نوبل عامَ 1993.. ثورةُ البنيةِ الجينية

Full Transcript
داخلَ نواةِ الخلية؛ تَقبعُ جزيئاتُ الحمضِ النوويِّ في الكروموسومات. تحتوي كلُّ خليةٍ على ستةٍ وأربعينَ كروموسومًا يحملُ كلُّ واحدٍ منها جزيءَ حمضٍ نوويٍّ ريبوزيٍّ منزوعِ الأكسجين DNA. تتحكمُ تلكَ الجزيئاتُ في كلِّ العملياتِ الحيويةِ دونَ استثناء. فمنْ خلالِ عمليةٍ دقيقةٍ للغاية؛ يُشتقُّ منها الحمضُ النوويُّ الريبيُّ المرسال RNA؛ الذي يقومُ بتكوينِ البروتيناتِ منَ الأحماضِ الأمينية؛ تلكَ الموادُّ التي تُكوِّنُ الخلايا والأنسجةَ والأعضاءَ وتجعلُنا نبدو على ما نحنُ عليه.
لتكوينِ البروتين؛ أيِّ بروتين؛ تبدأُ مادةٌ خلويةٌ تُسمَّى الريبوزوم في قراءةِ التعليماتِ منْ شريطِ الحمضِ النوويِّ الرسول. تلكَ التعليماتُ رتَّبتْها الجيناتُ التي تُعدُّ مقطعًا مميزًا منْ DNA تتكونُ فيها الحروفُ الجينيةُ في شكلِ "كودٍ" لتنفيذِ أمرٍ معين.
في القرنِ العشرين؛ زادتْ معرفتُنا بالمادةِ الجينيةِ بسببِ الإنجازاتِ في مجالِ البيولوجيا الجزيئية. كانَ العلماءُ يدرسُونَ الكائناتِ الحيةَ البسيطةَ لمعرفةِ طبيعتِها الجينية. ولطالَما تصورُوا أنَّ الجينَ هوَ جزءٌ مستمرٌّ داخلَ جزيئاتِ الحمضِ النووي. أيْ أنَّ الجينَ يتكونُ منْ تتابُعِ الحروفِ الجينيةِ داخلَ جزيئاتِ شريطِ الحمضِ النوويِّ اللولبي. لكنَّ تلكَ الصورةَ البسيطةَ للبنيةِ الجينيةِ تغيرتْ تمامًا عندَما اكتشفَ كلٌّ منْ "ريتشارد روبرتس" و"فيليب شارب" في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةٍ وسبعينَ أنَّ الجيناتِ يُمكنُ أنْ تكونَ "متقطعة"، وهوَ الاكتشافُ الذي حصلا بموجَبِه على جائزةِ نوبل لعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وتسعين.
يعني ذلكَ الاكتشافُ أنَّ جينًا معينًا يُمكنُ أنْ يكونَ موجودًا في المادةِ الجينيةِ بشكلٍ منفصل. أيْ يُمكنُ أنْ يتكونَ الجينُ الواحدُ منْ عدةِ مقاطعَ منَ الحمضِ النوويِّ الريبوزيِّ منزوعِ الأكسجين؛ يفصلُ فيما بينَهما مجموعةٌ منَ الحروفِ الجينيةِ التي لا نعرفُ وظيفتَها حتى الآن.
أدى الاكتشافُ إلى التنبؤِ بعمليةٍ وراثيةٍ جديدة، وهيَ عمليةُ التضفير، وهوَ أمرٌ ضروريٌّ للتعبيرِ عنِ المعلوماتِ الجينية. كانَ اكتشافُ الجيناتِ المنقسمةِ ذا أهميةٍ أساسيةٍ بالنسبةِ للبحثِ الأساسيِّ في علمِ الأحياءِ اليوم، بالإضافةِ إلى المزيدِ منَ الأبحاثِ ذاتِ التوجُّهِ الطبيِّ فيما يتعلقُ بتطوُّرِ السرطانِ والأمراضِ الأخرى. كما أدى أيضًا إلى اكتشافِ قدرةِ الجينِ على تكوينِ عددٍ منَ البروتيناتِ المختلفة.
لإثباتِ تلكَ النظرية؛ استخدمَ كلٌّ منْ "روبرتس" و"شارب" فيروسًا شائعًا يسببُ نزلاتِ البرد، يُدعى الفيروسَ الغدِّي، والذي تُظهرُ جيناتُه أوجهَ تشابُهٍ مهمةً معَ تلكَ الموجودةِ في الكائناتِ الحيةِ الأعلى. وأثبتا وجودَ "الجيناتِ المُقسمة".
