لنشرب معًا قهوة الفكر

1. عفوًا، رَفيقة دَربي، وتِرب سِني حَياتي، دَعِيني أَبُوح لك بلوحات سَاطعة مَاتعة، ترنو بشفافية مَرِحة، إلى ”شبابية الفِكر“ وتتطلع، بلُطف وعَطف، إِلى سَريرة الوِجدان؛ وأُلوِّح مِرارًا كعادتي، بأَطراف أَنامل مَغبُوطة، بإِمساك فِنجان قهوة الفكر المُتأنق، مِن راحة يدك الندية؛ وأَشدو عِشقًا بنقاء مِزاج سَامق، مِن صَفو حَشَاشَة سُويداء القلب؛ وأَشِيد صَبابةً، بنقاوة صَبوة العِشرة، بعد كُل رَشفة طويلة احتسيها مِن مِلء فِنجان قهوة الفكر المُمتع الدافئ؛ لأنتشي مَعنىً ومَغنىً؛ وأَنتعش بدورة جديدة مُثلى مِن سعادة ربيع يوم بهيج قادم، تتصدره غُرة فَجر جَذِل حَالم؛ وتزفُّه طربًا وتغريدًا، تحليق وزقزقة الأَطيار الرقيقة الولهى، المستيقظة توًا، مِن دفئ أَعشاشها، بعد أَن أراحها سُبات ليل حالم ألْيَل؛ وآمَنها غَسق الدُّجى الكحيل الأَكحل؛ ونبَّهتها، بفَرح ومَرح، تباشير الصباح المَراح، بمندُوحة كُنوز الطبيعة المنتظرة الرائدة؛ لاستشراف آفاق حَياة أَكبر مُتعة، وأَكثر إِشراقة؛ وأَبرع استكشاف نشط، باحث عن مَشارف مَحطات أَنبل وأَجلَّ لقاء؛ ومُفتِّشَةً - مع رفيقاتها الحَمائم الرشيقة - عن أجملَ وأَكملَ مَحافل مُتجددة... ففنجان القهوة الخَلَّاب: هو بداية - مَد وشَد - حَبكة العُمر الماتع؛ واحتساء رشفات قهوة الفكر الرائع: هو أَيامه ولياليه السعيدة الحالمة!
2. طفلي الحالم الوديع، وطفلتي الصغيرة المؤنِسَة… هيا بنا لنشرب قهوة الفكر السامق، لغدٍ مُشرقٍ قادم معًا؛ وإِني أَراها هَديةً مُذابةً - جِهارًا عِيانًا، في أَحلى مُداعبةٍ ثنائيةٍ؛ وأَجمل نِحلةٍ مُحَلاةٍ، في أَندى مُلاطفةٍ صَباحيةٍ؛ وأَطرى عَطيةٍ رافِدةٍ، مِن أَرقِّ وأَرقى حَركات تصابٍ أَبوية… أُسديها، وأُعطيها برفدٍ وطواعيةٍ، لأَعز وُجوه شُخوصٍ باسمة ضاحكة... وليمضي قُدُمًا فَيلق زحف السنون القادم، من فوق قنطرة المستقبل الباهرة؛ لتقر، بمُستهل طلعته المُجنَّدة الميمونة، شَغف العيون؛ وتُحتَسي مِن عُنفوان شَبابه الجَلي البيِّن، فناجين القهوة السمراء البِكر، بأَعطَر وأَكثَر سُخونة، وأَزكى وأَندى مَذاق، مِن ذِي قبل… فالمُداعبة الوديعة تصبح مُصافحة الأَحباب الكِرام؛ والمُلاطفة اللطيفة تغدو مُعانقة الأنداد الشِّهام؛ وتُمسِي لحظات التصابِي الأَبوية الوادِعة قابعة مْتأدبة في أَرائك مَجالس دَمَاثة وبشاشة الغُلمان، وعلى مَنابر مَهابة واحترام الرجال!
