة برغم تأشيرات يديها لتقريب المعني لأذهاننا ولكن دون جدوى، ثم تجيب بشيء من التفصيل: ”عظام الفيل: الجذع، دق المفاقيل: الكر، عقاق الأخضر: الخلال، مرجان لحمر: الرطب، زاد المقلين: التمر، عرفتوها؟ ”وبصوت واحد“ النخلة“.
    نلحُّ عليها ”خلاص اماه سوي لينا خرافة“، تباشير وجهها فيض محبة، وحكاياتها مسرح خيال، نستعد ونقترب منها أكثر بانجداب دون حراك: وتلزمنا في البدء بترديد الصلوات مع مسح وجوهنا بأيدينا، "حتى اتصلوا على محمد وآل محمد:
    هذا واحد كله يروح إلى صاحبه، وديك الليلة مهل في عتمته، واستبطته مرته، وهو إذا جاء يحط الأكل إلى حصانه، وقالت في نفسها مدام اتأخر رجلي، أقوم الحين أنّفع لحصان - والحياوين قبل لا ينامو لازم أنّفعهم - راحت مرته وحدرت من عليه العدّة وحطت الأكل من گت وحشيش وحطت الماي وهي تمسح على رقبة لحصان، بشوي إلا وبجيت رجلها، وماميش ضوه يكشف الشيء له عدل، بس شاف واحد يتحرك أمّل عليه حرامي بيبوق حصانه وخاف منه وقال أكيد عنده اسلاح
    يمكن يقتلني بعد، إنچان يرفع تفگه ويفور فيه، - طاخ - صرخة - احطم - وعلى الأرض، ما جاء الا هي مرته تتعفر بدمانها تحت رجول حصانه، أ أ هدي مرتي يا ربي، واويلاه يقلبها منه ومنه ماميش، فاضت روحها، يهززها، وهو يزعق عليها ”يا دويخ“، ”يادويخ“ أنا ويش سويت فيش، يا الله، اويلي على حظي وزماني، الرجال ادوده، وكتل روحه من لصياح والصريخ عاض أصابيع الندم، دارت به الدنيا وقعد على الأرض، مدد رجايله وحط رأس مرته على فخده وهو ينوح چنه يهودي على جاهل بانفاس محترگه:
    ضربتش بالتفق يانجمة الفجري
    ضربتش بالتفق والناس ماتدري،
    على دويخ العزيزه لجدب الونة.
    ضربتش بالتفق يانجمة الغباش،
    ضربتش بالتفق لاباس عليش لاباس،
    على دويخ العزيزة لجدب الونة.

    ضربتش بالتفق ليت التفق جاني،
    حسبته حرامي بايق حصاني،
    على دويخ العزيزة لجدب الونة.
    قام يقصد عليها، ويصيح، فاتت بعد ويه، ويش يسوي الحين، وطول الليل يون عليها، أصبح الله الصباح استخبروا أهله وعرفوا جيرانه بقصته، وقدموا له العزاء، شالوها وشيعوها وغسلوها وكفنوها ودوها على مشارف القبر، قال إلى بحاف القبر استنى:
    يابحاف القبر سوي للقبر باب،
    وسوي رويزنه إلى يم الاحباب،
    يابحاف القبر سوي للقبر تابوت،
    رمامينه ذهب وفصوصه الياقوت.

    إيه، يقصد ويجيب وينوح، قالوا له بعد الحين ويش بيدك تسوي، إن قال ليها راحت، هديكيه عندها خت اتزوجها، مضت الأيام فالأيام، وعرسوه على ختها لكن مالاقت له ابدا، قام يقصد عليها:
    جتنا أم القمل تسحب حضاياها،
    حسبته طرب بانام وياها،
    على دويخ العزيزة لجدب الونة،
    جتنا أم القمل تسحب نخيلتها، حسبته طرب بانام ليلتها،
    على دويخ العزيزة لجدب الونة.
    جته صحنه، استجن على مرته الأوليه، كلشي مو جايز له في الدنيا، خيرته راح البحر، قعد على السيف، وقال:
    ياخور الغبر چفخ وأنا باغني،
    ياخور الغبر ويش ابعدك عني.
    رمى روحه في البحر

