نوبل عام 1997.. البريونات القاتلة
ull Transcript
في عشرينياتِ القرنِ الماضي؛ اكتشفَ العالِمان الألمانيانِ "هانز كروتزفيلد" و"ألفونس جاكوب" مرضًا تنكسيًّا يُصيبُ الأغنامَ والماعزَ والبشر، يتسببُ ذلكَ المرضُ في اضطراباتٍ دماغيةٍ تُشبهُ الخرَف؛ إلا أنَّه على عكسِه، يتفاقمُ بسرعةٍ كبيرة.
لمْ يعرفْ أحدٌ سببَ ذلكَ المرض؛ الذي أُطلقَ عليهِ مرضَ "كروتزفيلد-جاكوب". إلا بعدَ مرورِ نحوِ ستينَ عامًا على اكتشافِه؛ حينَ تمكَّنَ العالِمُ الأمريكيُّ "ستانلي بروسينر" منْ تحقيقِ اكتشافٍ رائد؛ لمْ يُفسرِ السببَ وراءَ ذلكَ المرضِ فحسبُ؛ بلْ حددَ أسبابَ فئةٍ كاملةٍ منَ الأمراضِ يقعُ في القلبِ منها مرضُ "كروتزفيلد-جاكوب". هذا الاكتشافُ قادَ "بروسينر" للحصولِ على جائزةِ نوبل الطبِّ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةٍ وتسعين.
يعرفُ الجميعُ أنَّ الفيروساتِ تُسببُ الأمراض؛ وأنَّ البكتيريا والفطرياتِ والطفيلياتِ تفعلُ الأمرَ ذاتَه. لكنَّ "بروسينر" تمكَّنَ منِ اكتشافِ نوعٍ جديدٍ تمامًا منَ العواملِ المسبِّبةِ للأمراض؛ وقامَ بتوضيحِ المبادئِ الأساسيةِ لطريقةِ عملِها. ذلكَ النوعُ الذي أَطلقَ عليهِ العالِمُ الأمريكيُّ اسمَ "البريونات".
تُوجدُ البريوناتُ بشكلٍ طبيعيٍّ كبروتيناتٍ خلويةٍ غيرِ ضارة، إلا أنَّ لَها قدرةً فطريةً على تحويلِ هياكلِها إلى تركيباتٍ شديدةِ الثباتِ تؤدِّي في النهايةِ إلى تكوينِ جزيئاتٍ ضارة، ما يجعلُها أحدَ العواملِ المسببةِ للعديدِ منْ أمراضِ الدماغِ المميتةِ في البشرِ والحيوانات. قدْ تكونُ أمراضُ البريون وراثية، وقدْ تحدثُ تلقائيًّا. وتُسببُ ضررًا شديدًا في مناطقَ دماغيةٍ مُحوِّلةً الخلايا العصبيةَ إلى خلايا لها مظهرٌ إسفنجيٌّ مميز.
وتُسببُ تلكَ البريوناتُ أعراضًا عصبيةً منْ ضمنِها ضعفُ التحكمِ في العضلاتِ وفقدانُ الذاكرة. أسهَمَ نجاحُ "بروسينر" في اكتشافِ تلكَ الجسيماتِ في توفيرِ بصائرَ مهمةٍ وفرتْ أساسًا لفهمِ الآلياتِ البيولوجيةِ الكامنةِ وراءَ عددٍ منَ الأمراضِ التنكسية؛ كالخرفِ والشللِ الرعاش، كما وضعتِ العلماءَ على الطريقِ المُثلَى لتصميمِ أدويةٍ وأنواعٍ جديدةٍ منْ إستراتيجياتِ العلاجِ الطبي.
في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وسبعين، بدأَ "بروسينر" عملَهُ بعدَ وفاةِ أحدِ مرضاهُ بسببِ الخرَفِ الناتجِ عنْ مرضِ كروتزفيلد جاكوب. كانَ هناكَ العديدُ منَ النظرياتِ المتعلقةِ بطبيعةِ العامِلِ المُسببِ للمرض، بما في ذلكَ النظرياتُ التي افترضتْ أنَّ ذلكَ العاملَ يفتقرُ إلى الحمضِ النووي، وهيَ فرضيةٌ مثيرةٌ منذُ ذلكَ الوقت، إذِ احتوتْ جميعُ العواملِ المُعديةِ المعروفةِ -كالبكتيريا والفيروسات- على المادةِ الوراثيةِ DNA أو RNA.
قبلَ "بروسينر" كانَ هناكَ تحدٍّ هائلٌ لتحديدِ العامِلِ المُسببِ لذلكَ المرضِ بدقة؛ وبعدَ عَشرِ سنواتٍ منَ الأبحاث؛ نجحَ في إنتاجِ مستحضرٍ مشتقٍّ منْ أدمغةِ فئرانِ التجاربِ المريضةِ يحتوي على عاملٍ مُعدٍ يتكونُ منْ بروتينٍ واحدٍ فقط.. أَطلقَ عليهِ "بروسينر" اسمَ "البريون"، وهوَ اختصارٌ معناهُ "جسيمٌ مُعْدٍ بروتيني".
استقبلَ المجتمعُ العلميُّ هذا الاكتشافَ بقدرٍ كبيرٍ منَ الشك، ومعَ ذلكَ، واصلَ "بروسينر" مهمتَه الشاقةَ لتحديدِ الطبيعةِ الدقيقةِ لهذا العامِلِ المُعدي الجديد.
كانَ هناكَ العديدُ منَ الأسئلةِ التي تشغلُ بالَ "بروسينر"...فأينَ الجينُ الذي قامَ بتشفيرِ البريون، وما هيَ قطعةُ الحمضِ النوويِّ التي تحددُ تسلسلَ الأحماضِ الأمينيةِ المكونةِ لبروتينِ البريون؟
جاءتِ الإجاباتُ عنْ هذهِ الأسئلةِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وثمانينَ عندَما عزلَ بروسينر مسارًا جينيًّا ليُظهرَ لاحقًا أنَّ جينَ البريون موجودٌ في جميعِ الكائناتِ الحيةِ التي تمَّ اختبارُها، ومن ضمنِها الإنسان!
لكنْ؛ إذا ما كانَ ذلكَ الجينُ موجودًا في جميعِ الحيوانات؛ وفي البشر.. فلماذا يُصابُ بعضُها فقط بالخرَفِ في حينِ لا يُصابُ معظمُها بذلكَ المرض؟
جاءتِ الإجابةُ بعدَ عامَينِ آخرَين؛ حينَ اكتشفَ "بروسينر" أنَّ ذلكَ البروتينَ الذي يُشفرُه ذلكَ الجينُ ينقسمُ إلى شكلَينِ متميزين؛ أحدُهما يُسببُ المرض؛ أما الشكلُ الآخرُ فلا يُسببُ أيَّ مشكلة.
فالبروتينُ المُسببُ للمرض -والذي يُطلَقُ عليهِ اسمُ PrPSc- مستقرٌّ للغاية؛ ولا يتحللُ بالمذيباتِ العضوية؛ وبالتالي يتراكمُ في الدماغِ ويتزايدُ ليُتلفَ أنسجةَ الدماغِ ويُسببَ الأمراضَ التنكسية.
بعدَ ذلكَ؛ اكتشفَ "بروسينر" مجموعةً منَ الطفراتِ المحددةِ داخلَ جينِ البريون. تتسببُ تلكَ الطفراتُ في تكوينِ البروتيناتِ المستقرة؛ وعندَما تتجمعُ في منطقةِ المخيخ؛ تنخفضُ القدرةُ على تنسيقِ حركاتِ الجسم. في حينِ تتأثرُ الذاكرةُ والحدةُ العقليةُ إذا ما تجمعتِ القشرةُ الدماغية. في الوقتِ الذي تؤثرُ فيهِ البريوناتُ التي تصيبُ جذعَ الدماغِ بشكلٍ أساسيٍّ على حركةِ الجسم.
أكدَ "بروسينر" أيضًا أنَّ البريوناتِ أصغرُ بكثيرٍ منَ الفيروسات. كما أوضحَ سببَ عدمِ إثارتِها للاستجابةِ المناعية.. فتلكَ الجزيئاتُ موجودةٌ كبروتيناتٍ طبيعيةٍ منذُ الولادة. كما أنَّها ليستْ سامة، ولكنها تصبِحُ ضارةً فقطْ منْ خلالِ التحوُّلِ إلى بنيةٍ تمكِّنُ بروتيناتِ البريونِ المسببةِ للأمراضِ منَ التفاعُلِ معًا لتشكيلِ هياكلَ تشبهُ الخيوطَ والتجمعاتِ التي تدمرُ الخلايا العصبيةَ في النهاية؛ وبالتالي لا تُوجدُ آلياتُ دفاعٍ مناعيةٌ ضدَّ البريونات؛ تلكَ الجزيئاتُ التي تظلُّ تعبثُ في أدمغتِنا دونَ رادعٍ حتى تتمكنَ منْ قتلِ المُصابِ بها.