3. صديق الطفولة المُبجَّل!… كم تحاورنا كثيرًا. وتجادلنا رَدَحًا، وتخاصَمنا مِرارًا، فوق بِساط الطفولة الأبيض، وفي أزقة القلعة الضيقة القديمة... وتصافينا ساعةً، في جَوف وأَطراف بساتينها المُزهرة النضِرة؛ وفي صُعُد طُرق و”سَوابيط“ هَضبة أُمُّنا القلعة ذاتها... وها نحن اليوم قد ترعرعنا وكبرنا؛ وزادتنا رِياح الأَيام الباردة خِبرة وحِنكة… وتيقن - رفيق طفولتي الكريم الأغر - أَنَّ ساعة الخصام المارق، ولحظة الشجار العابر، ما هما إِلَّا مَوجة غبار هائجة طائشة، إِذ سُرعان ما تَمحو أَثرهما، وتكنِس ناعم غُبارهما دَيمَة مَطر سَاحبة؛ ويئد أَشلاء جُثمانهما المتهالك رَشفة فنجان قهوة الفِكر الساخنة المِضياف لاحقًا؛ مَمزوجة ببراءة المَسلك الناجز؛ ومُعفَّرة بأنانية المَقصَد الطفولي الشاطح، المتكاتفين الساعيين معًا، يدًا بيدٍ، بعَفوية وتِلقائية، وراء تدشِين صَنعة بِناء الذات؛ وتوطِين حِرفة إثبات الوجود!
4. وتتعدد أَحدث نكهات فناجين القهوة الجاذبة؛ وتتنوع آخر أَطياف مَذاقاتها المُستساغة المُرَّة؛ وتتجانس أَزكى مَشاربها الفاخرة الساحرة؛ وتَتعدد قائمة مُسمياتها التِّرب العصرية المُبتكرة، ويَبقى وِعاء فنجان قهوة أُمِّي الرؤوم الغالية - يرحمها الله تعالى، برحمته الواسعة - بظَاهر مَرارته، وجَوهر سُخُونته، وغَامِر حَلاوتة، الأَقوى نَكهة؛ والأدوَم تَنبيهًا؛ والأَوسَع حَفاوةً؛ والأَسمَى تكريمًا، طِوال زِحام مِشوار رِحلة العُمر الساحبة القصيرة؛ ويظل أَثره الأكثر تََخزينًا؛ ورسمه الأَعظم حِفظًا مُكنونًا، بأَثمن جَواهره المخبأَة، في صَميم وعَميم أَقاصي ذاكرة داوئر وأَيقونات بطون الفكر النابض… ويكفيني تشريفًا وامتنانًا، أن أًبالغ في احتساء مَذاق قهوة أُمِّي الحانية، مرارًا وتَكرارًا، بمعِية دِيباجة فِكرها المُنير النيِّر؛ وبرفقة سَماحَة تِحنانها العذب الجاذب؛ فهما، بحَق وصِدق، بِداية سِلسلة عِشق دائم، ومُفترق رِباط حَلقات هُيام قائم… وبكفيني البوح والإِشادة مُجددًا، بأَنِّي رَضعتهما صَغيرًا بريئًا؛ وعَانقتهما صَبيًا يافعًا؛ واحتضنتهما شَيخًا كبيرًا، راجيًا رحمة ربه، وداعيُا، مِن سْويداء قلبه البار المخلص، لمقام الوالدين الرحيمين الحانيين، بالمغفرة والرحمة، مِن لدن رب غفور رحيم… وقل رب ارحمهما، كما ربياني صغيرًا!