    حتى فطس ومات "!.
    بريق دمع على الخدود والليل يداري انفعالتنا، غمرتنا الوحشة رعشة حزن، وكأن الحكاية حقيقة، ستختلف مشاعرنا لو كان السرد نهارا، من أدخلنا في قلب المشاهد باقتدار، هو درامتيكية الحدث، وجرة صوت جدتي ليلى وتنغيمها بالآهات، مع التنهيدات المطولة، جعلتنا في عمق القصة حتى ظنناها ليست بخرافة، أمي مريم قالت لي لاحقا باحتمالية واقعية القصة حسب السنة بعض الرواة، بالفعل تهنا وشعرنا بالأسى وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا حيا تقع تفاصيله أمامنا للتو واللحظة.
    أحاسيس دافقة، ومشاعر مسافرة نحو السماء، هدوء الليل ومصابيح الكون زينة وتفكر، ولغز محير، تشير جدتي إلى النجوم ”شوفوا يا أولادي هذه الفلاف نجمات اللي صايرين في سطر واحد يسموهم الميزان“.
    وتحيلنا إلى النجوم بأنها تحارب الشياطين، وعلامات لقوافل المسافرين الذين يدركهم الليل. نتوه في كنه أشكال الشياطين هل هم يتواجدون في العالم اللآمرئي
    ، يروننا ولا نراهم، أم في العالم السفلي وكيف يعيشون ويخرجون لنا ويختفون، وأوضحت لنا أمي بانقسامهم إلى نوعين، شياطين الأنس والجن يوحى إلى بعضهم البعض، وأوصتنا في كل خطواتنا بأن نستعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واستحضرت الينا منظر رجم الحجاج للعقبات الثلاث الذي تخفى ورائهم الشيطان معترضا طريق النبي ابراهيم الخليل ليرميها بالحصيات إلى أن اختفى الشيطان.
    تساؤل طرحناه في الليل البهيم، لماذا هذه المخلوقات المضلة وجدت لغواية الانسان؟، وتهنا لشرح أمي بين الذي يتكاسل عن الصلاة بأن الشيطان يوسوس له في قلبه، لم نستوعب كلامها عن دلالة الحسي والمعنوي، وارتعبنا من تصويرها للجن بأنهم خلقوا من مارج من نار وابليس أبو الجان! براءة حايرة في طلاسم الوجود وأسرار الكون الخفية والغاز الحياة المبهمة.
    صوت جندب مستمر وخوار بقر متقطع، ونباح كلب يشتد وينخفض، أنفاس أمي مع الگدو دخان يتاطير في الفضاء. طالبناها بسرد حكاية ثانية، فاستجابت لنا بترحاب
    :
    " هذي وحده ذات جمال، چنها نجمة صبح، استخطفها عفريت واخذها وخلاها تخدم عنده، جت ديك اليوم، بعد ما أخذ عليها القهر وزاد عليها الضيق، جت عند جاري ماء وقعدت تتأمل، شافت ديك الدودة تسبح وقالت:
    يادودة الماء، يادودة الماء، سليميلي على أمي وأبي، وسلميلي على أحمد كبير أخوتي، وقولي ليهم رأس المال تخدم خيزران ".
    كل واحد منا حبس بكاؤه في صدره، لكن الدمع غالبنا تحت عرايش الگيض، أطفئنا اللمبات ونحن في حالة تيه، تلحفنا بالخيال ورؤسنا توسدت الأحلام.
    المدهش عند أمي العودة ليس بإدخالنا عوالم الفنتازيا المستوحاة من التراث المحلي فحسب إنما قدرتها على التحدث وفي نفس الوقت يدها مشغولة بالخيط والأبرة تشكل بهما زخارف شعبية على الاقمشة من سراويل وبخانگ وغيرها، أناملها موغلة بفن ولسانها يوصف مع تغير طبقات صوتها حسب مقتضيات القصة «الخرافة» أو الأهزوجة الأمر الذي يجعلنا نعيش أجواء السرد بكل تفاصيل الحدث، وبجانب تسليتنا كعادة العديدة من جدات زمان أول فهي تقدم لنا معلومات ومعارف من حيث لا ندري.
    لا تكلُّ أمي وفي كل الظروف عن التحدث عن حياة الأولين، والمشي سنينا للوراء لأناس عاشوا على هذه الأرض في الأزمنة الغابرة، مشاهد وقصص وسوالف وحكايات نقلتها أُمي العودة لبناتها والأحفاد. أمي مريم وجدتي ليلى شكلتا مخيلتي، وسافرتا برؤيتي بعيدا نحو عوالم الفن والخيال.
    أي سحر أطربني صغيرا والبراءة شغف لا حدود له، سرت مبهورا نحو مواطن الماورائيات.
    التعديل الأخير تم بواسطة ❀ Bookworm ❀ ❦ ; 5/May/2022 الساعة 12:44 am

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال