الحرب.. كيف شكّلت الصراعات المجتمعات البشرية؟
مارجريت ماكميلان
* مارجريت ماكميلان، مؤرخة كندية من مواليد 1943. أستاذة التاريخ بجامعة تورنتو، وأستاذة فخرية للتاريخ الدولي والمديرة السابقة لكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد. لها عدد من المؤلفات التاريخية المهمة، وهي زميلة في الجمعية الملكية للآداب، وزميلة فخرية في كلية ترينيتي (جامعة تورنتو)، وزميلة فخرية في كلية سانت هيلدا، وكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد. كما أنها عضو في مجلس أمناء جامعة أوروبا الوسطى في بودابست ومتحف الحرب الإمبراطوري، وعضو في هيئة تحرير مجلة «التاريخ الدولي ودراسات الحرب العالمية الأولى». ونالت عدداً من الأوسمة على أعمالها وأبحاثها.
تأليف: مارجريت ماكميلان
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
شكّلت الحروب تاريخ البشرية ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية، وقيمها، وأفكارها، كما أظهرت أبشع، وأنبل الجوانب الإنسانية. وتتناول المؤرخة القديرة مارجريت ماكميلان، تأثير الحرب في البشرية، والأسباب التي تدفع إلى الحروب، وكيفية تنظيمها، ومدى سيطرتنا عليها، وكيفية العمل على إيقافها، وتسخير الإمكانات لتحسين الأنظمة الاجتماعية، والاقتصادية.
قد تكون غريزة القتال فطرية في الطبيعة البشرية، لكن الحرب مع العنف المنظم تأتي من خلال المجتمع المنظم. وتعكس لغتنا ذاتها، وفضاءاتنا العامة، وذكرياتنا الخاصة، وبعض أعظم كنوزنا الثقافية، أمجاد الحروب، ومآسيها. وتنظر مارجريت ماكميلان في هذا الكتاب إلى الطرق التي أثرت بها الحرب في المجتمع البشري، وكيف أثرت التغييرات بدورها في التنظيم السياسي، أو التكنولوجي، أو الأيديولوجيات في كيف، ولماذا نقاتل؟
يستكشف الكتاب الصادر عن دار «راندوم هاوس» في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 ضمن 336 صفحة، بعض الأسئلة المثيرة للجدل مثل: متى بدأت الحرب لأول مرة؟ هل الطبيعة البشرية حتمت علينا أن نحارب بعضنا بعضاً؟ لماذا وصفت الحرب بأنها أكثر الأنشطة البشرية تنظيماً؟ لماذا يكون المحاربون دائماً رجالاً؟ هل الحرب تحت سيطرتنا؟
أسئلة عن الحرب
بالاعتماد على الدروس المستفادة من حروب الماضي، من التاريخ القديم إلى يومنا هذا، تكشف ماكميلان عن الوجوه المتعددة للحرب، أي الطريقة التي حددت بها ماضينا ومستقبلنا، وتفكيرنا عن العالم ومفهومنا عن أنفسنا.
تقول الكاتبة: «بصفتي مؤرخة، أعتقد اعتقاداً راسخاً أنه يتعين علينا تضمين الحرب في دراستنا للتاريخ البشري إذا أردنا أن نفهم أي شيء عن الماضي. كانت تأثيرات الحرب عميقة لدرجة أن تركها يعني تجاهل إحدى القوى العظمى، إلى جانب الجغرافيا، والموارد، والاقتصاد، والأفكار، والتغيرات الاجتماعية والسياسية، التي شكلت التنمية البشرية، وغيرت التاريخ. ولو هزم الفرس الدول-المدن اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، ولو سحق الإنكا حملة بيزارو في القرن السادس عشر؛ ولو انتصر هتلر في الحرب العالمية الثانية، هل كان العالم سيختلف؟ نعلم أنه سيكون صعباً أن نخمّن تماماً الوضع الآخر. تثير الحرب أسئلة أساسية حول ماهية الإنسان، وجوهر المجتمع البشري. هل تبرز الحرب الجانب الوحشي للطبيعة البشرية، أم الأفضل؟ كما هو الحال مع الكثير من الأعمال المتعلقة بالحرب، لا يمكننا أن نتفق. هل هو جزء لا يمحى من المجتمع البشري، منسوج بطريقة ما، كخطيئة أصلية منذ أن بدأ أسلافنا في تنظيم أنفسهم في مجموعات اجتماعية؟ هل التغييرات في المجتمع تجلب أنواعاً جديدة من الحرب، أم أن الحرب تقود التغيير في المجتمع؟ أم ينبغي علينا حتى ألا نحاول قول ما يأتي أولاً، ولكن بدلاً من ذلك نرى الحرب والمجتمع كشركاء، محبوسين في علاقة خطيرة، ولكنها منتجة أيضاً؟ هل يمكن أن تجلب الحرب - المدمرة والقاسية - فوائد أيضاً؟».
