البعثة النبوية مسير التكامل الإنساني
بواسطة : السيد فاضل آل درويش
البعثة النبوية ترتبط في أذهان المسلمين ووجدانهم بوصفها حادثة غيّرت أحوال الناس المتردية والسيّئة ونقلتهم إلى الإنسانية الحقة، تلك الإنسانية المتصفة بكل معاني الكرامة والتكامل والاتصاف بالصفات الحميدة، والتجافي عما يردي النفوس في مستنقع الرذائل والأسقام الأخلاقية والعادات القبيحة التي أخذت في الانتشار والاستحكام في زمن الظلام والجاهلية، وهذا اليوم الشريف لا يقتصر الاحتفاء به على فئة من الناس بل هي فرحة عارمة تعم أرجاء المعمورة بمَقْدِم البشير النذير، والذي أخذ على عاتقه تحطيم الأصنام التي ترعرعت واستقرت في النفوس فحرّفتها عن الفطرة السليمة، وتلك الأصنام لا يقصد بها تلك الحجارة التي يتوجهون لها بتدبير شؤونهم دون الواحد القهار، بل الصنمية عنوان شامل لكل حالات الرضوخ والاستجابة العمياء للأهواء والشهوات، فعندما يلغي الإنسان حكم العقل الواعي والنظر في عواقب الأمور والتبصر في كل خطوة يقدم عليها، فستصبح الصنمية هوية له في نواحي حياته العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية، فقد جاء الرسول الأكرم (ص) لتحرير البشرية من الانتكاسة التي أصيبت بها فهوت خائبة وساقطة في العادات القبيحة والأعراف الضالة، جاء (ص) منقذًا للبشرية وناقلًا إياهم إلى عالم السلام والسعادة والفكر المتزن وحياة التهذيب والتزكية.
لقد كانت آية المصداقية في شخصية رسول الله (ص) هي معالم تعامله بالصدق والأمانة فاكتسب بذلك ثقة الناس والمكانة الخاصة بينهم، وعندما بعثه الباري بدعوة التوحيد ومكارم الأخلاق كان ذلك أدعى لمقبوليته عند أهل العقل والإنصاف ممن يستمعون لندائه ويقرؤون اليوم عن سيرته وأهداف حركته الإصلاحية، إنه (ص) ينبذ تعطيل العقل واتباع الأهواء والشهوات بعبادة الأصنام على المستوى العقائدي، ويدعو إلى ترك العصبيات والحروب والخصومات على المستوى الاجتماعي، ويدعو إلى مكارم الأخلاق والتخلي عن تلك الرذائل والعادات السيئة التي انتشرت بينهم كشرب الخمر والقمار وظلم الضعفاء والبخل وغيرها، وإن المنصف المتأمل في البعثة النبوية ودورها المحوري الريادي في قيادة مسيرة البشرية نحو الاستظلال بالعدالة الاجتماعية والاستقامة السلوكية والرشد العقلي، سيرى فيها منعطفًا مهمًا يقود نحو نشر الفضيلة وفعل المعروف وكف أيدي الظلم والطغيان وتمزيق المعتقدات الانحرافية، فرسول الله (ص) بعث في مجتمع أدق وصف له ما عبر عنه القرآن الكريم عن أحوال الناس السيئة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، فعندما نزن المجتمع في مكة المكرمة من خلال الصفات الموجودة في أفراده على مختلف الجوانب والأصعدة، سنجده متخلفًا على جميع المستويات إذ يتضمن كل حالات الانحراف والتردي الأخلاقي والتشرذم الاجتماعي، فجاء رسول الإسلام بكل مقومات الحياة الإنسانية الكريمة مبلغًا عن ربه بكل ما يضمن السمو والسعادة للإنسان، داعيًا لكل ما تدعو له الفطرة البشرية من صفات الفضيلة والصدق والأمانة والعفاف والتعامل الحسن مع الغير، ولقد استطاع رسول الله (ص) في فترة قصيرة تغيير ذلك المجتمع بنحو جذري في فكره وسلوكه وتعامله، فقد نقلهم من الحالة الرجعية المستحكمة إلى الرفعة الحضارية والكرامة الإنسانية والتمظهر بما يحترم حقوق الآخرين ويحفظ للفرد عزته وتكامله، قاضيًا على العادات الجاهلية التي تسافلت بالإنسان في ذلك الوقت إلى الحضيض وأفقدته قيمته وكرامته، ويطول الوقت عند الحديث عن كل حالات الشقاء الإنساني في عصر الظلام الجاهلي وما كان يسببه من معاناة للطبقات الفقيرة والعنصر النسائي، وأما القانون العام الذي ينظم حقوق الفرد والمجتمع فيعد سماعه في ذاك الزمان أضحوكة؛ لغياب الدستور المنظم لذلك -إلا القليل من الأعراف والقيم الحسنة- فضلًا عن سطوة قانون الغاب في التعامل وعلو سلطة القوة، ولكن البعثة النبوية جبّت ظلم الجاهلية وقضت على كل الأفكار والسلوكيات المنافية للفطرة البشرية؛ لتكون البشرية على موعد مع تلك النقلة القيمية التي أخرجتها لضياء الازدهار والتكامل.