5. وتتوالى السنون السِّمان؛ وتتعدد الوجوه النضرة؛ وينقلني باهتمام، حَثيث زَحف سُلاميات أَقدامها الرشيقة إِلى مَعارِج بعيدة؛ وتأْخذني مهوى خُطواتها الندية إلى مَهابِط مُثيرة؛ ويُمتُّعني استئناسها المِضياف إِلى مَدارِج مُريحة فسيحة؛ ويَستدرجني استعدادها الرحب إِلى استهواء أَكناف مَحطات جَديدة شَتى، بعيدًا عن أَجواء رُبوع الوطن، وفي وَسَاعَة وفَسَاحَة َصُعُد أَرض الله الرحبة؛ لأَتعرَّف وأَتشرَّف مُطمئنًا، بمصاحبة ثُلة مِن رُفقاء السفر، وعُصبة مِن زُملاء الدراسة، في بلاد الغُربة؛ لنشرب أَصنافًا مُتعددة مِن قهوة الفكر المتآلف معًا، ونحتسي أَمتع فناجين قهوة الزمالة المخلصة سَويًا، ليبقَى ويدُوم أَثرها الطارق النابض؛ ويتباهَى برَيعان شبابه، كلما تم الضغط على مِفتاح زِر الذاكرة؛ ليعودا الإثنان: مَذاق قهوة فكر الزمالة المضياف؛ ووِفاق كرم ريعهما المتآلف المِصداق كلتاهما، بثوب جديد قشيب… عندها، تنير بحرية، أَعرق قناديل الذكريات المُتلألئة طويلًا؛ لتمرحَ وتسرحَ؛ وتسهرَ وتتسامرَ، برِفقتها وصُحبتها، أَصداء الفكر الرنانة الحالمة الرديف، بمعية سَيلٍ مُتتابعٍ يقظٍ، مِن وُرود وتداول وتناول فناجين قهوة الفكر الساخنة المُترعة؛ لتُحتَسَى، باشتهاء طلِق، بأَحلى مذاقاتها الرائعة الجديدة، حتى آخر قطرة؛ وتُدار بأَنفاس سَاخنة؛ وتُنتَظَر بشفاهٍ باسمةٍ، في مُتسع أَجوائها المُعَطرة؛ فوق سُرر نَاعمة مَوضُونة؛ وعلى أَرائك وَثيرة مُتقابلة، بأَندَى لُدُونَة، وأَنعَم رُخُُوصَة!
6. وكثيرًا ما تَدعوني جَلبة النفس، بعجيجها وضجيجها، إِلى احتساء قهوة فِكرها الصاخب، بمزاج مِن إِغراء سَاحب؛ لأَلوذ بالهروب؛ وأَنجو بالفَرار، قَاصدًا مُتماديًا مِرارًا؛ وأتظاهر بالوَقر والصَّمَم تكرارًا… ومَرة تنجح النفس الأَمَّارة بالسوء، ومِن ورائها رِدؤها وسَائسُها الشيطان الغاوي الرجيم، بأُعجوبة انحراف، وأُكذوبة انجراف استباقيتين؛ وصَرعَة نزعَة مُروِّعة استثنائية، في استمالتي واستعطافي، في تلبية الحُضور القسري، مِن طرف واحد، إلى عُقر مَجلسها المُترف، وقد أَعَدَّت حبائل فناجين قهوة فِكرها - الزائغ الضائع - المُذهبة المَسكُوبة، بفائق مُراوغة، وسَابق تَدليس؛ والممزوجة عمدًا بمذاقها الماكر، وزهوها الغادر… وتجدني، بالتوكل على الله تعالى، جَاثيًا مُضطربًا في ناحية الطرف البعيد، مِن مَجلسها المُترف، بالقرب مِن مَدخلِه الرئيس، استعدادًا للمقاطعة الصارمة، لزُخرُف حَبائلها المُتقنة، وتَزيين أَشراكها البَلهاء… وعِندئذٍ، في مُعترَك حَضرة الموقف المتأَزم، شَعرت بارتعاد فرائصي، خَوفًا وذُعرًا مِن الاصطياد السَّهل، والقنص المُيسر؛ وقد عزمت، وَقتئذٍ، على الهروب الجاد العازم، بلا رَجعة؛ لأْصدَّ إِغراءها المّقِيت، بمواجه قاطعة؛ وأَسدَّ كيدَها الخائن، برَفض ذاتي تَام؛ وأُجابهه بعِصيان مُطلق؛ وأُقايضه بتمرد حَازم؛ وأَنتصِر عليه بصَرامة مُقاوِمَة؛ وبلا مُهادَنة، أَو مُداهَنة، أَو استسلام؛ لاحتساء، أَو قبول، أَو النظر إِلى فنجان قهوتها الغادر الفاجر؛ فمَن نَصره ربُّه، بقُوة بَصِره؛ وحَباه بمَتانة بَصِيرته، فلا مُضِل، ولا مُخادع له، إِلى يوم الدين، وهو العاصِم والهادِي إلى سَواء السبيل!