تتمتع المؤرخة المغربية ليلى مزيان بقدرة كبيرة على التحليل والمقارنة، وتتميز مؤلفاتها بدقة المنهج التاريخي، فهي تحوّل التاريخ الهامشي إلى مركزي، بطريقة يغدو فيها البحر مدخلا لكتابة تاريخ مغربي أشمل وجديدا وأكثر تحررا من الاجترار الذي يطبع بعض الأبحاث التاريخية.


المؤرخة المغربية ليلى مزيان تعتبر أن البحر شكل نقطة تواصل بين المغرب والعالم كونه البلد الوحيد في العالمين العربي والإسلامي الذي يتوفر على واجهتين بحريتين تطلان على المتوسط والأطلسي
تعدّ المؤرخة والأكاديمية المغربية ليلى مزيان من كبار المؤرخات داخل المنطقة المغاربية، فهي لم تكتف في سيرتها الأكاديمية بالتدريس والتلقين والإشراف على البحوث والأطروحات الجامعية داخل مختبرات مغربية وأجنبية، وإنما قادها شغفها بالتاريخ البحري المغربي وتاريخ الموانئ والثقافة البحرية المرتبطة بهما إلى تناول هذه المواضيع من خلال مناهج متجددة عبر التنقيب في الأرشيفات المغربية والأوروبية.
ولأن أستاذة التاريخ الحديث بجامعة الحسن الثاني ليلى مزيان تجيد الحديث والكتابة بالعربية والفرنسية والإسبانية، فقد جعلها ذلك أكثر تميزا وشهرة داخل الجامعات الغربية، لا سيما قدرتها على الحفر في الأرشيفين الفرنسي والإسباني، وطريقتها المذهلة في اقتناص أهم اللحظات التاريخية التي كان فيها المغرب قويا على مستوى علاقاته الدبلوماسية مع دول العالم. وهي طريقة صعبة وتحتاج إلى صبر كبير للتنقل داخل عدد من مراكز الأرشيفات الإسبانية والفرنسية والبرتغالية والإيطالية من أجل الحصول على معلومات جديدة وأكثر دقة.
هذا الأمر هو ما تجيده صاحبة "سلا وقراصنتها"، وهذا ما يفسر الطفرة المعرفية التي لامسها العديد من الباحثين في مؤلفات مزيان. وتتمتع مؤلفة "الشرق والبحر والمتوسط ما وراء الحدود" بقدرة كبيرة على التحليل والمقارنة، ذلك أن مؤلفاتها في التاريخ البحري تتميز بقوة الأحداث التي تستعرضها، ودقة المنهج التاريخي الذي تقارب به حيثياتها وتلامس به نتوءاتها، فهي تحوّل التاريخ الهامشي إلى مركزي بطريقة يغدو فيها البحر مدخلا لكتابة تاريخ مغربي أشمل وجديدا وأكثر تحررا من الاجترار الذي يطبع بعض الأبحاث التاريخية.
ولأن المؤرخة تجعل من التاريخ الجديد مدخلا مفاهيميا لأبحاثها، فإن ذلك يعطي للكتابة أهميتها العلمية، ويترك انطباعا مدهشا لدى القارئ حول جماليات التاريخ البحري وصعوبته بالنسبة للمؤرخ الذي ينبغي عليه التسلح بالمفاهيم الفكرية والمناهج الحديثة في مقاربة تجمع بين الكمي والكيفي، وتستند على قراءة المخطوطات والأرشيفات ذات اللغات المتعددة؛ وذلك بهدف سبر أغوار التاريخ المغربي وعلاقته بسلطة المخزن والعنف البحري.
وعلى خلفية كتابها الجديد "الشرق والبحر الأبيض المتوسط ما وراء الحدود"، كان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص بمدينة الدار البيضاء مع المتخصصة في التاريخ البحري المؤرخة المغربية ليلى مزيان:


البحر والكتابة التاريخية
  • في نظرك، ما الذي يستطيع البحر بكل ما يحمله من دلالات أن يقدمه للمؤرخ بالمغرب والعالم العربي على مستوى الاهتمام والبحث والتأريخ؟

