يرى بعض الباحثين أن صناعة النشر في العالم العربي تعاني من أزمة خانقة تتفاقم باستمرار، وتعود بتشعباتها إلى نظم الحريات السياسية والاجتماعية، وغياب الاهتمام الكلي بشؤون المعرفة بتفرعاتها. كما أن سوق الكتاب في عالمنا تطبق فيه قوانين "متخلفة" سواء من حيث الرقابة أو الدعم الحكومي.
وفي محاولة لمعرفة واقع النشر وحال الكتاب في العالم العربي هذا الزمن الراهن، استطلعت الجزيرة نت آراء بعض الناشرين العرب، للوقوف على أهم العقبات أمام انتشار الكتاب.
الدعم الغائب
يطرح البعض أسئلة جوهرية حول تعثر مسيرة النشر العربي، بسبب ضمور الأسواق العربية وحواجز الأنظمة السياسية التي تعامل الكتاب معاملة المخدرات والناشر معاملة المهربين، وكذلك ضعف البنية المالية والاقتصادية لمعظم الناشرين نتيجة قيود الرقابة على أنواعها، فتمنعهم من تطوير هذه الصناعة والاستثمار فيها، حيث يحتاج الكتاب، كمنتج ثقافي خاص، إلى مزيد من الحريات.
فهل تحتاج صناعة الكتاب إلى مناخ خاص؟ وهل هذا متوافر اليوم؟
يقول بدر السويطي الكاتب والشاعر العربي المقيم بألمانيا ومدير دار الدراويش للنشر والترجمة في بلغاريا إنه "لتأسيس مجتمع واع وبلد متحضر لابد من إعطاء الدعم اللامحدود لمهنة النشر وصناعة الكتاب".
ويضيف للجزيرة نت "في كل الأحوال يجب توفير كل الإمكانيات والطرائق الحديثة وتسخيرها في هذا المجال على نطاق واسع ودون قيود وشروط".
في المقابل، يقول الناشر اللبناني غسان شبارو "لا أعتقد أن صناعة الكتاب تحتاج إلى مناخات خاصة، حيث صدرت كتب رائعة خلال الحروب والهجرة والتهجير وحتى في زمن كورونا".
الناشر غسان شبارو: صدرت كتب رائعة أثناء الحروب والهجرة وحتى زمن كورونا (مواقع التواصل)
هزال العناوين والرقابة
ويدور التساؤل عن أزمة النشر المستفحلة والمزمنة حول العدد المتواضع من الكتب الجديدة، التي تصدر سنويا في مجمل الأقطار العربية، وبلغة عربية واحدة مقارنة بعدد الكتب التي تصدر في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، بتعدد لغاتها، إلى جانب الأرقام المخيفة لتوزيع الكتاب في جميع أنحاء العالم العربي.
ويرى البعض أن الناشر العربي محكوم بأمرين: القدرة المالية التجارية المحدودة للناشر على تمويل تلك الإصدارات، إضافة إلى ضيق الأسواق العربية بسبب عرقلة أشكال الرقابة المتعددة للكتاب. فإن وصل الكتاب إلى القارئ في بلد ما، لا يصل إلى قارئ البلد الآخر، فالكلمة السحرية في هذا المجال -التي تقف وراء تعثر هذه المهنة- هي الرقابة، التي هي في العالم العربي على أنواع.
فهل المشكلة في قوانين النشر؟
يعود السويطي فيقول إن "قوانين النشر في بعض البلدان الناطقة بالعربية متخلفة وبائسة، ولا ترقى لمستوى الدول المتحضرة التي تولي اهتماما كبيرا ودعما سخيا لمجال النشر بالدرجة الأولى".
وتجدر الإشارة إلى أن هناك عددا من أنواع الرقابة على صناعة الكتاب: السياسية وهدفها حماية النظام القائم من النقد، الدينية التي تقوم بها هيئات دينية متخصصة لحساب الدولة أو لحسابها الخاص.
وبدوره يؤكد شبارو "بتنا نلمس مؤخرا انفتاحا أكثر من ذي قبل من معظم (أنواع) الرقابة العربية، إلى جانب أن الناشرين قد اعتادوا عدم تجاوز خطوط الرقابة الحمراء خاصة مع أوضاع البيع والتسويق الراهنة الصعبة".
وعن هامش الحرية للناشرين، هل ضاق إلى حد الاختناق بسبب الرقابة الحكومية المتعددة على الكتاب؟ يشرح السويطي "لم تعد منظومة الرقابة العربية فعالة كما كانت فترات زمنية سابقة، لعل عصر السماوات المفتوحة والانفتاح على منصات التواصل الاجتماعي غيّر بشكل كبير من ذلك الواقع المظلم، الأمر الذي قطع أصابع الرقيب وعطل مقصه الصدأ".