يصيبُ الفيروسُ الغدّي خلايا الكائناتِ الحيةِ الأعلى، ولجينومِه العديدُ منَ الخصائصِ التي تُشبهُ تلكَ الموجودةَ في الخليةِ المضيفة. في الوقتِ نفسِه، تمتلكُ الفيروساتُ الغديةُ بنيةً بسيطة، مما يجعلُها نموذجًا تجريبيًّا ذا قيمةٍ كبيرةٍ لدراسةِ الجيناتِ ووظائفِها في الكائناتِ الحيةِ الأعلى.
يتكونُ جينومُ الفيروسِ الغديِّ منْ جزيءِ DNA طويلٍ واحد. كانَ هدفُ روبرتس وشارب هوَ تحديدُ مكانِ وجودِ الجيناتِ المختلفةِ في الجينوم.
في التجاربِ؛ تبيَّنَ أنَّ أحدَ طرفَيِ الحمضِ النوويِّ الريبيِّ المرسالِ RNA للفيروسِ الغدِّيِّ لا يتصرفُ كما هوَ متوقَّع. كانَ أحدُ التفسيراتِ العديدةِ المحتملةِ هوَ أنَّ قطعةَ الحمضِ النوويِّ المقابلةِ لهذهِ النهايةِ لمْ تكنْ موجودةً في المنطقةِ المجاورةِ مباشرةً لبقيةِ الجين. لتحديدِ مكانِ وجودِ هذا الجزءِ على جزيءِ الحمضِ النوويِّ الطويل، استخدمُوا المجهرَ الإلكترونيَّ. وجدُوا بشكلٍ مفاجئٍ أنَّ جزيءَ RNA واحدًا يتوافقُ معَ ما لا يقلُّ عنْ أربعةِ أجزاءٍ منفصلةٍ جيدًا في جزيءِ DNA. توصَّلَ روبرتس وشارب إلى استنتاجٍ مفادُه أنَّ المعلوماتِ الجينيةَ في الجينِ تمَّ تنظيمُها بشكلٍ متقطعٍ في الجينوم، وهوَ استنتاجٌ يتناقضُ معَ وجهةِ النظرِ الشائعةِ بشأنِ بنيةِ الجينات. أدى الاكتشافُ على الفورِ إلى إجراءِ بحثٍ مكثفٍ لمعرفةِ ما إذا كانَ هذا التركيبُ الجينيُّ موجودًا أيضًا في فيروساتٍ أخرى وفي الخلايا العادية. بعدَ وقتٍ قصيرٍ جدًّا منَ الاكتشافِ الأولي، استطاعَ العديدُ منَ الباحثينَ إظهارُ أنَّ التركيبَ الجينيَّ المتقطعَ كانَ شائعًا - وهوَ في الواقعِ التركيبُ الجينيُّ الأكثرُ شيوعًا في الكائناتِ الحيةِ الأعلى؛ التي تُدعى بحقيقياتِ النُّوى؛ والتي منها الإنسان.
وهكذا؛ اكتشفا بشكلٍ مفصلٍ إمكانيةَ تكوُّنِ الجينِ منْ عدةِ أجزاء، يُطلقُ عليها إكسونات؛ وهيَ قطعةٌ منَ الـ DNA تمَّ نسخُها لتصبحَ جزءًا منَ الـRNA ولا يتمُّ التخلُّصُ منها عندَ معالجتِه. يفصلُ تلكَ الأجزاءَ مادةٌ جينيةٌ تُعرفُ باسمِ الإنترون، وهوَ جزءٌ يتمُّ حذفُه منَ التركيبِ النهائيِّ للـ RNA. أحدثَ ذلكَ الاكتشافُ ثورةً هائلةً في علومِ الجينات. إذِ استخدمَ الباحثونَ تلكَ المعرفةَ للكشفِ عنْ مجموعةٍ كبيرةٍ منَ الطفراتِ الجينيةِ المؤديةِ إلى بعضِ الأمراضِ الوراثية؛ وهوَ ما يمهِّدُ الطريقَ -في المستقبلِ- لعلاجِها.
وُلدَ "ريتشارد روبرتس" عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثلاثةٍ وأربعينَ في المملكةِ المتحدة. كانَ ابنًا وحيدًا لأبٍ يعملُ ميكانيكيَّ سيارات. أمَّا والدتُه فقدْ كانتْ ربةَ منزل.
