قصة الساعة البغدادية.. الساعات البغدادية ذات الابراج
عرف البغداديون الساعة الحديثة منذ القرن الثامن عشر، وكان التاجر البغدادي من انشط تجار العالم تنافسا في استيرادها من مواطن صنعها في المانيا.. وكان الموسرون من ابناء بغداد وحتى متوسطي الحال مولعين في اقتناء ساعات الجيب والساعات الجدارية لتزيين جدران بيوتهم ودواوينهم ومازال بعض هذه الساعات في حوزة اصحابها حيث تعمل بدقة دون ان تنتابها مؤثرات الزمن.. فمن هذه الساعات الساعة التي يحتفظ بها احد المواطنين والتي اشارت الى ذكرها الزميلة مجلة «الف باء» في عددها (468) تحت عنوان «اقدم ساعة في بغداد» والتي يعود تاريخ صنعها الى عام 1800م حين دخلت بغداد ضمن اول وجبة ساعات استوردت ابان العهد العثماني من المانيا عام 1810م والتي مازالت صالحة وتعمل بدقة حتى الآن..
وبرز مواطن بغدادي اخر يعقب على هذا الخبر في المجلة المذكورة بعددها اللاحق (471): ينفي فيه ان تكون الساعة هي اقدم ساعة في بغداد بل ان التي اقدم منها هي الساعة التي يمتلكها هو والتي آلت من جده الى والده ومن ثم اليه، وهي من الساعات المعروفة بـ (ام الطمغة) يرجع تاريخ صنعها الى سنة 1749م كما هو مثبت في داخلها وهي بحالة جيدة وتشير الى الوقت بدقة حتى هذه اللحظة.. يا ترى كم من هذه الساعات الاثرية التي يحتفظ بها البعض ولانعلم عنها شيئا؟!!.
ماذا لو امتلكت امانة العاصمة امثال هذه الساعات التي كانت تزين جدران البيت البغدادي ايام زمان والتي يحتفظ بما تبقى منها بعض المواطنين والمودع بعضها الاخر وقفا في بعض المساجد والجوامع الكبيرة خاصة بعد ان اصبحت نادرة وتمتاز بمسحة اثارية ووضعتها في جناح خاص من المتحف البغدادي لتمثل جانبا من مخلفات المجتمع البغدادي في القرن الماضي قبل ان تختفي وتزول ويمحى اثرها؟ لا شك انها ثروة تراثية لا تعوض.
وعرفت بغداد الساعات الكبيرة ذات الابراج العالية على غرار المنائر ايام حكم الوالي العثماني المصلح مدحت باشا حيث شيد اول مرة في تاريخ بغداد هذا النوع من الابراج لينصب في اعلاه ساعة القشلة وكان ذلك حدثا مهما في تاريخ عاصمة اعرق حضارة في التاريخ وتم ذلك عام 1869م اي بعد عشرة اعوام من نصب ساعة (بك بن) الشهيرة والتي تعلو مبنى مجلس العموم البريطاني في العاصمة لندن وتذاع دقاتها من الاذاعات البريطانية الى جميع انحاء العالم ويعود لها الفضل في ضبط الساعات في بقية اقطار الدنيا.. ثم توالى نصب الساعات ذات الابراج في بغداد بعد ساعة القشلة فكانت ساعة الكاظمين عام (1300هـ/1882م) ثم ساعة الحضرة الكيلانية عام (1316هـ/1898م) فالساعة الاعظمية عام (1350هـ/ 1930م).. وسنبين تاريخ كل منها على التوالي.
ساعة القشلة (1286هـ/1869م)
ارتبط تاريخ هذه الساعة الاثرية ببناء القشلة (الثكنة العسكرية وسراي الحكومة فيما بعد) التي مازالت قائمة وماثلة امام انظارنا تحكي قصة الزمن في فترة من فترات التاريخ وبقيت وستبقى لتكون احد معالمنا الاثرية في بغداد.. وكان الشروع في بناية هذه القشلة سنة (1278هـ/1861م) ايام الوالي نامق باشا الكبير وفي عهده لم يكمل بناؤها وقد اكمله مدحت باشا
(1868-1871) واقام في ساحتها برجا نصب عليه الساعة المذكورة لغرض ايقاظ الجنود الى اوقات التدريب العسكري حيث اتخذ القشلة مركزا لقواته الخيالة وكذلك مقرا لولايته ومن ثم اشغلت من قبل بعض الوزارات في العهد الملكي الغابر.. وساعة القشلة تدق الساعة فقط وكان رنين صوتها تسمعه بغداد كلها ـ الرصافة والكرخ ـ وخاصة في اوقات الليل والفجر حيث يستيقظ على دقاتها العمال والموظفون ليذهبوا الى اعمالهم اضافة الى انها كانت تزينها المصابيح مما يساعد على رؤيتها من مسافات بعيدة اما اليوم فان البنايات العالية حجبتها عن الانظار كما حجبت صوتها عن الاسماع.. وكان الناس قد اعتادوا ان يضبطوا ساعاتهم والموظفون ان يتبينوا بها مواعيد بدء الدوام الرسمي وانتهائه من دواوين الحكومة فهي الحكم الفصل في كل اختلاف بالزمن.