ويبين السويطي "علينا ألا نتجاهل أن الرقيب الديني والأخلاقي المزعوم قد تحول إلى رقيب استخباراتي، غالبا ما تشير حالته على مواقع التواصل الاجتماعي بنقطة خضراء دلالة على أنه متصل ومتواجد لممارسة مهنته العتيدة".
لكن شبارو يقول "أصبح الناشرون ملمين بالشروط والقوانين التي تفرضها معارض الكتب، وبما أنهم بحاجة إليها لتسويق نتاجهم هذه الأيام الصعبة، فهم مطيعون لها بالمجمل".
مشكلة التسويق
وحول ما يعانيه الناشرون العرب من ضعف في تسويق الكتاب، وعدم وجود قانون ينظم العلاقة المالية بين الناشر والموزع، يلفت شبارو إلى أن "أزمة النشر الحالية اشتدت في العالم العربي مع انتشار كورونا، حيث إنها كانت تشهد تباطؤا قبل ذلك، ولكن مع انتشار الوباء وانخفاض تحرك القراء نحو مخازن بيع الكتب من جهة وانخفاض القدرة الشرائية لديهم من جهة أخرى فقد استفحلت الأزمة وباتت تشكل خطرا وجوديا على بعض دور النشر".
وعن أزمة النشر بالنسبة للإصدارات الجديدة من الكتب، يشير السويطي إلى أنه "عندما لا يتجاوز معدل القراءة في البلدان الناطقة بالعربية 4% فهذا بحد ذاته أزمة، أما بالنسبة للإصدارات الجديدة فإنها أزمة مزمنة وليست وليدة اللحظة".
كلفة المعارض
وعن الحلول البديلة -التي اعتمدتها بعض دور النشر بسبب أزمة كورونا وأنواع الرقابة العربية- مثل تنشيط البيع الإلكتروني عبر منصات عالمية مثل "أمازون" و"غوغل بلاي" وغيرهما، يعلق شبارو بالقول "الحلول البديلة التي اعتمدتها بعض دور النشر ساعدت عبر البيع الإلكتروني في تنشيط انتشار محدود لإصداراتها، ولكن الإحصائيات تفيد بأن القارئ العربي لا زال يفضل القراءة من كتابه الورقي".
وبهذا الصدد يقول السويطي "هي لا تعد حلولا بديلة بل اعتقد أنها التفاف اضطراري، وحيلة شرعية للتنصل من الحفاظ على الكتاب الورقي الذي مازال حاضرا وبقوة في المجتمعات التي تقدر قيمته وتفضله على النسخة الإلكترونية" ويشير إلى أن "منصات بيع الكتب الإلكترونية لا تساهم في حلحلة الوضع القائم بقدر ما ترسخ للاحتكار والربح المادي الكبير على حساب الناشر والمؤلف".
الناشر بدر السويطي: منصات بيع الكتب الإلكترونية ترسخ الاحتكار (مواقع التواصل)
الفقراء يقرؤون أيضا
وتوصف القدرة الشرائية للكتاب بأنها ضعيفة في الأقطار ذات الدخل المحدود، مثل بلاد الشام ومصر واليمن، مقابل قدرات دول الخليج على سبيل المثال، ومع ذلك يُقبل القراء "الفقراء" على شراء الكتاب ويقتطعون ثمنه من احتياجات أخرى.
ويوافق شبارو على ذلك بالقول "بالفعل هناك أزمة نشر للإصدارات الجديدة في العالم العربي بسبب الانخفاض الكبير في نسب مبيعات دور النشر بسبب الأوضاع الاقتصادية وكورونا، مما لا يشجع على الاستثمار في إنتاج إصدارات جديدة".
ويستنكر السويطي قائلا "الأنظمة القمعية التي تتوجس من حرية التعبير والرأي هشة ولا ترتكز على منظومة ديمقراطية، هي سبب رئيسي ومباشر في تدهور مهنة النشر على مر الأزمنة".
لكن -على الجانب الآخر- تبدوا تأثيرات "حقوق الملكية الفكرية" على صناعة النشر العربية كبيرة، ويحذر السويطي "إن لم تُسن قوانين لحماية الملكية الفكرية وحماية المؤلف والناشر على حد سواء فإن أي مشروع بهذا الإطار مصيره الفشل والاندثار".