المديرون والقدرة على التماهي مع الآخرين.. لماذا يتم فقدان التعاطف كلما تقدموا في حياتهم المهنية؟
التماهي مصطلح يُستخدم بشكل كبير خلال السنوات الماضية في كل مجالات الحياة. التماهي هو القدرة على فهم أو اختبار المشاعر التي يختبرها الآخر من وجهة نظرهم؛ أي بكل بساطة هو القدرة على وضع الشخص مكان الآخر. هناك عدة تعريفات أخرى للتماهي؛ إذ إن هناك عدة أنواع منه، ولكن الصورة العامة هي أن الشخص الذي يتماهى مع الآخرين يملك النضج العاطفي والنفسي والعقلي الذي يمكنه من أن يكون واعياً وحساساً لما يشعر به الآخر، وبالتالي فهم تلك المشاعر والأفكار ضمن إطارين مكاني وزماني محددين.
التماهي مهم جداً في الحياة المهنية، وهناك عدد لا يُعد ولا يُحصى من المقالات والدراسات التي تتطرق إلى الأمر، والتي تعتبره أساسياً لعملية التواصل الصحية بين الزملاء والمديرين والموظفين، وانعكاسه المباشر على الإنتاجية وحسن سير العمل.
الذين يشغلون مناصب متقدمة في العمل بشكل عام «أقل حساسية» للآخرين الذين هم أقل مرتبة منهم. وبرغم أن هؤلاء أنفسهم كانوا خلال مراحل سابقة في حياتهم مختلفين؛ فإنهم حالياً يبدون وكأنهم فقدوا القدرة على فهم الآخرين من حولهم، أي فقدوا القدرة على التماهي.
علم النفس ومحاولته لفهم هذه المعضلة
لطالما أثار هذا الواقع اهتمام علماء النفس، ولطالما تمت مراقبة الذين يشغلون مواقع متقدمة في العمل في محاولة لفهم الأسباب التي تجعلهم أقل حساسية لمشاعر الآخرين الذين يشغلون مناصب أدنى منهم.
الخلاصة هي أن الذين يشغلون مناصب متقدمة هم أقل استعداداً لوضع وجهات نظر الآخرين بالحسبان، وأقل قدرة على تفسير مشاعر الآخرين بشكل صحيح.
هذه الخلاصة تم التوصل إليها بعد سلسلة من الدراسات أجرتها جامعة إلينوي بإشراف عالم النفس مايكل كروس. وخلال هذه الدراسات تم الطلب من الذين شاركون في الدراسة النظر إلى صور وجوه مختلفة وتحديد المشاعر التي تظهر عليها.
خلال هذه التجارب تم استخدام درجة التحصيل العلمي، الثانوي مقابل الجامعي، التي هي مؤشر على حجم الراتب والمكانة في مكان العمل والثراء بوصفه معياراً. وتبين أنه كلما كان الشخص أكثر امتيازاً كان أقل قدرة على تحديد المشاعر التي تظهر في الصور بشكل دقيق. أي بتعبير آخر، الذين يملكون النفوذ والسلطة والمال لا يملكون مهارات التعرف إلى تعابير الوجوه بشكل دقيق.
في تجربة أخرى ضمن الدراسة نفسها تمت محاكاة مقابلات العمل، وطُلب من المشاركين بالدراسة تحديد المشاعر التي تظهر على وجه الشخص الذي يجري مقابلة العمل، وقد أظهر هذا الشخص مجموعة كبيرة من المشاعر تنوعت بين الاهتمام والغضب والرضا والنفور والإحراج والسعادة والغيرة والدهشة والقلق. ومجدداً الذين يشغلون مناصب متقدمة في عملهم ويملكون المال والنفوذ لم يتمكنوا من قراءة مشاعر هذا الشخص بشكل دقيق. السبب لم يكن بطبيعة الحال أنهم لم ينتبهوا للتفاصيل، ولكنه بكل بساطة هو أنهم أقل تناغماً مع غيرهم.
