وتعلم ما في نفسي







1- (وتعلم ما في نفسي، وتخبر حاجتي، وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي..): لقد وقع بحث بين العلماء في أنه ما هو الأسلوب الأمثل للإنسان الداعي.. هل من الأنسب له أن يجمل في الدعاء، مفوضاً الأمر إلى مولاه عزوجل، كما فعل إبراهيم الخليل (عليه السلام) حين ألقي في النار، إذ قال: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) ؟.. أو أنه يطلب من الله عزوجل طلبات كثيرة، أي يعدد في الطلب لصغير الأمور وكبيرها، حتى في ملح عجينه وعلف شاته، كما أمُر نبي الله موسى (عليه السلام) ؟..

الجواب: فكما أن لله عزوجل تجليات مختلفة على عبده، أيضاً فإن ارتباط العبد وحالاته مع ربه قد تختلف من حين لآخر.. فهو تارة يصل إلى حالة من الإنس الشديد بالحديث مع الرب المتعال، والاشتغال بمدح صفاته وجلاله، إلى درجة من الاستغراق في جلال الله وكماله، مما تنسيه أن يلتفت إلى نفسه ويطلب حوائجه، أو أنه قد يرى أن في التفاته إلى تلك الحوائج، يشغله عن هذا التحليق، ولهذا فهو في مثل هذه الحالات يفوض حوائجه كلها إلى الله..

وتارة أخرى تراه يعيش حالة الافتقار المطلق، والاحتياج المبرم، والاستكانة الشديدة، مما يجعله يميل إلى أن يعدد في الطلبات واحدة واحدة، ولو من باب الاسترسال في الحديث، تأسياً بنبي الله موسى (عليه السلام)، الذي عندما سأله رب العالمين: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}، فإذا به يغتنم الفرصة ليتحدث مع الله عزوجل، حيث أخذ يفصل في الحديث: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}..

فإذن، هاتان حالتان تردان على الإنسان الداعي، وعليه أن يختار من الحالتين ما يناسب وضعه الفعلي.. كما يحسن للمؤمن عند الدعاء ألا يقطع بأن المصلحة فيما يطلب، فيملي على ربه إملاءً، فإنه تعالى الأدرى بما يصلح عبده، وقد ورد في الحديث القدسي هذا المضمون: (عبدي ادعني ولا تعلمني!).

2- (إلهي إن حرمتني فمن ذا الذي يرزقني وإن خذلتني فمن ذا الذي ينصرني..): يحسن بالعبد -مع كونه متشبثاً بعالم الأسباب- الانقطاع المطلق إلى الله عزوجل.. فلا ينبغي أن يعلق قلبه وحاجته بزيد أو عمر، ويظن أنه هو السبب في رزقه.. فإن الله تعالى هو مسبب الأسباب، وأن الأسباب كلها في قبضته تعالى، فهو المسبب سبحانه، وإذا ما أراد شيئاً هيأ أسبابه.. وليس من الإنصاف أبداً، أن يستجير المؤمن استجارة قلبية بعبد ضعيف مثله !.. بل من المناسب للإنسان أن يتعامل مع الناس، وأن يعيش في أكنافهم، ولكن ينبغي أن لا يعيش حالة الالتجاء إلى ما سوى الله عزوجل !..

3- (إلهي أعوذ بك من غضبك وحلول سخطك..): وفي هذه إشارة جداً مخيفة !.. وهي أن لله عزوجل أحكام مع وقف التنفيذ، فهو بتفضله وحلمه سبحانه وتعالى عندما يرى في عبده بعض بوادر الصلاح، فمع ما له من الهفوات البسيطة الموجبة للعقوبة، إلا أنه تعالى يوقف التنفيذ، ولكن هذا العبد قد يرتكب ذنباً كبيراً، وإذا بهذه الأحكام الموقفة منذ سنوات تنهال عليه واحدة واحدة.. والتأريخ ينقل صور متعددة من الذين وقعوا في أنواع من البلاء، وترصد لهم الشيطان.. وإذا بذلك المؤمن يسلب منه إيمانه، فيعيش حالة التبرم الشديد من القضاء والقدر، والأسوأ من ذلك أنه يعيش حالة اليأس من رحمة الله، فينتكس انتكاسة ذريعة، كما يعبر القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}..

ومن هنا من الضروري للمؤمن أن يستعيذ بربه من حلول سخطه وغضبه.. بالإضافة إلى أن يكثر من جلسات الاستغفار، وأن يجمل في استغفاره، سائلاً الله عزوجل أن يغفر له ذنوبه أجمعها، فقد يكون ناسياً لذنوب ارتكبها منذ زمن، ولكن الله تعالى أحصاها، والله تعالى لا يريد من عبده أن يعترف بذنوبه واحدة واحدة، بل يكفي أن يعترف بها بالجملة.

4- (إلهي ما أظنك تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك..): إن انقسام الناس واختلافهم ليس مقتصراً على السير في طريق الهدى أو الانحراف عنه، فإن السائرين والعباد الصالحين أيضاً هم أقسام ودرجات.. فمنهم من يكون همه وقصارى جهده أن يحقق المغفرة الإلهية، ليضمن الفوز العظيم بدخول الجنة والزحزحة عن النار.. بينما هنالك قسم آخر من الناس لهم من الأماني والطلبات العظمى التي تؤرق ليلهم ونهارهم.. إذ هؤلاء يطمحون في استعجال بعض المقامات الأخروية في الدنيا، من قبيل الرضوان الإلهي، والنظر إلى وجه الله تعالى، وتحقيق حالة الإنس والتفاعل مع الله عزوجل، والوصول إلى درجة المعية معه تعالى.. فكم من الجميل أن يحمل الإنسان هذا الهاجس !.. فلعله يرزق ذلك ولو قبل وفاته بأيام، ولسان حاله لسان حال أمير المؤمنين: إلهي ما أظنك تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك !.. فليستحضر كل واحد نيته عندما يسمع هذه العبارة.. وطوبى لمن جعل نيته ما ذُكر آنفاً: من اللقاء قبل اللقاء، من الموت قبل الموت، من الحشر قبل الحشر، من العيش في جنان الله قبل أن ينتقل إلى عالم الآخرة !.. وما ذلك على الله بعزيز.

* الشيخ حبيب الكاظمي.