السؤال :هل إن الأمكنة والقصص المذكورة في القرآن الكريم، كالجنّة والنار وقصة قوم لوط و... كلها تمثل عين الحقيقة، أو أنها قد تحمل صفة الرمزية والمثال؟ أرجو توضيح ذلك مع الشكر الجزيل.


الجواب :
إن القرآن الكريم هو كلام الله وهو الحق المطلق الذي لا يتطرّق إليه الباطل أبداً. وإن ألفاظ القرآن الكريم قد أنزلها الله سبحانه بمستوى فهم عامة الناس لغاية بيان المعارف الإلهية، وكلام الله سبحانه يختلف عن كلام البشر اختلافاً جوهرياً تامّاً.
فالإنسان لو أراد بيان بعض المعارف الراقية قد يضطرّ لمزج الحق مع الخيال غير الواقعي ويصب الموضوع الحقيقي في قالب القصص الرمزية والكناية، وهذا كلّه بسبب القيود ومحدوديات الإنسان الذاتيّة، أمّا الله سبحانه وهو الحق المطلق اللامتناهي، لا يكون كلامه إلا حقاً وطلقاً كذلك ولا يمكن أن يتطرّق إليه الباطل واللاواقعية، حتى لو كان في قالب القصة.
فباعتقادنا، إن العبارات التي استعملها القرآن الكريم في قصصه، تدل على موضوعية القرآن وواقعيته في بيانه للأخبار المتحقّقة في الماضي، كقوله عزّ وجلّ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف، 111].


وكذلك: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود، 120].
فالقرآن الكريم يبيّن في هذه الآيات المباركة أن قصصه عبرة لأولي الألباب وحقٌّ لا يمكن انسجامه مع الباطل. إذن، يتضح بهذه الآيات المباركة، أن جميع القصص القرآنية بما فيها قصة خلق آدم () و... ، هي حقائق واقعية وإن صيغت في قالب القصة والتمثيل، وذلك لأن القرآن الكريم هو كتاب هداية من قبل الحق المطلق فمن غير المعقول أن يجعل فيه قصصاً موضوعة ولا يمكن كونها هداية للناس، لعدم حاجة الله سبحانه إلى هذا الأمر. ومن الطبيعي أن تكون القصة إحدى طرق الهداية والتفهيم وقد اتخذ علماؤنا الكبار طريقة القصة لبيان غرضهم، ولا إشكال في تدخل الخيال في القصص البشرية، غير القرآن الذي هو ليس كتاب قصة ولا تاريخ. فلا يوجد فيه إلا الحق الصريح الخالص غير الملفق بالخيال والتحريف والوضع، وإلا خرج عن كونه حقاً.
فمن أهم خصوصيات دعوة الأنبياء الإلهيين، هو تجنّب الطرق غير المطلوبة في التبليغ، إذ إنها تضرّ بثقة المخاطبين، ومن هذا، نجد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كباقي الأنبياء لم يكن بحاجة إلى وضع الأساطير والقصص غير الواقعية لأجل إيصال الرسالة الإلهية. ولإثبات هذه الحقيقة حاول السيد العلامة الطباطبائي في ردّه على من يقول بأن القصص القرآنية قصص رمزية، القول في ذيل قصة آزر عم النبي ابراهيم (): ومن عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين أن القرآن الكريم كثيراً ما يهمل فيما يذكره من تاريخ الأنبياء والأمم ويقصّه من قصص الماضين أموراً مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ الوقوع ومحلّه والأوضاع الطبيعية والاجتماعية والسياسية وغيرها المؤثرة في تكوّن الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع،... وليس ذلك إلا لأن القرآن سلك في قصصه المسلك الجيّد الذي يهدي إليه في القصص الحقيقي وهو أن يختار القاصّ في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته ومقصده إيصالاً حسناً، ويمثل المطلوب تمثيلاً تاماً بالغاً من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه... فمن الجائز أن يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده وهو الهداية إلى السعادة الإنسانية قصصاً دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر الدعوة وإن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية... وهذا خطأ فإن ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ ولا صحيفة من صحف القصص التخييلية وإنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نص على أنه كلام الله سبحانه، وأنه لا يقول إلا الحق، وإن ليس بعد الحق إلا الضلال، وإنه لا يستعين للحق بباطل، ولا يستمد للهدى بضلال، وأنه كتاب يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وإن ما فيه حجة لمن أخذ به وعلى من تركه في آيات حجة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن أن يجوّز اشتماله على رأي باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة تخييل؟! [يراجع: تفسير الميزان، ج 7، ص 165 ـ 166]


