البصيرة الحسينية
بواسطة : السيد فاضل آل درويش
6 مارس، 2022
الإمام الحسين (ع) شمس القيم والمعارف والمضامين العالية التي تشع على الأرض فتسقيها بشجاعته وتضحياته وإبائه؛ لتنبت في النفوس دروس بناء النفس وتنمية قدراتها وإثبات الوجود المعطائي ورسم معالم سيرته في هذه الدنيا لتبقى خالدة بما خلّفت وأورثت، فحينما نتساءل عن أحد المفاهيم الجميلة وهو الخلود وكسر حاجز العامل الزمني مع تعاقب الأجيال، نجد أقوى الإجابات المقنعة من خلال المواقف الحسينية التي أثبت بها مصداقية فكره ومنهجه الخالد، والذي يتدارسه العالم اليوم من خلال قراءة سيرة هذا العظيم الذي أسر النفوس المنصفة بما كان عليه من عزة وكرامة، فقد سطر كتاب التاريخ البشري جوانب وأفكارًا وأحداثًا لا يمكن للزمن أن يلفها بعباءة النسيان، ولكنك لن تجد منعطفًا تاريخيًا مهمًا كعهد الإمام الحسين في الدعوة لمعالي الأخلاق والقيم الإنسانية الجميلة التي تحفظ للإنسان رفعة شأنه وتكامل شخصيته.
نيل المكانة العالية واحتلال مساحة كبرى في القلوب لا يأتي من فراغ ولا من خلال التعامل الجاف مع الآخرين، العلاقة الحقيقية والجاذبية له تنبع من مكنون شخصيته وما يحمله من خلق يحترم فيه وجود الآخر، وهذا ما وجدناه متجسدًا في شخصية الإمام الحسين (ع) ومواقفه الرائعة والتي تنبئ عن وجود كمالي قد تخلى عن الذات في أنانيتها وتجبرها وتعاليها، الوجود الحسيني الآسر للنفوس له منشأ وهو روح التواضع والبساطة في التعامل واحترام وجود الآخر، فالإمام الحسين وجود عنوانه وهويته العطاء بكافة أشكاله متلمسًا حاجات الآخرين المعنوية والمادية، فقد قدم الإمام (ع) منهجية الكمال الإنساني في بعدها الروحي والفكري والأخلاقي والاجتماعي ويتبيّن ذلك من خلال سيرته الفياضة بذلك، فالعبودية التي جسّدها الإمام الحسين لم تكن صورة الصلاة الجامدة على الهيئة دون أي مضمون، بل هي فناء الذات في الإرادة الإلهية وطلب رضا المعبود في كل كلمة وخطوة تصدر منه، فهذا التفاني هو روح النقاء والطهارة النفسية والتجافي عن دار الغرور واحترام حقوق الآخرين والعمل المثابر والاستعداد ليوم الحساب، هنا تتصاغر الدنيا بكل زخارفها وتجلياتها وتعافها نفسه فتخرج منها دوائر الطمع والأنانية والتكبر والظلم وازدراء الآخرين.
الإمام الحسين (ع) قدم نموذج العطاء بلا حدود في سبيل الحق وإعلاء كلمة الدين وقيمه، والحياة التي دعا لها هي حياة الكرامة والعزة ورفض الاستبداد والعبودية مهما كلف الأمر في تثبيتها، ولذا كان (ع) مصباح الهدى وسفينة النجاة لمن تمسك بنهجه وسار على معالم العزة التي أرساها وجسّدها ودعا إليها، ولذا علينا النظر في نهجه (ع) بعين الفكر الواعي الذي يدعو للعمل المثابر لا التقوقع بجوف المشاعر العاطفية وحدها، فالحسين (ع) هبة السماء لمن أراد الهدى والحق والتكامل العقلي والسلوكي والوجداني، فواقعنا يحمل الكثير من الأفكار المتناثرة والظواهر السلوكية التي نحتاج إلى عرضها على النهج الحسيني والتمييز بين الحق والباطل من خلال البصيرة الحسينية، ولا يمكن معرفة الحق إلا من خلال امتلاك البصيرة الواعية والنفس المتشعب فيها روح الأخلاق الرفيعة الصادقة.
إن الذين تخاذلوا عن النهج الحسيني كانوا يملكون معرفة بمقامه (ع) الديني والاجتماعي وأنه سيد شباب أهل الجنة، وإنما منعطف الانحراف عندهم مرده إلى افتقادهم للإرادة القوية للسير على نهجه الإصلاحي خوفًا على دنياهم التي التصقوا بها وهاموا بها، وهذا ما ينبغي التحذير منه في كل زمان والتي تؤدي إلى التخلف عن نهجه، فامتلاكنا للمعرفة به لا يقينا من الانزلاق في مستنقع الانحراف والضلال، وما يحفظنا في دائرة الحق والنجاة هو التمسك العملي بالقيم الدينية وتحكيم خطواتنا وفق العقل الواعي لا الأهواء المتسللة، فلننظر في تفاصيل واقعنا وفق النظرة الحسينية منطلقين بروح العطاء والتضحية والشجاعة والحفاظ على كرامتنا من كل ما يعرضها للسقوط