مرآة الخلايا العصبية
يا للغرابة! هناك تصرفات ليست خياراً كما قد يُخيل للبعض، بل هي محفورة عميقاً في الجهاز العصبي للدماغ. قدرة البشر على التعاطف والتماهي هي بسبب ما يسميه العلماء «نظام المرآة». الخلايا العصبية المرآتية التي تقع في القشرة الحزامية الأمامية تنشط بشكل كبير حين يشاهد الشخص شخصاً آخر يتألم، وبالتالي تعكس الخلايا هذه آلام الآخرين، وتتقاسم معهم تجاربهم وتشعر بمعاناتهم، فتعطي إشارات للدماغ للتعاطف مع من يتألم.
في حال كنتم ما زلتم تشككون بقوة وتأثير هذه الخلايا يمكنكم العودة بالذاكرة إلى مباريات كأس العالم أو أي مباراة مهمة يشاهدها الملايين حول العالم. كل هدف، وكل مخالفة وكل ركلة جزاء وهجمة مرتدة على الملعب تحفز هذه الخلايا التي تجعلكم وتجعل الملايين حول العالم يتشاركون المشاعر نفسها. المشاهدون متصلون بمباراة واحدة، والكل مرتبط عاطفياً بأمر لا يشاركون فيه فعلياً. حتى التوتر والإنهاك البدني للاعبين يمكن اختباره برغم أن المشاهد خلف شاشة تلفزيون بعيداً عن اللاعب آلاف الكيلومترات. ولكن هذا النظام وقوته وتأثيره سريع العطب بشكل كبير جداً.
في تجربة أخرى قام علماء الخلايا العصبية بالتلاعب بالنظام العصبي المرآتي من خلال زرع مشاعر السيطرة أو العجز في العقل. التلاعب كان مباشراً وبسيطاً؛ إذ طُلب من عدد من الأشخاص الكتابة عن موقف كانوا يعتمدون فيه بشكل كلي على مساعدة الآخرين، أي تحفيز مشاعر الشعور بالعجز في عقولهم، وبالتالي في النظام العصبي المرآتي، وفي المقابل طُلب من الآخرين الكتابة عن موقف كانوا يسيطرون عليه بشكل كلي؛ أي يشعرون بالسيطرة والقوة. طُلب بعد ذلك من الفريقين، الذين يشعرون بالقوة والعجز مشاهدة فيديو ممل للغاية عبارة عن يد تضغط على طابة مطاطية، وخلال مشاهدتهم للفيديو كان العلماء يراقبون نشاط الخلايا العصبية المرآتية.
والنتيجة هي كما تتوقعون، الشعور بالعجز حفز النظام المرآتي، بينما الشعور بالقوة والسيطرة لم يقم بذلك؛ أي بتعبير آخر، عقول الذين يملكون القوة والنفوذ لا تعكس أفعال الآخرين. وفي الواقع كلما كانت التعابير المستخدمة في كتاباتهم تعبر عن قوة أكبر كان نشاطهم الدماغي في تلك المنطقة أقل؛ فالنفوذ والقوة يبدلان الطريقة التي يتفاعل فيه الدماغ مع الآخرين.
الذين يملكون التفوذ لا يعتمدون على الآخرين
الأشخاص الذين لا يشغلون مناصب متقدمة في عملهم، وبالتالي لا يملكون المال؛ لا يمكنهم توظيف من يقومون بحل مشكلاتهم، وبالتالي عليهم الاعتماد على الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء لمساعدتهم في أمورهم سواء كانت بسيطة أو معقدة. هذا الواقع يرغمهم على تطوير مهارات اجتماعية متقدمة، وذلك من أجل التمكن من الحصول على الدعم من الآخرين بنية طيبة.
في الجانب الآخر الذين يملكون النفوذ والسلطة والمال أقل اعتماداً على الآخرين، وهم لا يكترثون كثيراً لاحتياجات من هم حولهم؛ لأنهم لا يحتاجون إليهم للوصول الى موارد مهمة. يُضاف إلى ذلك انشغالهم الدائم، وبالتالي هم لا يملكون الكثير من الوقت للانتباه إلى الإشارات والدلائل الاجتماعية للذين يملكون سلطة أقل.