بحكم الموقع الجغرافي المتميز للمغرب، وهو البلد الوحيد في العالمين العربي والإسلامي الذي يتوفر على واجهتين بحريتين تطلان على المتوسط والأطلنطي، فقد كان دوما منفتحا على العالم المحيط به، وهذا الانفتاح مكّنه خلال تاريخه الطويل من تأسيس إمبراطوريات امتدت على قارتين، كتلك التي أسست في عهد المرابطين والموحدين.
كما شكّل البحر نقطة تواصل بين المغرب والعالم، فعظمة الموحدين مثلا تكمن في قوة أسطولهم البحري الذي ضم 400 قطعة بحرية، وهذا ما يفسر إرسال صلاح الدين الأيوبي أحد سفرائه لطلب الدعم البحري من السلطان يعقوب المنصور الموحدي بهدف وضع حد لزحف الصليبيين نحو الشام.
ومن ثم، فإن الموقع الجغرافي للمغرب أثّر بشكل كبير على مصيره وتاريخه وعلاقته بالبحر، فالاقتصاد المعيشي المرتبط بالبحر كان دائما حاضرا من خلال الصيد البحري والتجارة، وأيضا من خلال الاقتصاد البحري والعنف، وهذا ما نراه بشكل جلي زمن المرابطين والموحدين، حيث ارتكز الاقتصاد بشكل كبير على التجارة البحرية بفضل انفتاح الموانئ على محيطها. وهنا أحيلك إلى العمل الكبير الذي قام به المؤرخ الفرنسي كريستوف بيكار حول هذا الترابط البحري بين أطراف الإمبراطورية. إلا أن السياقات ستتغير مع عملية الاسترداد (سقوط الأندلس)، فاسترجاع الإسبان للموانئ الأندلسية سيحرم الموانئ المغاربية المقابلة لها من الأنشطة الاقتصادية القائمة منذ قرون.
هذا إضافة إلى أن الأوروبيين لم يكتفوا باستعادة موانئهم، بل غزوا تلك الموجودة بالضفة الأخرى. وهذا المعطى الجديد غيّر موازين القوى بين الضفتين.
أما بخصوص العلاقات مع المشرق، فإننا نعثر على تجار مغاربة في كل من الإسكندرية وبيروت، بالإضافة إلى وجود علاقات دينية ورحلات ارتبطت بزيارة الأراضي المقدسة؛ وهذا ما جعل المغرب يشكل جزءا مهما من تاريخ العالم الإسلامي.



المؤرخة المغربية ليلى مزيان شاركت في إعادة بناء سفينتين من التراث البحري المغربي المتوسطي الأطلنطي


"جمهورية سلا"
  • بالنسبة لك بوصفك مؤرخة، ما مدى تأثير طرد الموريسكيين على تأسيس كيان سياسي جديد "جمهورية سلا" التي أرعبت أوروبا لسنوات طويلة؟

هناك خلط لدى البعض بين المورسكيين والأندلسيين، لأن المورسكيين كانوا قد اعتنقوا المسيحية ويحملون أسماء إسبانية. وهم في الحقيقة الضحايا الحقيقيون لمراسيم الطرد النهائية ما بين 1609 و1610.
صحيح أنه كانت هنالك قرية بالجنوب الغربي الإسباني حافظ فيها سكانها على دينهم ولغتهم، وهي قرية هورناتشوس، الذين كانوا في عهد فيليب الثاني يعيشون مستقلين تماما مقابل دفعهم 30 ألف دوقة، وكانوا يفعلون ما يشاؤون؛ وأن مذكرات القرصان الإسباني ألونسو كونتريراس تقف مطولا عند تنظيماتهم قبل الهجرة إلى المغرب، حيث تمكنوا من نقل أموالهم إلى مدينة سلا الجديدة، أي مدينة الرباط، وبالضبط بقصبة الوداية وكان عددهم 3 آلاف.

وقد تم ذلك كما نعلم بترخيص من السلطان السعدي الذي سيستعملهم في غزواته بالجنوب، لأنهم كانوا متمرسين على استعمال الأسلحة النارية.
وفي الفترة نفسها جهزوا السفن القرصانية لإلحاق الضرر بالمصالح الإسبانية، بل الإغارة على الأراضي التي طردوا منها. كما سيقدمون الدعم اللوجستيكي للموريسكيين الذين عانوا فعلا من مراسيم الطرد، وسيساعدونهم على الاستقرار بالرباط.
المخزن والقرصنة
  • إلى أي حد لعب المخزن دورا هاما ومحوريا في استمرار النشاط البحري بين القراصنة والعالم الخارجي في إغناء خزينة المغرب من عائدات القرصنة، وبالتالي تقويته على المستوى الدبلوماسي والعلاقات الدولية؟

بالنسبة للسلاطين السعديين، فقد ارتبطت المسألة منذ البداية بضرورة مد يد العون لإخوانهم المسلمين المطرودين من الأندلس من طرف المسيحيين، من خلال استقبالهم بالأراضي المغربية ومساعدتهم على الاستقرار بمختلف المدن، كتطوان التي تم تجديدها تماما، وبناء مدن جديدة مثل شفشاون، وتعزيز وجودهم بمدن أخرى كفاس وسلا بشكل خاص.
وبفضل ازدهار النشاط القرصني و"اقتصاد الفدية"، استقل السلاويون عن السلطة المركزية في صيف 1627 مباشرة بعد حملتهم المذهلة على جزيرة آيسلندا في أقصى شمال الأطلنطي. لكن مع وصول العلويين إلى الحكم وتوحيدهم للبلاد، سيتم استعمال هذا النشاط البحري كأداة دبلوماسية فعالة للتفاوض وإبرام اتفاقيات السلم والتجارة مع القوى الأوروبية إلى غاية نهاية القرن الـ18. أما الدول الأوروبية التي لا تتوفر على إمكانيات حربية، فكانت تفضل دفع الأموال لتجنب الاستيلاء على سفنها وأسر بحارتها.


  • لكن إلى جانب التاريخ أوليتم اهتماما كبيرا بالتراث البحري؟

نعم، فالتراث باعتباره تعبيرا عن الثقافة البحرية وتثمينا لها يشكل رافعة حقيقية للتنمية. وفي هذا الإطار اشتغلت على عدة مشاريع في المغرب والخارج، وقمت بتنسيق عدد منها كمشاركة المغرب ضيف شرف في مهرجان البحر بفرنسا في صيف 2012، بل قمنا بإعادة بناء سفينتين من التراث البحري المغربي المتوسطي الأطلنطي، وذلك لأول مرة في تاريخ هذا البلد، قبل أن تنقلهما البحرية الملكية إلى ميناء بريست لتعزيز "القرية البحرية" المغربية بعين المكان.
كما قمت بكمبوديا وبعدها بكوريا الجنوبية بتنسيق مشروع تصنيف خليج الحسيمة من بين أجمل الخلجان في العالم. بالإضافة إلى تنظيم عدد من المعارض حول التاريخ والتراث البحري المغربي بكل من المغرب والخارج.
وكان الهدف طبعا هو تسليط الضوء على الثروات التي يزخر بها هذا البلد وتثمينها بشكل أفضل، لبلورة دينامية جماعية جديدة وتعبئتها حول المشاريع الثقافية الإستراتيجية التي تحمل في طياتها الذاكرة والقيم، مشاريع تنقل أيضا الشعور بالانتماء والهوية الجماعية دائما بهدف الانفتاح، والتي بإمكانها أن تشكل وسيلة حقيقية لتطوير البلد بأكمله.
العيش في زمن الكبار
  • كيف جاء وتأتى اهتمامك بمجال التاريخ البحري المغربي خلال الحقبة الحديثة، حيث قادك البحر وعوالمه المدهشة والساحرة إلى إنجاز دكتوراه بجامعة "كاين" الفرنسية العريقة؟

في الواقع إن اهتمامي بالبحر لم يأت بالصدفة، بل يعود أساسا إلى تكويني الجامعي خلال مرحلة الإجازة الأساسية في شعبة التاريخ عام 1992، والذي غيّر جذريا رؤيتي للتاريخ. وفي هذا المسار، كانت لي فرصة الدراسة عند مجموعة من الأساتذة الذين تكونوا في الجامعات الفرنسية. فمنذ السنة الأولى كان لي الحظ في التعرف عن كثب على المدارس التاريخية، وكنت آنذاك في الـ18 من عمري.
لقد قدم لنا التاريخ بعيون جديدة في إطار نموذج "أسطغرافي" جديد سمي بـ"التاريخ الجديد" بروح مدرسة الحوليات التي كانت قد أحدث ثورية فكرية في فرنسا والعالم، ولا سيما مع فرناند بروديل. وهكذا استفدت الكثير من أهمية المجال في التاريخ وتعدد الأزمنة التاريخية، بالإضافة إلى مفهوم التاريخ الإشكالي والزمن الطويل من خلال أعمال فرناند بروديل. وهذا ما شجعني أيضا على الاشتغال في بحث الإجازة على موضوع "قراءة جديدة لكتابه البحر الأبيض المتوسط".
إن هذه المقاربة الجديدة في قراءة التاريخ ألهمتني وأثرت علي بشكل كبير، بل دفعتني إلى قراءات مكملة. وكان لنا في كلية الآداب بمدينة القنيطرة المغربية مكتبة متميزة، ففيها قرأت لأول مرة بروديل وكتاباته عن المتوسط والحضارة المادية، كما كانت هذه المكتبة تحتوي على أهم الكتب في تاريخ المغرب والعالم. وكان لبعض أساتذتنا الفضل علينا بإعارتنا كتبهم الخاصة، وهذا ما ساهم في اكتشافنا لعوالم جديدة، وفتح لنا آفاقا لا متناهية.
تأثير بروديل
  • هل كان هناك أي تأثير للمؤرخ الفرنسي فرناند بروديل عليك بوصفك باحثة؟

ما هو مؤكد هو أنه كان لبروديل دور محوري في مساري الأكاديمي، إذ جعلني في مقاربتي للإشكاليات المطروحة مرنة ومنفتحة على جميع المفاجآت، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الانفتاح على العلوم الاجتماعية التي تغذي مناهج التاريخ من خلال تجديد أدواته ومفاهيمه وأسئلته.
وهذا ما يفسر أيضا طبيعة مساري العلمي، بدءا بمتابعة دراستي وأبحاثي بفرنسا لمدة 7 سنوات على يد المؤرخ الكبير أندري زيسبيرغ الذي شكلت أعماله حول "المجذفين الفرنسيين خلال القرنين الـ17 والـ18" ثورة حقيقية في حقل التاريخ الاجتماعي البحري، وكذلك في مركز البحث الذي أسسه أحد عمالقة التاريخ الكمي، وهو المؤرخ بيير شونو بجامعة كاين الفرنسية.
في هذه السنوات، تمكنت من الحصول على منح مكنتني من السفر إلى عدد من دور الأرشيفات الأوروبية بكل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وهولندا، بحثا عن مادة مصدرية جديدة تساعدني على مقاربة الاقتصاد البحري المغربي في الفترة الحديثة بأدوات منهجية جديدة، من خلال الاشتغال على النشاط القرصني للمغرب زمن السلطان المولى إسماعيل (1645-1727 م).



كتاب "الشرق والبحر الأبيض المتوسط ما وراء الحدود" للمؤرخة المغربية ليلى مزيان



صدفة اللقاء العلمي
  • أشرف على أطروحة الدكتوراه/الكتاب أحد كبار المؤرخين في فرنسا وهو أندري زيسبيرغ، ما الشعور المسبق الذي تكوّن لديك لحظة فوزك بجائزة فرنسية مرموقة عن كتابك الهام "سلا وقراصنتها" في بداية مشوارك الأكاديمي بوصفك مؤرخة؟

كما سبق أن قلت فقد أطرني المؤرخ أندري زيسبيرغ الذي كان متخصصا أيضا في الإعلاميات والتاريخ. وهو الذي يقف وراء مشروع رقمنة المكتبة الوطنية بفرنسا (Gallica).
وما زلت ألتقي به إلى اليوم في إطار مشاريع التعاون وفي إطار الصداقة التي تجمعنا منذ أكثر من ربع قرن. فبعد مناقشة الدكتوراه بالديار الفرنسية، نشر عملي هناك وحاز على جائزة البحر. وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي العلمية، إذ حصلت على منح ما بعد الدكتوراه من وزارة التعليم العالي ووزارة الخارجية بإسبانيا للاشتغال في معهد التاريخ بمركز البحث العلمي الإسباني بمدريد "سي إس آي سي" (CSIC).
هذه التجربة كانت مهمة بالنسبة لي لتحسين مهاراتي اللغوية، وكذلك للعودة بنفس متجدد إلى الأرشيف الإسباني الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي مشروع لكتابة تاريخ المغرب الحديث والمعاصر. وجودي بإسبانيا مكنني أيضا من توسيع شبكة علاقاتي العلمية، بحيث لا أزل إلى يومنا هذا أشتغل معهم خبيرة في العلاقات المغربية الإسبانية، سواء في إطار برامج التعاون الدولي أو ضمن منشورات علمية مشتركة، بالإضافة إلى دمج وتسهيل انتقال الزملاء وطلبة الدكتوراه للبحث في الأرشيفات والمكتبات الإسبانية والفرنسية.

وما يسهل هذه الدينامية هو انخراط جامعتنا في برامج بحثية دقيقة فيما يخص العلوم الإنسانية والاجتماعية، خاصة برامج البحث في التاريخ التي قمت بتنسيق العديد منها ولا أزل، أذكر منها على سبيل المثال برنامج التعاون مع جامعة غرناطة في موضوع الأسر والأسرى في غرب البحر الأبيض المتوسط خلال الحقبة الحديثة.
ثم اشتغلنا على مواضيع أخرى كالتفاوض بين البلدان المغاربية وأوروبا، وصورة أوروبا في كل من البلقان والمغارب، والإرث الإسلامي بعيون من شرق وغرب وجنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط، إلخ. أضف إلى ذلك انخراطي لاحقا بوصفي أستاذة زائرة في عدد من الجامعات الأوروبية كجامعة السوربون ومدريد ولاس بالماس وصقلية