الكعبة المشرفة .. البيت الآمن
الكعبة المشرفة كانت ولا زالت منذ زمن إبراهيم (ع) محطاً لأنظار الموحدين يتهافت عليها الملايين من الناس من كل بقاع الأرض في كل عام متحمّلين مشاق السفر في رحلة قدسية فيجتمعون بأرض الوحي والنبوة لتلبية نداء الحق سبحانه وامتثالاً لأمره تعالى، ويكفي الكعبة شرفاً أنها قبلة للمسلمين وهي البيت الذي نسبه الله تعالى إلى نفسه وأكرمه وشرّفه بهذه النسبة وهو أول بيت وضع للناس فيه البركة والأمن كما في قوله تعالى: إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود.
فهو أقرب مكان للإنسان إلى خالقه وساحة قدسه, والسفر إليه هو سفر إلى الله تعالى للوقوف بين يدي عظمته والدخول في ضيافته في بيته الذي جعله باباً لرحمته فمن دخله كان من الآمنين
وسُئل الإمام الصادق (ع) عن الآيات البينات في قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ؟ فأجاب: مقام إبراهيم (ع)، والحجر الأسود, ومنزل إسماعيل (ع).
ويقول أمير المؤمنين (ع) عن هذا البيت المبارك: (إنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة).
وعن الإمام الصادق (ع): (إن الله عز وجل اختار من كل شيء شيئاً واختار من الأرض مكة واختار من مكة المسجد واختار من المسجد الموضع الذي في الكعبة).
وعنه (ع) أيضاً أنه قال: ما خلق الله تبارك وتعالى بقعة في الأرض أحب إليه منها, ولا أكرم على الله عز وجل منها, لها حرّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض.
وعنه (ع) قال: أيضاً النظر إلى الكعبة عبادة.
وعن رسول الله (ص) أنه قال: النظر إلى الكعبة حباً لها يهدم الخطايا هدما.
وعن الصادق (ع) أنه قال: إذا خرجتم حجاجا إلى بيت الله فاكثروا النظر إلى بيت الله فإن لله مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين.
الاجتماع السنوي
لقد دعا الله سبحانه وتعالى المسلمين إلى اجتماع سنوي في بيته المبارك حيث ينزلون في ضيافته والتشرّف بالطواف حول بيته فخاطب نبيه الكريم (ص) بقوله: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا وليوفوا تفثهم ونذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق.
وقد فرض سبحانه وتعالى على الحاج أن ينقي نفسه من الشوائب فقال: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب.
فقبل السفر إلى الحج يجب على المسلم أن يحقق طهارته المادية والمعنوية والنفسية، وأن يسدد ديونه كلها حتى لا تبقى عليه تبعة وأن يزيل أحقاده وأضغانه تجاه أصدقائه وأخوانه وأن يتجرّد من الرغبات والأطماع الدنيوية ويتوجّه إلى هدف روحي أسمى ليعيش حالة الصفاء الروحاني فيكون إنساناً على المستوى الذي أراده الله سبحانه وتعالى منه عندما أمر ملائكته بالسجود له, فروح الله تعمُّ الأرجاء في ذلك المكان وهي تنقي القلوب فلا يحس المسلم إلّا والدموع تنهمر على خديه وهو يطوف بين أمواج الناس طواف الحب مستشعراً الرحمة الإلهية:
لبيك اللهُم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك..
وما أروع هذه الكلمات عندما تطلقها الحناجر المؤمنة ممتزجة بالعشق نافحة بالحب عابقة بالإخلاص في ذلك الموقف العظيم، موقف العبد وهو يلبي ربه..
هنالك تتجلى أبهى صور الروحانية، فالإنسان هناك روح أكثر من جسد إذ يخرج في هذه الشعائر المقدسة من عالم الدنيا الفاني إلى عالم آخر يتساوى فيه الغني والفقير والأبيض والأسود والعزيز والذليل وتلتقي الأعراق والأجناس المختلفة من كل بقاع الأرض لتتوحد هناك وهي تهتف هذا الهتاف الخالد.
خرقة بيضاء ونعل بسيطة هو الزي الموحِّد ففي هذا الزي الذي يسمى إحراماً يكون المحرم فيه قد ألغى لذة الحياة وبهرجها من نفسه وتوجّه إلى لذة أرقى حيث تتجلى الأنوار الإلهية على الروح الإنسانية فتطهرها من الذنوب والآثام وهناك تصل النفس إلى غاية مناها.