ترى الكاتبة أن «الحرب ليست انحرافاً، من الأفضل نسيانها في أسرع وقت ممكن. كما أنها ليست مجرد غياب السلام الذي هو في الحقيقة الوضع الطبيعي للأمور. إذا فشلنا في فهم مدى تشابك الحرب والمجتمع البشري بعمق - لدرجة أننا لا نستطيع أن نقول إن أحدهما يهيمن على الآخر أو يسببه - فإننا نفتقد بُعداً مهماً من قصة الإنسان. لا يمكننا تجاهل الحرب وتأثيرها في تطور المجتمع البشري إذا كنا نأمل في فهم عالمنا، وكيف وصلنا إلى هذه النقطة من التاريخ. لقد كانت المجتمعات الغربية محظوظة في العقود الماضية، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تختبر الحرب بشكل مباشر. صحيح أن الدول الغربية أرسلت جيشاً للقتال في جميع أنحاء العالم، في آسيا، في حروب كوريا، أو فيتنام، أو في أفغانستان، في أجزاء من الشرق الأوسط، أو في إفريقيا، لكن أقلية صغيرة جداً من الأشخاص الذين يعيشون في الغرب كانوا كذلك. تأثرت بشكل مباشر بتلك الصراعات. الملايين في تلك المناطق بالطبع لديهم تجارب مختلفة للغاية، ولم تكن هناك سنة منذ 1945 لم يحدث فيه قتال في جزء أو آخر من العالم».
السلام واللاعنف
تقول الكاتبة إنه بالنسبة لأولئك الذين استمتعوا بما يسمى غالباً السلام الطويل، من السهل جداً رؤية الحرب على أنها شيء يفعله الآخرون، ربما لأنهم في مرحلة مختلفة من التطور. تقول: «نحن في الغرب، كما نفترض برضا عن النفس، أكثر سلاماً. قام مؤلف مثل عالم النفس التطوري ستيفن بينكر بتعميم وجهة النظر القائلة إن المجتمعات الغربية أصبحت أقل عنفاً خلال القرنين الماضيين، وإن العالم ككل قد شهد انخفاضاً في الوفيات الناجمة عن الحرب. لذلك بينما نحزن رسمياً على قتلى حروبنا السابقة مرة واحدة في السنة، فإننا نرى بشكل متزايد الحرب على أنها شيء يحدث عندما ينهار السلام، أي الوضع الطبيعي للأمور. في الوقت نفسه، يمكننا أن ننغمس في سحر الأبطال العسكريين العظام، ومعاركهم في الماضي؛ نحن معجبون بقصص الشجاعة والمآثر الجريئة في الحرب؛ وتمتلئ أرفف المكتبات بالتاريخ العسكري؛ ويعرف منتجو الأفلام والتلفزيون أن الحرب دائماً موضوع شائع. لا يبدو أن الجمهور يتعب من نابليون، وحملاته، ولا من أفلام مثل «حروب النجوم»، أو «ملك الخواتم»، أو غيرها. نحن نستمتع بها جزئياً لأننا على مسافة آمنة منها؛ نحن على ثقة من أننا لن نضطر أبداً للمشاركة في الحرب. والنتيجة هي أننا لا نأخذ الحرب على محمل الجد كما تستحق. وقد نفضل صرف أعيننا عن موضوع كئيب، ومحبط، لكن لا ينبغي لنا ذلك. لقد غيرت الحروب مجرى تاريخ البشرية مراراً، وتكراراً، وفتحت طرقاً إلى المستقبل وأغلقت أخرى».
وتضيف: «تخيلوا شكل أوروبا اليوم لو تمكن الزعماء المسلمون من السيطرة على القارة بأكملها، وقد اقتربوا من ذلك في مناسبتين. في أوائل القرن الثامن. بعد سيطرة المسلمين على إسبانيا انتقلوا شمالاً عبر جبال البرانس إلى ما يُعرف اليوم بفرنسا، لكنهم هُزِموا في معركة تورز عام 732. ولو استمروا، فمن الممكن تخيل فرنسا مسلمة، وليست كاثوليكية. كما أنه بعد نحو 800 عام، اجتاح السلطان العثماني سليمان القانوني منطقة البلقان، ومعظم المجر. وفي عام 1529 كانت قواته خارج فيينا. إذا كانوا قد استولوا على تلك المدينة، فربما أصبح مركز أوروبا جزءاً من إمبراطوريته، وكان تاريخها مختلفاً. وكان من الممكن أن تنضم المآذن إلى أبراج الكنائس العديدة في فيينا، وربما سمع موزارت الشاب أشكالاً مختلفة من الموسيقى. دعونا نتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو قضى الألمان على البريطانيين والحلفاء في دونكيرك في مايو/ أيار 1940 ثم دمروا قيادة المقاتلات البريطانية في معركة بريطانيا في ذلك الصيف. ربما أصبحت الجزر البريطانية ملكية نازية أخرى».
صراعات مختلفة
«الحرب في جوهرها هي عنف منظم، لكن المجتمعات المختلفة تخوض أنواعاً مختلفة من الحروب، والصراعات. يخوض البدو حروب الحركة. والمجتمعات الزراعية المستقرة تحتاج إلى أسوار وتحصينات. وتتغير قوى الحرب، وتتكيف، والعكس بالعكس تؤثر التغيرات في المجتمع في الحرب. واعتقد الإغريق القدماء أن على المواطنين واجب الدفاع عن مدنهم. وقد أدت هذه المشاركة في الحرب بدورها إلى امتداد الحقوق والديمقراطية. وبحلول القرن التاسع عشر، أتاحت الثورة الصناعية للحكومات أن تجمع وتحافظ على جيوش ضخمة، أكبر من أي شيء شهده العالم من قبل، ولكن هذا خلق أيضاً توقعاً بين هؤلاء الملايين من الرجال الذين تم تجنيدهم بأن يكون لهم رأي أكبر في مجتمعاتهم».
«الحكومات ملزمة ليس بالاستماع فقط، ولكن أيضاً بتقديم مجموعة من الخدمات، من التعليم إلى التأمين ضد البطالة. إن الدول القومية القوية اليوم بحكوماتها المركزية والبيروقراطيات المنظمة هي نتاج قرون من الحروب. وتصبح الذكريات وإحياء ذكرى الانتصارات والهزائم الماضية جزءاً من القصة الوطنية، وتتطلب الأمم قصصاً إذا أرادت أن تكون متماسكة. ويمكن لمثل هذه الأنظمة المركزية، التي يرى أبناء شعبها أنفسهم جزءاً من كل مشترك، أن تشن حرباً على نطاق أوسع ولفترة أطول بسبب تنظيمها، وقدرتها على استخدام موارد مجتمعاتها، وقدرتها على الاعتماد على دعم مواطنيها. القدرة على شن الحرب وتطور المجتمع البشري جزء من نفس القصة. وعلى مر القرون، أصبحت الحرب أكثر فتكاً، وتأثيراً. لدينا موارد أكثر ومجتمعات أكثر تنظيماً، وتعقيداً؛ يمكننا حشد وإشراك الملايين في نضالاتنا؛ ولدينا قدرة أكبر على التدمير».
وترى الكاتبة أنه كان علينا أن نتوصل إلى مصطلحات جديدة لوصف الحربين في القرن العشرين: الحرب العالمية، والحرب الكونية. ففي حين أن بعض الخيوط تدور باستمرار عبر تاريخ الحرب والمجتمع البشري مثل تأثير التغييرات في المجتمع، أو التكنولوجيا، ومحاولات الحد من الحرب، أو السيطرة عليها، أو الاختلافات بين المحاربين والمدنيين، تولي الكاتبة الكثير من الاهتمام للفترة التي تعقب نهاية القرن الثامن عشر، لأن الحرب لم تعد مختلفة من الناحية الكمية فحسب، بل من الناحية النوعية بحسب رأيها.