في المدرسةِ الإعدادية؛ اكتشفَ حبَّهُ للرياضيات؛ شجَّعَهُ أحدُ معلميهِ؛ وصنعَ له خصيصًا مجموعةً منَ الألغازِ شجعتْهُ على عشقِ منطقِ الرياضيات. في ذلكَ الوقتِ؛ كانَ يُريدُ أنْ يُصبحَ محققًا.
يقولُ "روبرتس": بدا ليَ الأمرُ جيدًا وممتعًا أنْ يدفعَ لكَ الناسَ أموالًا لحلِّ الألغاز.
لكنْ؛ تغيرَ الأمرُ بسرعةٍ حينَ تلقَّى هديةً قيِّمة، مجموعةً منْ أدواتِ التجاربِ التي يُطلَقُ عليها "مجموعةُ الكيمياء".
سرعانَ ما انتهى منْ إجراءِ كلِّ التجارب؛ وبدأَ في القراءةِ في ذلكَ العلم.
يقولُ "روبرتس": رتَّبَ والدي، الذي كانَ داعمًا دومًا، لبناءِ خزانةٍ كيميائيةٍ كبيرةٍ كاملةٍ بسطحٍ منَ الفورميكا وأدراجٍ وخزائنَ ورفوف. كانَ هذا بمنزلةِ فخري وسعادتي لسنواتٍ عديدة. منْ خلالِ والدي، قابلتُ صيدليًّا محليًّا أصبحَ مصدرًا للموادِّ الكيميائيةِ التي لمْ تكنْ موجودةً في متاجرِ الألعاب. سرعانَ ما اكتشفتُ الكيفيةَ التي أصنعُ بها الألعابَ النارية، ولحسنِ الحظِّ نجوتُ منْ تلكَ السنواتِ دونَ إصاباتٍ خطيرةٍ أوْ حروق. وقتَها؛ كنتُ أعلمُ أنني يجبُ أنْ أكونَ كيميائيًّا.
كانَ "روبرتس" قارئًا شغوفًا، تلقَّى دروسًا منْ والدتِه في وقتٍ مبكرٍ جدًّا. التهمَ كلَّ كتبِ الكيمياءِ التي تمكَّنَ منْ إيجادِها. بدتِ الكيمياءُ الدراسيةُ مملةً بالمقارنةِ بتجاربِه وكانَ أداؤُه متوسطًا. لكنْ كانَ متفوقًا في الرياضيات.
خلالَ الدراسةِ الثانوية؛ اكتشفَ حبَّهُ للشطرنج؛ والبلياردو. كما اكتشفَ أيضًا رياضةَ الكهوف. ولا يزالُ "روبرتس" يمارسُ تلكَ الألعابَ حتى كتابةِ تلكَ السطور.
في سنِّ السادسةَ عشْرةَ فصاعدًا، وجدَ أنَّ المدرسةَ مملَّة؛ فشلَ في اختبارِ الفيزياءِ الذي كانَ ضروريًّا لدخولِ الجامعة. لذا مكثَ عامًا إضافيًّا ونجحَ في الاختبارِ بشكلٍ رائعٍ مكَّنَهُ منْ دخولِ جامعةِ شيفيلد. درَسَ الكيمياءَ والفيزياءَ والرياضياتِ في السنةِ الأولى؛ ثمَّ اختارَ الكيمياءَ الحيويةَ كموضوعٍ فرعيٍّ في السنةِ الثانية. يصفُ "روبرتس" المحاضراتِ بالمملَّة. إلا أنَّه تمكَّنَ منَ التخرجِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وستينَ بامتيازٍ منَ الدرجةِ الثانية.
في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وستين؛ عُرضَ على "روبرتس" منصبٌ في جامعةِ "هارفارد" العريقة. في ذلكَ الوقتِ لفتَ انتباهَه البيولوجيا الجزيئية، وبدأَ في سماعِ مصطلحاتِ DNA وRNA. بالقربِ منْ شقتِه؛ سكنَ ثلاثةٌ منَ الباحثينَ في ذلكَ المجال؛ كانَ "روبرتس" يذهبُ معَهُم يوميًّا إلى الجامعة.