بسببِ عملِ "بروسينر" الرائد؛ تمكَّنَ العلماءُ منْ تفسيرِ أسبابِ أمراضٍ مختلفةٍ تصيبُ الإنسانَ والحيوان؛ منْ ضمنِها مرضُ "سكرابي" الذي يُصيبُ الأغنامَ واكتُشفَ في القرنِ الثامنَ عشَرَ ولمْ يعرفِ العلماءُ سببَه حتى جاءَ "بروسينر" بالتفسيرِ الذي وضحَ أيضًا أسبابَ مرضِ "جنونِ البقر" الذي يُصيبُ الماشية؛ ومرضِ "جيرسمان-ستراويلر-سينكر" الذي يُصيبُ البشر؛ و"الأرقِ العائليِّ المُميت".. وبالطبعِ مرضَ "كروتزفيلد-جاكوب".
لأكثرَ منْ عَشرِ سنواتٍ بعدَ الاكتشاف؛ خاضَ "بروسينر" معركةً غيرَ متكافئةٍ ضدَّ معارضةٍ ساحقةٍ في المجتمعِ العلمي. ومعَ ذلك؛ قررَ العالِمُ الأمريكيُّ الاستمرارَ في عملِه حتى اكتمالِ أركانِه في تسعينياتِ القرنِ العشرين؛ وحينَ طرحَ الدليلَ كاملًا؛ سكتتِ الألسنة؛ ورُفعتِ القبعاتُ تحيةً لذلكَ الرجلِ الذي اكتشفَ عاملًا مرضيًّا مُعديًا ينبُعُ منْ داخلِنا.. عاملًا اسمُه البريون.
وُلدَ "ستانلي بروسينر" عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وأربعينَ في ولايةِ "أيوا" الأمريكية. تمتْ تسميتُه على اسمِ الأخِ الأصغرِ لوالدِه الذي تُوفيَ بمرضِ "هودجكين" عنْ عمرٍ يناهزُ أربعةً وعشرينَ عامًا. التحقَ والدُه بالبحريةِ الأمريكيةِ مُجندًا خلالَ الحربِ العالميةِ الثانية؛ لتنتقلَ العائلةُ معَهُ إلى بوسطن التي كانتْ آنذاكَ مركزًا لتدريبِ الضباطِ البحريين؛ خدمَ والدُه في جزيرةِ "إنيوتوك" بجنوبِ المحيطِ الهادئ؛ تلكَ الجزيرةُ التي شهدتْ بعدَ عشَرةِ أعوامٍ تفجيرَ أولِ قنبلةٍ هيدروجينيةٍ في التاريخ.
بعدَ نهايةِ الحربِ العالمية؛ عادتِ العائلةُ إلى مسقطِ رأسِها مرةً أخرى؛ وحصلَ والدُه على وظيفةِ مهندسِ معمار؛ تلكَ الوظيفة التي وفرت لعائلته منزلًا مريحًا ودخلًا جيدًا.
التحقَ "ستانلي" بمدرسةٍ محليةٍ وأطلقَ عليهِ زملاؤُه اسمَ العبقريِّ الصغيرِ بعدَ أنْ صممَ جهازًا طاردًا للحشرات. درسَ في تلكَ المدرسةِ اللغةَ اللاتينيةَ لمدةِ خمسِ سنوات؛ الأمرُ الذي ساعدَه لاحقًا على كتابةِ الأوراقِ العلمية. وللمضيِّ قُدُمًا في حبِّه للعلم، التحقَ بجامعةِ بنسلفانيا حيثُ تخصصَ في الكيمياء. بالإضافةِ إلى الدوراتِ العلمية، درسَ أيضًا الفلسفةَ وتاريخَ العمارةِ والاقتصادَ والتاريخَ الروسي، وحصلَ في النهايةِ على درجةِ بكالوريوسِ العلومِ في الكيمياءِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وستين.