وتستخلص الكاتبة أيضاً العديد من الأمثلة من تاريخ الغرب، لأنه كان رائداً في الحروب في الماضي القريب، فضلاً عن محاولات إبقائه تحت السيطرة. لكن في أغلبية الجامعات الغربية تجد أنه يتم تجاهل دراسة الحرب إلى حد كبير، ربما بسبب الخشية من أن مجرد البحث والتفكير فيها يعني الموافقة عليها. وتعلق عل ذلك: «أتذكر منذ سنوات، في قسم التاريخ، كان لدينا زيارة من مستشار تعليمي لمساعدتنا في جعل محاضراتنا أكثر جاذبية للطلاب. وعندما أخبرته أنني أضع خططاً لدورة تدريبية تسمى «الحرب والمجتمع» بدا عليه الفزع. وحث على أنه سيكون من الأفضل استخدام عنوان «تاريخ السلام». إنه إهمال غريب، لأننا نعيش في عالم شكلته الحرب، حتى لو لم ندرك ذلك دائماً. انتقلت الشعوب، أو هربت، واختفت أحياناً من التاريخ، بسبب الحرب. لقد تم تعيين العديد من الحدود بفعل الحرب، وصعدت الحكومات والدول وسقطت خلال الحرب. وكان شكسبير يعرف ذلك جيداً، وغالباً ما نجد الحرب حاضرة في مسرحياته، حيث ينهض الملوك ويسقطون، بينما يحافظ المواطنون العاديون على رؤوسهم ويصلّون حتى تتركهم العاصفة سالمين. وبعض أعظم فنوننا البشرية مستوحاة من الحرب، أو كراهية الحرب مثل الإلياذة، وسيمفونية بيتهوفن «إيرويكا»، ومقداس الحرب لبنيامين بريتن، وكوارث الحرب لفرانشيسكو جويا، وجيرنيكا لبيكاسو، أو الحرب والسلام لتولستوي».
متطلبات حربية جديدة
«ربما تكون الحرب هي الأكثر تنظيماً بين جميع الأنشطة البشرية، وقد حفزت بدورها على مزيد من تنظيم المجتمع. وحتى في أوقات السلم، فإن الاستعداد للحرب - إيجاد الأموال والموارد اللازمة - يتطلب أن تمارس الحكومات سيطرة أكبر على المجتمع. وقد أصبح هذا صحيحاً بشكل متزايد في العصر الحديث لأن متطلبات الحرب نمت مع قدرتنا على القيام بها».
تقول الكاتبة: «في زيادة قوة الحكومات، جلبت الحرب أيضاً معها تقدماً، وتغييراً، والذي نراه مفيداً: إنهاء الجيوش الخاصة، وفرض المزيد من القانون والنظام في العصر الحديث، والمزيد من الديمقراطية، والمزايا الاجتماعية، وتحسين التعليم، والتغييرات في وضع المرأة، أو العمل، والتقدم في الطب والعلوم والتكنولوجيا. ونظراً لأننا أصبحنا أفضل في القتل، فقد أصبحنا أيضاً أقل استعداداً لتحمل العنف ضد بعضنا بعضاً. وانخفضت معدلات القتل في معظم أنحاء العالم، ومع ذلك شهد القرن العشرين أكبر عدد من الوفيات في الحروب من حيث المقارنة مع الأرقام الموجودة في التاريخ. إذاً، هناك سؤال آخر: كيف يمكننا التوفيق بين القتل بهذا الحجم، وفي الوقت نفسه استنكار العنف؟ من الواضح أن معظمنا لن يختار شن حرب للحصول على فوائدها. وبالتأكيد هناك طريقة أخرى للقيام بذلك. لكن هل وجدناها؟»
وتختم كلامها: «هناك الكثير من هذه المفارقات حول الحرب. نخشى الحرب، ولكننا مفتونون بها أيضاً. قد نشعر بالرعب من قسوة الحرب، وتأثيرها، ولكن يمكننا أيضاً الإعجاب بشجاعة الجندي، والشعور بالقوة الخطيرة لسحر الحرب. حتى إن البعض منا معجب بها باعتبارها واحدة من أنبل الأنشطة البشرية. تمنح الحرب المشاركين فيها رخصة لقتل إخوانهم من البشر، ولكنها تتطلب أيضاً إيثاراً كبيراً. وبعد كل شيء، ما الذي يمكن أن يكون أكثر نكراناً للذات من الرغبة في التخلي عن حياتك من أجل شخص آخر؟ لدينا تقليد طويل في رؤية الحرب كمنشط للمجتمعات، كتقويتها، وإخراج جوانبها النبيلة». ويبقى السؤال الأهم، والتحدي الأكبر، هو كيف نحافظ على الحياة البشرية ونحسنها، ونقلل من الحروب ونخدم السلام الحقيقي في العالم؟