يقولُ "روبرتس": أصبحتِ الرحلاتُ اليوميةُ للجامعةِ والتي تستغرقُ نصفَ ساعةٍ بمنزلةِ فصلٍ خاصٍّ أنا تلميذُه الوحيد. كانُوا يشرحونَ لي معانيَ المصطلحات. تعلمتُها ببطءٍ حتى تمَّ تكليفي بمهمةِ تحديدِ تسلسلِ الحمضِ النوويِّ الريبيِّ لأحدِ أنواعِ البكتيريا، ومنْ هنا انطلقتُ في ذلكَ العالمِ الأخاذ.. عالَمِ الجينات.
لمْ ينسَ "روبرتس" حياتَه الخاصةَ قَط؛ رغمَ إنجازاتِه العلمية. يقولُ الرجل: طوالَ حياتي في العلم، كنتُ محظوظًا لأنَّ لديَّ أصدقاءَ وعائلةً سيُعيدونني إلى الأرضِ ويُذكِّرونَني بأنَّ هناكَ الكثيرَ في الحياةِ يُمكنُ الاستمتاعُ بهِ إلى جانبِ العلوم. أنا أستمتعُ بالموسيقى كثيرًا وأحبُّ جمعَ الألعابِ وممارستَها، خاصةً ألعابَ الفيديو.
وُلدَ "فيليب شارب" في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وعشرينَ في مجتمعٍ ريفيٍّ في ولايةِ كنتاكي الواقعةِ على التلالِ الشماليةِ بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكية.
طوالَ طفولتِه، شجعَه والدُه على الالتحاقِ بالجامعة؛ وعلَّمَه ادخارَ المالِ منْ أجلِ التعليمِ الجامعي. والأهمُّ منْ ذلكَ أنهم سمحُوا لهُ بكسبِ المالِ منْ خلالِ تربيةِ الماشيةِ وبيعِها في السوقِ وزراعةِ التبغ.
عندما كانَ عمرُه حوالَي عشرةِ أعوام، بدأَ في الانبهارِ بالعلومِ والرياضياتِ ومجالِ الدراسةِ الذي برعَ فيه ، وأُعجبَ الآخرونَ بقدرتِه على التفوق.
يقولُ "شارب": "جعلتني الخلفيةُ الريفيةُ لطفولتِي أشعرُ براحةٍ أكبرَ في الذهابِ إلى مؤسسةٍ صغيرةٍ في بيئةٍ مألوفة. لذلكَ، دخلتُ مدرسةَ الفنونِ الحرةَ الصغيرة، كليةَ يونيون، في سفوحِ شرقِ كنتاكي. تخصصتُ في الكيمياءِ والرياضياتِ وقررتُ أنَّني أرغبُ في مواصلةِ الدراسةِ والتعلُّمِ عنِ العلوم، وخاصةً الكيمياء".
شجعَهُ أحدُ أصدقائِه بعدَ التخرجِ للانضمامِ إلى جامعةِ "إلينوي" وهناكَ تقدَّمَ برسالةٍ لوصفِ الحمضِ النوويِّ كبوليمر باستخدامِ النظرياتِ الإحصائيةِ والفيزيائية.
في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وستين؛ وبعدَ حضورِه مؤتمرًا حولَ الجينات؛ قررَ العملَ في البيولوجيا الجزيئيةِ وعلمِ الوراثة. وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وسبعينَ التحقَ بمعهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا. ليبدأَ في إجراءِ سلسلةٍ منَ التجاربِ على جينوماتِ البكتيريا والفيروساتِ تستهدفُ الوصولَ إلى تسلسلِها الجينيِّ، وهوَ الأمرُ الذي قادَه في النهايةِ إلى الحصولِ على جائزةِ نوبل.
يقولُ "شارب" إنَّ خطواتِه في الحياةِ كانتْ مدفوعةً بالفضول. "منَ الواضحِ أنني لمْ أرغبْ في قضاءِ حياتي في العملِ كمزارع". كانَ الرجلُ محبًّا للتعلُّم. ولا يزالُ حتى الآنَ يطيرُ منْ مكانٍ إلى آخرَ لحضورِ المؤتمراتِ والنقاشاتِ العلمية.
عملَ شارب مديرًا لمركزِ أبحاثِ السرطانِ بمعهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا بينَ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وثمانينَ وعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وتسعين، ورئيسًا لقسمِ علمِ الأحياءِ بينَ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وتسعينَ وعامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وتسعين، ومديرًا لمعهدِ ماكغفرن لأبحاثِ المخِّ بينَ عامِ ألفينِ وعامِ ألفينِ وأربعة، وهوَ الآنَ أستاذٌ لعلمِ الأحياءِ في معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا