لوحة "مشهد الحريم الشرقي" للمستشرق النمساوي ستيفان سيدليسك (مواقع التواصل)
كان الرسم قبل القرن العشرين أداة دعائية تمامًا كالتلفزيون في العقود الحديثة، تلك الصور التي نقلتها لوحات الرحالة والمستشرقين كانت إعلانات مدفوعة الأجر في كثير من الأحيان، لنقل تصور معين يُراد له أن يرسخ في أذهان الناس.
وقد تعددت أدوات الكولونيالية (الاستعمار) للسيطرة على الشرق الأوسط والأدنى في القرون السابقة، جيوش وأساطيل حربية وأسلحة، ومعها عدد ضخم من الفنانين الذين نقلوا صورة، مغلوطة عادة، عن الشرق في مئات اللوحات فيما يعرف بـ "الفن الاستشراقي".
اليوم توجد آلاف اللوحات التي تتناول حياة العرب والمسلمين في القرون السابقة. السواد الأعظم من تلك اللوحات يتميز بنزعة خيالية لا تمت للواقع بصلة، لكن الاستعمار الأوروبي للشرق آثر أن تكون تلك البصمة واضحة لما فيها من رسائل سياسية معينة قد تسهل الكثير من العمليات العسكرية.
"يمكن وصف المرحلة الأولى من تاريخ الفن الاستشراقي بأنها الشرق المتخيل. صور متخيلة للشرقيات تم إنشاؤها في القرن الـ 18 من قبل أولئك الذين نادرًا ما رأوا الشيء الحقيقي، هذا إن وجد" (جون ماكنزي، الاستشراق).
السواد الأعظم من اللوحات التي تناولت حياة العرب تميزت بنزعة خيالية لا تمت للواقع بصلة (مواقع التواصل)
مكان فاتن وخطير
احتل الحرملك مساحة عريضة من خيالات المستشرقين الأجانب الذين كانت لوحاتهم تخدم هدفا استعماريا أكبر، كما أظهرت دراسات عدة. يظهر الحرملك في لوحات المستشرقين متشحًا بالكثير من التخيلات والفانتازيا والشهوانية، فالرجل الشرقي وفقًا لتلك اللوحات ذكوري مفرط في شهوانيته يستعبد الكثير من النساء ويحبسهن لملذاته الخاصة في بيوت أو قاعات ضخمة تعرف باسم "الحرملك".على سبيل المثال لا الحصر، نرى في لوحة "مشهد الحريم الشرقي" للمستشرق النمساوي ستيفان سيدليسك (Stephan Sedlacek)، عاش من 1868 إلى 1936، كيف يظهر المسلمون والعرب تبعًا للأنماط السائدة للتوثيق الفني التي اعتمدها الخيال الأوروبي الاستشراقي لخدمة الاستعمار.
يظهر الحرملك في اللوحة بألوان نارية يغلب عليها درجات البرتقالي. ويجلس سلطان أو سيد أو شيخ يتابع جارية ترقص وأخريات من حوله جلسن في خدمته. الرجل يجلس على فراش وثير، ويزين المكان الكثير من الأقمشة والسجاد العربي، ومن خلفه شجرة ضخمة تظلل المكان الذي يطل على مسطح مائي كما يبدو. اللوحة تقدم الحرملك كرياض أو جنة يعيش فيه الرجل الشرقي من أجل ملذاته الحسية وشهواته الجسدية. في هذا المشهد وحده يبلغ عدد النسوة سبعا كلهن تزيّن واجتمعن من أجل امتاع الرجل الشرقي.
سجن للنساء جنة للرجال
كذلك نرى في لوحة "زيارة للحرملك"، للمستشرقة الفرنسية هنرييت براون (Henriette Browne)، ولدت 1829 وتوفيت 1901، عددا من النسوة يرتدين أثوابا مخملية متعددة الألوان في مكان أقرب لمحبس، فالقاعة مظلمة بعض الشيء، الأثاث قليل، والشباك مغلق يتسلل منه بعض الضوء.تعطي اللوحة فرضيتين عن الحرملك. الأولى أنه مكان يُحبس فيه النساء وما يصاحب ذلك من ضيق أو ظلام وعزلة. الثانية أن الحرملك رغم أنه أشبه بالمحبس فإن النسوة فيه جميلات متأنقات لإشباع شهوات سيد البيت الذي سيكون في خيال المشاهد رجلا شديد الغلظة.
التصور الاستشراقي أظهر الحرملك باعتباره مكانا أقرب لمحبس نساء تشبع فيه شهوات سيد البيت (مواقع التواصل)
"التصور الاستشراقي عن العرب والمسلمين لا علاقة له بالعالم الحقيقي. لقد شوهنا الواقع برؤية خيالية لهذه الثقافات لا علاقة لها فعلا بالواقع الذي عاشه هؤلاء الناس على مر القرون. كان لدينا وجهة نظرنا حول هذا العالم وفقًا لفوائد ثقافتنا الخاصة" (الناقد الفني خوسيه بروكا).
التصور المجازي للإمبراطورية العثمانية
تذكر المتخصصة في الدراسات الاستشراقية ميغان ماك-دانيال -في أطروحتها عن الحرملك والإمبراطورية العثمانية- أن الرسامين كانوا يعملون، بدافع من مفاهيمهم الشخصية المجهزة سلفًا، لتخيل الشرق مكان فتنة ومتعة وإثارة، وبدافع آخر وهو الرغبة في كسب العيش فقدموا لوحات تمزج بين الواقع والخيال لضمان سرعة بيعها بالأسواق الأوروبية. وتؤكد أن تلك الدوافع والتأثيرات ضمنت أن حتى الرسّامات الغربيات اللائي استطعن الوصول حقًا للحرملك وتصوير بعض النسوة قدمن لوحات قد لا تكون ذات مصداقية.أما ما يخص لوحات المستشرقين الرجال عن الحرملك، فإنها تميل لأن تكون محض خيال وفانتازيا. ذلك ببساطة لأن دخول الحرملك كان حكرًا على سيد البيت أو صاحب الدار أو بعض النسوة من أهله، ولم يكن بإمكان أجنبي مهما كان مسماه الوظيفي الولوج لقاعات الحريم أو مشاهدة ما ينطوي عليه الحرملك حقيقة.
لوحة "في الحرملك" للرسام الإسباني خوان خيمينيز مارتين (مواقع التواصل)
فهل كان الرسام الإسباني خوان خيمينيز مارتين (Juan Jiménez Martín)، عاش من 1858 إلى 1901، يستطيع أن يبلغ قاعة الحريم التي قدمها في لوحته "في الحرملك" ويجلس فيها لساعات يسجل الجواري والمحظيات يتمايلن في غنج ودلال أمام سيدهن! بالطبع لا. المشهد الذي نراه بهذه اللوحة، كما في لوحات عدة، نتاج خيالات وأفكار الأوروبي التي أسقطها على الشرق حيث إن كل وعاء بما فيه ينضح نهاية الأمر.