ان التمايز الطبقي الذي يعيشه الإنسان لتباين الحالة المادية والجنسية والاجتماعية يُمحى بإداء هذه الفريضة, فالجميع سواسية كأسنان المشط فينتقل الإنسان من الأنانية إلى حالة الإنصهار التام في جسد الأمة الواحدة, ومن الطبقية والعنصرية إلى المساواة, ومن الشحناء والبغضاء إلى المحبة والإخاء, ومن إنسان تميّزه الثياب عن الآخرين إلى حالة من الذوبان وفناء الذات، والارتقاء بها من الحياة الفانية الرتيبة إلى حياة الأبدية السامية حيث الهدى يشع عليها من ذلك البيت المبارك كما وصفه سبحانه وتعالى بقوله:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
شهر الحج
تأتي أهمية الحج كونه فريضة مهمة من فرائض الإسلام وركن من أركانه وقد دلت الكثير من الأحاديث الشريفة وأقوال الأئمة الهداة (ع) على فضله, كما أجمعت كل الفرق الإسلامية على وجوبه لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وقد أكد الرسول الكريم (ص) على إداء هذه الفريضة ودل على الفوائد العظيمة المترتبة على إدائها وحث المسلمين عليها فمن خطبته (ص) في حجة الوداع قوله:
معاشر الناس حجوا البيت فما ورده أهل بيت إلّا استغنوا وما تخلّفوا عنه إلا افتقروا، معاشر الناس ما وقف مؤمن إلا غفر الله له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك, فإذا انقضت حجته استؤنف عمله، معاشر الناس الحجاج معانون ونفقاتهم مخلفة، والله لا يضيع أجر المحسنين.
وهناك باقة من أحاديثه (ص) في أهمية هذه الفريضة وفضلها منها قوله (ص):
من أراد دنيا أو آخرة فيؤم هذا البيت, ما أتاه عبد فسأل الله دنيا إلّا أعطاه منها أو سأله آخرة إلّا ادخر له منها, أيها الناس عليكم بالحج والعمرة فتتابعوا بينهما فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن وينفيان الفقر كما تنفى النار خبث الحديد.
ومنها قوله (ص): حجوا تستغنوا.
وقد ورد عن الإمام علي (ع) قوله: حج البيت واعتماره ينفيان الفقر ويرحضان الذنب.
وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) أنه قال: حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مؤونات عيالكم.
وعنه (ع) أيضاً: الحاج مغفور له, موجب له الجنة, ومستأنف العمل, ومحفوظ في أهله وماله.
وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: الحجة ثوابها الجنة والعمرة كفارة لكل ذنب.
وعن الامام الباقر (ع): وقروا الحاج والمعتمر فان ذلك واجب عليكم.
وصايا الحج
لما كان الحج هو الدخول إلى الحرم الإلهي والورود إلى ضيافة الرحمن فيجب أن يكون الحاج مهيَّأ من حيث النية والسلوك للتشرّف بهذه الضيافة, وقد أوضح أئمة أهل البيت (ع) من خلال أقوالهم ووصاياهم إلى ما يجب أن يكون عليه الحاج وقدموا النصائح والمواعظ والارشادات، وجاءت وصية الأمام الصادق (ع) في الحج آية في العلوم الروحانية والتهذيب النفسي وقد آثرنا نقلها لفائدتها العظيمة فقد ورد عنه (ع) أنه قال:
إذا أردت الحج جرّد قلبك لله من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب كل حاجب، وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً, من ادعى رضى الله واعتمد على سواه صيّره عليه عدواً ووبالاً ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله توفيقه واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع وأحسن الصحبة وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه (ص) وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع واحرم من كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته ولب بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت وهرول هربا من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك الى منى ولا تتمن ما لا يحل ولا تستحقه واعترف بالخطايا بعرفات وجدد عهدك عند الله بوحدانيته وتقرب الى الله واتقه بمزدلفة واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم وزر بيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه واستلم الحجر رضاء بقسمته وخضوعاً لعزته وودع ما سواه بطواف الوداع واصف روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا وكن ذا مروة من الله نقياً اوصافك عند المروة واستقم على شرط حجتك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك واوجبت له الى يوم القيامة واعلم بان الله تعالى لم يفرض الحج ولم يخصه من جميع الطاعات بالاضافة الى نفسه بقوله عز وجل (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً) ولا شرع نبيه (ص) سنة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه الا للاستعداد والاشارة الى الموت والقبر والبعث والقيامة وفصل بيان السابقة من الدخول في الجنة أهلها ودخول النار اهلها بمشاهدة مناسك الحج من أولها الى اخرها لاولي الالباب وأولي النهى).
محمد طاهر الصفار