أما الأستاذ الشهيد المطهري فتطرّق في بحثه عن ضرورة مشروعية الوسيلة في التبليغ لظن غير واقعية القصة القرآنية وادّعاء عدم تحقق بعض القصص القرآنية في التاريخ، حيث قال: أو هل ثبّتت كل القضايا التي حصلت في الدنيا في الكتب التاريخية؟! ثم انتقد بعد ذلك من يدّعي بأن هدف القرآن من بيان القصص هو الموعظة لا ذكر التأريخ، فلا ضرورة في كونها واقعية قائلاً: "من المستحيل على الأنبياء في منطق النبوة أن يتوسلوا بالكذب والأمر غير واقع ـ والعياذ بالله ـ ولو بصورة التمثيل لبيان حقيقة ما". [مجموعة آثار الشيخ مرتضى المطهّري، ج 16، ص 99 ـ 100]
فالقرآن الكريم لا يمكن أن يتطرق إليه الباطل بسبب استحكامه وبرهانيته وانسجامه مع الفطرة والعقل البشري: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. [فصلت، 42]
من التهم التي وجّهها الكفّار للنبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) هي أن ما جاء به هو نسج شعر وخيال. فردّ الله هذه التهمة بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. [يس، 69]
فلا يمكن للقرآن أن يظهر أمراً غير واقعي وغير حقيقي على أنه واقع وحقيقة. بل إذا أراد بيان أمر واقع يبيّنه على شكل قصة. فليست القصة القرآنية مفتعلة ومجهولة، بل حقائق حصلت في الأزمنة الماضية وليس هدف القرآن من ذكرها هو تسلية الناس، بل الهدف هو النتائج الحقة التي يستنبطها الناس من القصة لهدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم، لذلك يصف الله القصة القرآنية بأنها حق وأحسن القصص:



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}. [المائدة، 27]، [ينظر: التفسير الموضوعي للقرآن للشيخ جوادي آملي، ج1، ص298- 301] نعم، يمكن القول: بأن ما كان في قالب المثال وهو ناظر إلى العنوان الكلي ـ لا إلى الشخص الخاص ـ هو الوحيد الذي يحمل طابع التمثيل في القرآن لا غير، وذلك لأن القرآن في هذه الموارد يصرّح بطابعه التمثيلي كالآيات المباركة: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت، 41] و{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}. [البقرة، 171] ومع إن انطباق هذه الموارد وغيرها على آلاف المصاديق المشابهة لا يمكن إنكاره، ولكن ما كان في قالب بيان الأمور الواقعية المتحققة في الخارج، لا يمكن حمله على الأسطورة والرمز والتمثيل. [انظر: قصص القرآن في مرآة الواقعية]
وكما تعلمون إن التمثيل على قسمين: واقعي وغير واقعي، فالأمثلة الواقعية هي الأمثلة التي حصلت في الزمن الماضي وقد استعان المتكلم بذكرها لإفهام المخاطب أموراً معينة، وقد يستعين بأمثلة غير حاصلة للتقريب الذهني. أما القصص القرآنية، فهي كلها تحكي عن حوادث تحققت في الماضي، وقد بينها الله سبحانه في قالب المثال لأخذ الدروس والعبر منها، ولهذا يقول الله لرسوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف، 32] ومن الطبيعي أن الله سبحانه لا يأبى أن يضرب مثلاً بواقع طبيعيّ حاصل. {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] إذن، كل ما يذكره القرآن الكريم من القصة والمثل فهو لأجل بيان حقيقة عالية المضامين ثقيلة الوزن فيصبّها في قالب السهولة والتبسيط لتكون في متناول فهم الجميع. فلا يمكن للقرآن أن يظهر أمراً غير حاصل على أنه واقع وحقيقة. وإذا أراد إظهار أمر حاصل فيبيّنه على شكل قصة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ‏ِ}. [الكهف، 13]. [التفسير الموضوعي للقرآن، ج1، ص299- 300].
النتيجة:تقسيم القصة القرآنية على أساس يمكن من خلاله تسرّب الخيال والأسطورة إليها، لأن كل ما بينه القرآن من الحوادث الماضية قائم على أساس الحق والواقع، حتى لو لم يُصطلح على القصة أنها تاريخية، فلا القرآن كتاب تاريخ، ولا هو بصدد الاستعراض التاريخي للحوادث، ففي عرضه للقصة لا يتناول إلا بعض أبعادها وعناصرها حسب أهدافه المعينة.
المصدر
تحليل لسان القرآن منهجية فهمه، لمحمد باقر السعيدي روشن، لسان الدين والقرآن، أبو الفضل ساجدي .