هذا هو واقع الذين يملكون السلطة والنفوذ والمال منذ البداية، ولكن ماذا عن الذين يحصلون عليها لاحقاً؛ أي الذين يبدؤون من أسفل ويصعدون إلى القمة.
الصعود إلى القمة.. وفقدان التعاطف
هذه الفئة كانت يوماً ما من الفئات التي تملك المهارات التي تمكنها من قراءة وفهم مشاعر الآخرين؛ وذلك لأنها تحتاج إليهم لحل مشكلاتها في حياتها. المشكلة الأساسية هي أن الذين يحققون الثراء والنجاح، ويصبحون من أصحاب السلطة والنفوذ بعد أن كانوا في مستويات أدنى؛ يفقدون القدرة على رؤية واقع الآخرين أو الواقع بشكل عام. هم يتخطون الأعراف الاجتماعية من دون أن يدركوا ذلك، ويفسدون علاقاتهم بالآخرين، ويجعلون الآخرين أعداءً لهم. هم لا يقومون بذلك بشكل طوعي؛ فمقولة أن المال والسلطة تفسد العقول صحيحة تماماً، وذلك لأنها تثبط الخلايا العصبية المرآتية، وبالتالي الشخص لا يمكنه أن يتعاطف مع الآخر حتى لو أراد ذلك.
الأمل موجود.. يمكن استعادة التعاطف
علماء النفس بعد أن تمكنوا من فهم السبب الذي يجعل أصحاب السلطة والمال والنفوذ أقل حساسية لمشاعر الآخرين؛ وجدوا أن هناك إمكانية لقلب الصورة. وفي مفارقة غريبة إمكانية قلب الصورة تتضمن جعل القوي صاحب النفوذ بمواجهة من هو أقوى منه.
في الدراسة التي أجراها عالم النفس مايكل كروس؛ قام بالطلب من الذين يملكون القوة والنفوذ والمناصب المتقدمة تحديد مكانتهم على سلم من ١٠ درجات مقارنة بآخرين هم على هذه الدرجات. بطبيعة الحال الذين هم في أعلى هم الأفضل، ومن في الأسفل هم الأسوأ لناحية المال، والتحصيل العلمي، ونوعية الوظائف؛ أي أنه طلب منهم التفكير بحجم اختلافهم عن هؤلاء الأشخاص لناحية المدخول، والتحصيل العملي، والمكانة المهنية، ثم تحديد مكانهم على السلم. الخدعة هنا هي أن جميع الذين كانوا على السلم سواء في القمة أو في القاع هم الأكثر نفوذاً وثراءً.
الواقع هذا قضى كلياً على شعور المشاركين بالتفوق وبأنهم أكثر أهمية من الآخرين. بعد هذه التجربة مباشرة طُلب منهم التعرف إلى المشاعر في صور عُرضت عليهم، وهذه المرة تمكنوا من تحديد المشاعر بشكل أفضل من التجربة الأولى؛ أي حين تقلص شعورهم بالتفوق تم تحفيز الخلايا العصبية المرآتية، وتمكنوا من فهم وقراءة مشاعر الآخرين، أي التماهي بشكل أفضل معهم.
لهذا السبب قراءة السير الذاتية للآخرين أمر مهم للمديرين، ليس فقط للتعلم من تجارب الآخرين المهنية، ولكن لمعرفة المتاعب التي اختبرها الآخر، ولكسب المعرفة للتصرف والتعامل مع مواقف مختلفة في مراحل مختلفة من الحياة المهنية. قراءة إنجازات الآخرين التي تفوق إنجازات المدير الذي فقد حسه بالتعاطف مع الآخرين كفيلة بإعادته إلى أرض الواقع قليلاً، وجعل العقل يعيد برمجة نفسه. العقل البشري يحتاج إلى دفعة بسيطة من أجل إعادة برمجة نفسه، والتناغم والتماهي مع الآخرين.