في أوائلِ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وستين، عادَ إلى فيلادلفيا لإكمالِ دراستِه والتفكيرِ في خياراتِه. تلقَّى عرضًا بتقلدِ منصبٍ في المعاهدِ الأمريكيةِ للصحةِ بمجردِ أنْ أكملَ فترةَ تدريبٍ في الطب؛ قبِلَ العرضَ وبدأَ العملَ هناكَ على بكتيريا الأشريكيةِ القولونية.
في المعاهدِ الأمريكيةِ للصحة؛ تعلمَ قدرًا هائلاً عنْ عمليةِ البحثِ العلمي؛ وتطويرِ المقايسات، وتنقيةِ الجزيئاتِ الكبيرة، وتوثيقِ الاكتشافِ بالعديدِ منَ الأساليب، وكتابِة مخطوطاتٍ واضحةٍ تصفُ ما هوَ معروفٌ وما تبقَّى منَ التحقيق. معَ اقترابِ نهايةِ الفترةِ التي أمضاها في المعاهدِ الأمريكيةِ للصحة، قررَ تطويرَ مهارتِه في التعرفِ على الجهازِ العصبي؛ وفي يوليو عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وسبعين، بدأَ العملَ في جامعةِ كاليفورنيا سان فرانسيسكو في قسمِ طبِّ الأعصاب.
بعدَ شهرينِ، استقبلَ مريضةً كانتْ تُعاني منْ فقدانٍ تدريجيٍّ للذاكرةِ وصعوبةٍ في أداءِ بعضِ المهماتِ الروتينية. فوجئَ عندَما علمَ أنَّها كانتْ تموتُ منْ عدوى "فيروسٍ بطيء" يُسببُ مرضَ كروتزفيلد جاكوب. أدركَ وقتَها أنَّ تلكَ "العدوى" لا يُمكنُ أنْ تُسببَها الفيروساتُ بسببِ عدمِ وجودِ أيِّ استجابةٍ منْ دفاعاتِ الجسمِ المناعية؛ لذا قررَ البحثَ عنْ "سببٍ تخيُّليٍّ" للإصابةِ بذلكَ المرض؛ ليبدأَ مشروعَه البحثيَّ الخاصَّ الذي قادَه لاكتشافِ البريونات.
في البدايةِ؛ واجهَ "بروسينر" معارضةً عميقة. يقولُ العالِمُ الأمريكي: "في حينِ أنَّهُ منَ المعقولِ تمامًا للعلماءِ أنْ يكونُوا متشككينَ في الأفكارِ الجديدةِ التي لا تتناسبُ معَ مجالِ المعرفةِ العلميةِ المقبولة، غالبًا ما ينبثقُ أفضلُ علمٍ منَ المواقفِ التي لا تتناسبُ فيها النتائجُ التي تمَّ الحصولُ عليها بعنايةٍ معَ النماذجِ المقبولة".
في بعضِ الأحيان، كانتِ الصحافةُ تنخرطُ في معاركَ ضدَّ أفكارِه؛ تسببَ الهجومُ عليهِ في معاناةِ زوجتِه وأطفالِه. إلا أنَّه استكملَ عملَه بجلَدٍ وصبر؛ حتى اكتملتْ نظريتُه وأصبحتْ غيرَ قابلةٍ للدحض.
يقولُ "بروسينر": كثيرًا ما سألَني الناسُ عنْ سببِ إصراري على إجراءِ بحثٍ حولَ موضوعٍ مثيرٍ للجدل. كثيرًا ما أردُّ بإخبارِهم بأنَّ عددًا قليلًا فقطْ منَ العلماءِ حصلُوا على فرصةٍ كبيرةٍ لمتابعةِ موضوعاتٍ جديدةٍ ومختلفةٍ لدرجةِ أنَّ عددًا قليلاً فقطْ منَ الناسِ يمكنُهُم فهمُ معنى هذهِ الاكتشافاتِ في البداية. أنا واحدٌ منْ هؤلاءِ العلماءِ المحظوظينَ حقًّا الذينَ أُتيحتْ لهمْ فرصةٌ خاصةٌ للعملِ على مثلِ هذهِ المشكلةِ - مشكلةِ البريونات.