على صعيد القرآن، نُلاحظ أنّ هناك فقهاً للأولويات مبثوثاً في النصوص المقدّسة، على مستوى العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والتعاملات أو العلائق الاجتماعية..فالقرآن إذ يُقدِّم التوحيد على (الطاغوت) وهو كلُّ معبود غير الله تعالى، وكلُّ إله مُزَيَّف ومنخفض ومضمحلّ، إنّما يُثبت في أذهاننا حقيقة اجتماعية على غاية من الأهميّة، وهي أنّ أُسس الحياة ومبادئها قائمة على شعار «لا إله إلّا الله» هذه القاعدة العريضة والركيزة الكبرى التي تنبعث منها وتصدرُ عنها كلّ أفكارنا وتصوُّراتنا وعواطفنا ومواقفنا وأعمالنا واختياراتنا، وبالتالي فإنّ التوحيد ينقذنا ليس من ورطة الثنائيات المختلقة، والإزدواجيات الموهومة فقط، وإنّما يجمعنا في إطار وحدة واحدة، ويدفعنا للعمل نحو هدف واحد، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق/ 6)، وقال في الفصل بين الازدواجيات العبادية في مثلين متصلين: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل/ 75- 76).
وعندما تنحل إشكالية التداخل غير المنطقي بين إلهين: خالق حقيقي وآخر مصنوع تكون أولوية العقيدة في مُراعاة مبدأ التوحيد، حلاً لمشكلة الإنسان في حاجته الأساسية إلى الدِّين.
وعندما يُفاضلُ القرآنُ بين أعمال تُعدُّ في عُرف الناس أو مُتبنياتهم الفكرية أولويات بينما لا يراها هو كذلك، فإنّه يُوجِّه أنظارنا إلى إعادة ترتيب أولوياتنا؛ لاحظ ذلك في قول الحقّ سبحانه: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة/ 177).
القرآن هنا لا يُصحِّح المفهوم فحسب، وإنّما يُعطيه بُعداً عملياً اجتماعياً عميقاً يجعله حاضراً في ذهن الإنسان المسلم (تلميذ القرآن) على أنّ سُلّم أولوياته كإنسان مُتديِّن ليس هو التوجُّه إلى قبلة الصلاة لأداء فريضة أو شعيرة وانتهى الأمر، وإنّما لابدّ له من أن يكون (صادقاً) و(تقيّاً) و(نفّاعاً)، ولا يتحقّق شرط صِدقه وتقواه وعطائه إلّا بمجموعة دراسات عملية وخدمية وبرامجية تنقله من إنسان نظري يحمل العقيدة الصحيحة في داخله، إلى إنسان عملي يُعبِّر عنها في الخارج بجملة أعمال ونشاطات اجتماعية في إنفاق المال على المحتاجين، والوفاء بالعهود، والصبر على الابتلاءات والمحن والتحدّيات، انطلاقاً من إيمان (فكري) بالله الواحد الأحد (التوحيد)، وإيمان (استشرافي) بمُلاقاته للحساب في يوم المُساءلة (القيامة)، وإيمان (حركيّ) بينهما أنّ الوصول إلى التوحيد وإلى لقاء الله لا يكون إلّا من خلال العمل، لاحظ ذلك أيضاً في المعنى العملي المُترتِّب على مفهوم (الصلاة): ﴿إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ (المعارج/ 19-35).
إنّه نفس المعنى العملي المُترتِّب على (الإيمان) أيضاً الذي ورد في مقدّمة سورة (المؤمنون)، ممّا يعني أنّ أولوية الإيمان والصلاة أو غايتهما هي بناء المجتمع الصالح الذي نأمل من أبنائه الخير، ونأمن منهم الشرّ.
ونلاحظ ذلك مرّة أُخرى في المُفاضلة بين أعمال اجتماعية صالحة؛ ولكنّها لا تتطلَّب جُهداً كبيراً في بناء الذات وتزكيتها، وإعدادها للتضحية من أجل رسالتها، وأعمال رسالية واجتماعية أهم وأولى. يقول عزّوجلّ مقارناً بين أعمال أقلّ درجة من حيث التأثير والفائدة، وأعمال أخرى أعظم درجة في بناء المجتمع وخدمته، ومن ثمّ فهي مقارنة بين صنفين من الناس: صنف يضع (المهم) في رأس أولوياته، وصنف يضع (الأهم) في الصدارة منها. استمع إلى القرآن حيث يقول: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (التوبة/ 19-20).
إنّ سقاية الحجاج في يوم التروية حيث شحة الماء في عرفات، وإعادة ترميم الكعبة عند تعرُّض بنائها للتصدُّع، عملٌ مجيد ومقبول عند الله تعالى؛ لكن مردودات الإيمان بالله وبالمعاد في ضبط سلوك الإنسان على خطّ الاستقامة، والمجاهدة في سبيل الله بالأموال والأنفس بحسب مُتطلِّبات الجهاد لرفع الظلم وإرساء قواعد العدل، والهجرة في سبيل الله لإقامة حكم الله في الأرض، أكثرُ نفعاً للأُمّة من أعمال محدودة لا تأتي بخدمة مجتمعية تمتد آثارها مع الأيام ولا تكون حصراً في موسم معيّن، أو بناء بيت الله بالحجارة، ونسيان بيوته في قلوب الناس في رفد وإعانة عباده الفقراء والمساكين والمستضعفين.
ونلاحظ ذلك في وصايا لقمان لابنه وهو يُحدِّد له سُلّماً للأولويات مبتدأً بـ(العقيدة)، ورابطاً الاعتقاد بالسلوك الحيّ في الإحسان للوالدين، ومؤكّداً على وضع المعاد نصب العين، مارّاً بالعبادة (الصلاة) ومُعرِّجاً على آثارها التربوية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاتماً بطائفة من الوصايا الأخلاقية التي تُعبِّر عن عُمق الإيمان بالله، وصِدق التوجُّه العباديّ له. تأمّل في الآيات من سورة (لقمان) لترى كيف يُسلسل لقمان الأولويات:
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ:
1- يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - التوحيد -
2- وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[1] - الإحسان إلى الوالدين -
3- يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ - المعاد -
4- يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ - العبادة -
5- وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ -المسؤولية -
6- وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (لقمان/ 13-19). - الأخلاق -

[1]- قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (لقمان/ 14-15) ليس من وصيّة لقمان، بل هو وصف الجمل الاعتراضية التي يعتمدها القرآن؛ لكنّها من صُلب الوصايا من حيث روحها ومضمونها.

من صفحة البلاغ