بنيت القشلة وبرج ساعتها وبعض ابنية مدحت باشا التي تميز بها عهده من حجارة سور بغداد الشرقية حيث كان قائما يومذاك وقد هدمه الوالي المذكور باعتبار ان بغداد ليست في حاجة له بعد استعمال المدافع كاسلحة حديثة في الحروب ودك الحصون..
انتصب برج ساعة القشلة الذي يطل على شاطئ دجلة على مساحة مربعة الشكل طول ضلعها اربعة امتار يضيق كلما ارتفعنا عن الارض وكان في تصميمه يشبه الى حد بعيد المئذنة، وارتفاعه ثلاثون مترا وبداخله سلم حلزوني يحتوي على (73) درجة وفي نهايته حوض كبير يضم مكائن الساعة ذات الجهات الاربع كما يوجد ايضا جرس الساعة الذي يبلغ ارتفاعه مترا واحدا وقطره ثلاثة امتار وهو منفصل عن الساعة وعند عملية التشغيل تتصل الساعة بالجرس بواسطة جسر صغير، وتتم عملية النصب بواسطة مفتاح يشبه الى حد كبير «هندر السيارات» لتعطي الساعة قوة تشغيل لمدة عشرة ايام والجرس لمدة سبعة ايام. ولهذه الساعة اربعة اوجه فالوجهان الجنوبي والغربي للتوقيت الغروبي (العربي) وتشير عقاربها الى الزمن بالرقم المألوف اما الوجهان الاخران وهما الشمالي والشرقي فللتوقيت الزوالي (الافرنجي) وتشير عقاربها الى الزمن بالرقم اللاتيني القديم..
ويعتلي برج الساعة سهم حديدي قائم يرتبط في منتصفه بسهم حديدي بشكل افقي متحرك يؤشر هذا الرمح حركة الرياح واتجاهاتها. ويوجد سهم آخر تحت السهم المتحرك رسم فيه الحرف (N) بالانكليزية ويعني الرياح الشمالية، والحرف (S) ويعني الرياح الجنوبية حيث يؤشر السهم المتحرك عند هبوب الرياح على واحد من هذين الحرفين لمعرفة اتجاه الرياح وقد صنع مؤشر الرياح هذا عند دخول الانكليز بغداد عام 1917 مع التاج وتمثال الجمل وبعض الاصلاحات والاضافات الاخرى على البرج.
وكان تمثال الجمل الذي وضع فوق مرتكز الرمح قد صنع من البرونز للقائد الانكليزي «لجمن» الذي جاب الصحراء العراقية وهو يركب الجمل فاسقط هذا التمثال من التاج من فوق برج الساعة بسقوط النظام الملكي في العراق في تموز عام 1958م.
وكانت تعترض ساعة القشلة مشاكل بسيطة وسببها المطر والغبار اللذان يدخلان الساعة عبر الشبابيك فيؤديان الى تعطيلها عن العمل مما يستوجب مسحها وتنظيفها وطلاءها بالدهن باستمرار.. وكان الرجل المسؤول عن كل ذلك وعن توقيتها وضبطها وادامتها يدعى السيد عبد اللطيف احمد الساعاتي وهو في العقد السابع من العمر عايش هذه الساعة وظل يعمل معها قرابة النصف قرن وقد توفي رحمه لله في عام 1978م وخلفه في هذه المهمة السيد جبار نتمنى له العمر المديد ومزيدا من الاهتمام في رعاية اقدم ساعة في بغداد.
لتكن ساعة القشلة اساس التوقيت لمدينة بغداد
ثبت ان ساعة القشلة من الساعات المضبوطة في توقيتها لان حركتها (ميكانيكية) مؤسسة على اجود وادق النظريات في صناعة الساعات ولهذا السبب ومنذ تأسيسها كان اعتماد الكثير عليها في توقيت ساعاتهم.. لذا يجب ان تنال قسطا كبيرا من الاهتمام والرعاية لادامة ضبطها للوقت. وبهذه المناسبة نطرح تجربة مهمة تهم الجميع لعل المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون ان تفيد منها في ضبط الوقت داخل المؤسسة على الاقل فيكون بامكان اذاعة بغداد وصوت الجماهير وتلفزيون بغداد ان ينهوا الخلاف والاختلاف الذي لا يزال مستمرا بل صار مزمنا.. فتدق الساعة في احدى هذه المحطات في الوقت الذي نسمع فيه نشرة الاخبار قد بدأت تذاع في محطة اخرى، والبرنامج المقرر لم ينته بعد في المحطة الثالثة وهكذا يقع المواطن في حيرة من امره وهو ممسك بزمام ساعته يريد ضبط الوقت فيها وتوقيتها!!.. والتجربة تتلخص في شروع الاذاعات البريطانية في التوقيت على ساعة (بك بن) الشهيرة في لندن وكذلك الاذاعات والتلفزيون في الشقيقة جمهورية مصر العربية في التوقيت على ساعة جامعة القاهرة فحين تدق الساعة في الجامعة تكون قد دقت في داخل الاذاعة والتلفزيون معا في اللحظة ذاتها وهذا يجنبها الاختلاف في ضبط الوقت لن تكون هذه التجربة باقل نجاحا مع ساعة القشلة اذا أريد لها ان تكون اساس التوقيت لمدينة بغداد!!.
ساعة الكاظمين (1300هـ/1882م)
ومن ساعات بغداد القديمة ذات الابراج ساعتا المشهد الكاظمي فكانت الاولى على الباب الشرقي مقابل ساحة النافورة، والثانية على الباب القبلي. وكان الوزير الايراني «دوست محمد خان» قد اهدى الساعة الاولى وهي من الساعات الكبيرة عام زيارته للعراق بصحبة ملك ايران ناصر الدين شاه سنة (1287هـ/1870م) ولما لم يكن لها موضع تنصب فيه فقد بقيت في المخزن الى حين شيدت لها قاعدة وبرج، ونصبت عليه سنة
(1301هـ/1883م) وهي قائمة الى اليوم تعمل بانتظام.. اما الساعة الثانية وهي اكبر واضخم من الاولى والتي وضعت على الباب القبلي فقد اهداها الحاج مهدي الابوشهري الايراني بعد تشييد القاعدة الثانية والبرج وكان ذلك سنة (1303هـ/1885م).
وقد ارتبط تاريخ هاتين الساعتين بالمشروع الاضخم لتجديد عمارة المشهد الكاظمي والذي تطوع على الانفاق عليه الامير «فرهاد ميرزا القاجاري» عم ناصر الدين شاه عام (1300هـ/1882م) وقد اوكل على ذلك اثنين من تجار الكاظمية هما الحاج عبد الهادي والحاج مهدي الاسترباديان للقيام بهذه المهمة واذن لهما بالتصرف المطلق وبالمبلغ غير المحدود، فكان بدء العمل بالعمارة يوم (17- ذي القعدة -1296هـ 1878م) والانتهاء منه بجميع ما فيه في (17 ـ ربيع الاول ـ 1301هـ/1883م) واحتفل بهذه المناسبة لمدة ثلاثة ايام، ويقال ان مجموع نفقات هذه العمارة بلغ مئتى الف ليرة عثمانية.. وكان من ضمن ما اشتمل عليه التعمير المذكور تأسيس قاعدتين ضخمتين في سطح الطابق الثاني من الصحن فوق البابين الرئيسيين في جانبي الشرق والجنوب لتقوم عليهما ابراج الساعتين وقد استغرق البناء اربع سنوات، ومن ثم تم نصب الساعتين المذكورتين عليهما.
وقد امتازت الساعة التي نصبت على الباب القبلي بفخامتها اضافة الى قدمها وجمال برجها، فكان بداخل البرج سلم خشبي ذو عشرين درجة. اما آلة الساعة فقد ركزت في الطبقة الثانية وهي ذات اربعة اوجه مدورة، تدق الساعة والانصاف والارباع وتحتوي على جرس ومطرقة.. وكان الصوت المنبعث منها عاليا جدا يصم الاذان فافرغت في الجرس كمية من الرصاص لتخفيف حدة الصوت.. ويبلغ ارتفاع البرج اعتبارا من سطح الباب الى القمة ـ وهي على شكل خوذة ذهبية الطلاء ـ ستة عشر مترا ونصف المتر، كما بلغ عرض الكتابة ثلاثة امتار، وغرفة الآلة خمسة امتار.. وقد زاد في روعة منظرها ذلك الكاشاني الجميل النقش والزخرفة البديعة الذي يكسو جدرانها.
ومن اهم المشاكل التي كانت تعترض الساعة آنذاك انها حين تتوقف عن العمل ويعجز المصلحون المسلمون عن اصلاحها يتحرج الموقف بدخول المصلحين الاجانب الى المشهد المقدس بدافع الاضطرار. ومن طريف ما يروى عن تصليح هذه الساعة يوم توقفت ما ترويه «مدام ديولافوا» يوم زارت بغداد سنة (1881م/1299م)، فتذكر انهم تعرفوا في بغداد على مهندس فرنسي خبير في تصليح الساعات يعمل في بغداد