أعمال محمد الجشي محاكاة مبتكرة بين الواقع ورمزية الخيال
الفنُ مدرسةٌ إنسانيةٌ عميقةٌ والفنانُ قائدها؛ فهو يتملك أدواتَ التأثيرِ الاجتماعي والتغييرِ الثقافي، وترسيخ القيمِ والعلو بالفكرِ وحريةِ التعبيرِ.
فهو كالشعاع يسلطُ نورهُ على مَنْ حولهِ، ويثير مشاعرهم وأحاسيسهم ويثري ذائقتهم بآفاق واسعةٍ، وببصيرةٍ تقوي علاقتهم ومحبتهم وعطاءهم.
ولا تكاد تخلو المجتمعات من فنانين يمتلكون تِلْكَ المعاييرِ المتفردة التي تتعدى حدودَ اللوحةِ، واللونِ، والفرشاةِ؛ لتؤكدَ سمو الفن بمضامينهِ الواسعةِ التي تجمعُ بَيْنَ الماضي، والحاضر، والمستقبل.
المجتمع الفني القطيفي، ومنذ نشأتهِ منذ ما يقارب 50 عامًا؛ وهو يأخذ بالاتساع المتسارع كالنهر المتدفق الذي يزداد اتساعه، وفروعه إلى يومنا هذا؛ إلى أَنْ أصبح سمةً مجتمعيةً تنمويةً، تسهمُ، وتشجَّعُ، وتنشرُ الفنونَ البصريةِ، واليدويةِ بجميعِ مجالاتها، واتجاهاتها، ومدارسها؛ وازداد هذا الاتساع ليصلَ إلى كلِّ بيتٍ، ولا أبالغ في القول بأنه لا تكاد تخلو عائلة مِنْ أثرِ تِلْكَ اللغة ولمساتها الجميلة.
مِنْ هُنا أحببتُ أَنْ أسلطَ الضوء على أخي الأكبر الفنان محمد؛والذي نال نصيبًا مِنْ ذلكَ الزخم الفني الموجود في مثل البيئات الواعدة؛ فلم يكنْ فنَّهُ مُكْتَسَبًا مِنْ أحدٍ بل كَانَ هبةً ربانيةً بَيْنَ ليلةٍ وضُحَاهَا، فلمْ يَكُنْ يمثل بالنسبة لي أخًا فقط بل كَانَ صديقًا، ومربيًا، ومعلّمًا، فقد كنتُ أشاهد بداياتهِ بالمرحلةِ الابتدائيةِ مع أول ورقةٍ متعجبًا، ومنبهًا لي حينئذٍ، ولمَنْ حولي مِنْ العائلةِ والجيرانِ؛ فهو يرسمُ بكلِّ تلقائيةٍ رسومًا تارةً تكونُ واقعيةً، وأخرى خيالية ذاتَ أبعادٍ، ومنظور، وظل، ونور، تسبقُ عمرهُ الفني بكثير، واستمر هذا الرسم إلى التقدمِ أكثر، وذلك عبر استخدامه الألوان الزيتية على الألوان الخشبية، والجدران ثم لوحات الكانفس، ولم تكن تلك الرسوم بواقعيةٍ دقيقة فحسب؛ بل بأساليب مدارس الفن المعتبرة كالتأثيرية، والواقعية، والسريالية، ومحاكيًا للوحات المستشرقين، مما يؤكد فيه نضج اللون عنده من انسجام، وتضاد، وتباين، وهو ما يزال في المرحلة المتوسطة.
ولأكثر من خمسة وعشرين عامًا كَانَتْ مشاركاته محدودة جدًا في المعارض الفنية المحلية، والخارجية، وذلك لانشغاله وعدم تفرغه للإنتاج والمشاركة بالأعمال، والمسابقات، لكن ذلك لم يمنعه من التمرينات، والممارسات اليومية من اسكتشات، وتجارب، وإنتاج لوحات خاصة في غاية الإبداع وبأساليب مختلفة.
وبعد هذا الانقطاع الطويل بدأت تدب فيه روح خلاقة بأفكار، وخيالات لم تسجلها الكاميرا، ورؤى ذات أعماق وجدانية مثيرة تحمل معانٍ إنسانية، واجتماعية لواقع المجتمع القطيفي من خلال استرجاع الماضي، وذكرياته التي ركزت على ما بداخل أسوار البيت، وليس خارجه، وخلْق مشاهد قصصية واقعية بين أفراد الأسرة كالجد، والجدة، والأب، والأم، الأولاد بملامح وجوه ناطقة تعبر عن المشهد الذي يسترجعه وما تسعفه إياه ذاكرته، ويصور لنا ما يراه ويعرفه ويسمع عنه، مسجلًا هَذِهِ اللقطات بفرشاة تملكت عدسة تعطي أبعادًًا مثالية للمنظور، والضوء والملمس بل، وتعطي إحساسًا، ومشاعر مختلفة لا تستدعي من المتأمل إلا أَنْ يقرأ الوجوه ليتعرف على قصة المشهد.
أنتج الفنان الكثير من الأعمال بعضها يومي وبعضها أسبوعي؛ تناول فيها العديد من قصص التراث القطيفي من مشاهد أُسرية، وأساطير، وخرافات، ومناسبات اجتماعية وخيالية وطبية ومبانٍ تراثية.
الفنان محمد الجشي ليس مدرسةً قطيفةً؛ بل تتسع لتكون وطنية، وخليجية، وذلك لما لتقارب المشاهد الثقافية والبيئية، والمجتمعية، لتلك المجتمعات، والبيئات.
وأعمال الجشي في حقيقة الأمر هي مشاركة بما يمتلكه من بعد ثقافي، وفكر ملهم لتلك المجتمعات؛ يشاركهم فيها المشاعر والترابط والمحبة.