أشهر النور والتعرّض للنفحات الإلهية
من المواضيع المهمة التي ينبغي معرفتها، والتعرض لها، هو موضوع النفحات الإلهية المتوجهة للإنسان المؤمن، كما في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها"[1]. وهناك الكثير من الأسئلة التي تُطرح في هذا الصدد. متى تأتي النفحة؟ ما قواعدها؟ ما موانعها؟ كيف نتعرض لها؟ كيف نحافظ عليها؟
التعرض لنفحات الله هو التعرض لعطاءات الله، وعطاءاتُ الله غير خيرات الله، فخيرات الله نأخذها بالحواس، ويستفيد بها الجسم كالطعام والشراب، لكن عطاءات الله تنزل على القلب الذي صلح وانصلح وأصبح جاهزاً لنزول العطاءات من الله جلّ في علاه. إذًا هي عبارة عن نسمات وهِبات من عالم الغيب، تعْرِض على القلب، فيعيش الإنسان حالة من الإقبال على الله تعالى.
هل أشهر النور من النفحات الإلهية؟
وليست هذه الأشهر المباركة إلا من النفحات الربانية المتنزلة من حظيرة القدس، الهابطة من الملأ الأعلى، العابقة بعبير الجنة، المحْيِيَة للقلوب الميتة، والملينة للأكباد القاسية، وهي أيام ميّزها الله بسمات وخصائص، فتعظم وتسمو، وتتفتح فيها أبواب السماء.
في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ عَرَفَ حُرْمَةَ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَوَصَلَهُمَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الشُّهُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[2].
وفي الراوية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ: رَجَبًا وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ"[3].
وهي من أفضل أيام الدنيا الزائلة على الإطلاق، فقد وُصف شهر رجب بالأصب، لأن الرحمة الإلهية تتدفق فيه بشكل عظيم، وكذا شعبان، شهر يزداد عطاء الله (سبحانه وتعالى) فيه للمقبلين عليه بكل صدق وإخلاص وتوجّه، وسُمي بشعبان لتشعب الخيرات فيه، وهما الشهران التمهيديان للدخول إلى شهر الله - عزّ وجلّ -، الذي ترمض[4] فيه الذنوب.
وهذه الأشهر فيها أكرم معاني الإعداد والتكوين، لتطهير الروح، وإعلان سلطان الإرادة، والتغلب على الخصال السيئة، واكتساب الخصال الحسنة، وهي من أعظم الهبات الإلهية، بل قد تكون فرصة العمر التي لا ينبغي تركها، فمن الضامن لنا البقاء إلى العام المقبل، لننال بعضًا من هذه النفحات من جديد! وما ألطف الرواية عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"[5].
شعبان[6]، وتشعُّب النفحات
مرّ في الرواية التي صدَّرنا بها الحديث أن هناك شجرةً تتدلى أغصانها في شهر شعبان، ألا وهي شجرةُ طوبى، وكُل غُصنٍ من هذهِ الأغصان متعلقٌ بعملٍ من الأعمال، وهو ما يدلل على كثرة تشعب النفحات وأعمال الخير فيه. وأشارت الرواية أيضًا إلى أن التعلق بالله لا يتمّ فقط بالصلاة والصيام، بل أكثر من ذلك.
ويكفي في دلالة عظمته ما ذُكر في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شهر شريف، وهو شهري، وحملة العرش تعظمه، وتعرف حقه، وهو شهر تزادد فيه أرزاق المؤمنين لشهر رمضان، وتُزيّن فيه الجنان. وإنما سمي شعبان لأنه يتشعب فيه أرزاق المؤمنين، وهو شهرٌ العملُ فيه مضاعف: الحسنة بسبعين، والسيئة محطوطة، والذنب مغفور، والحسنة مقبولة، والجبار جلّ جلاله يباهي فيه بعباده، وينظر صوّامه وقوّامه فيباهي بهم حملة العرش"[7].
وما ألطف تعبير الشاعر:[8]
مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيـهِ وَهَـذَا شَهْرُ شَعْبَانَ الْمُبَارَكْ
فَيَا مَـنْ ضَيَّعَ الأَوْقَـاتَ جَهْلاً بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ واحْذَرْ بَـوَارَكْ
فَسَـوْفَ تُفَارِقُ اللَّـذَاتِ قَهْرًا وَيُخْلِي الْمَوْتُ قَهْرًا مِنْكَ دَارَكْ
تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَـلْ مَدَارَكْ
عَلَى طَلَبِ السَّلاَمَةِ مِنْ جَحِيمٍ فَخَيْرُ ذَوِي الْجَرَائِمِ مَـنْ تَدَارَكْ
كيف تتعلّق بأغصان طوبى
إذا أردت أن تتعلق بأغصان هذه الشجرة المباركة، فعليك القيام بعدد من الخطوات:
السعي للتكامل في الشخصية الإيمانية:
مرّ أنّ شهر رجب هو شهر التهيئة وتجهيز الأرضية لدخول الكمالات البعدية، وخصوصًا ما يتعلق بالشخصية الإيمانية. وشهر شعبان كذلك، فلا بدّ من السعي إلى التميز فيه، وطريقها يمرّ عبر عدد من المحطات، بعضٌ منها أشارت إليه الصلوات الشعبانية، حيث يتوجه الإمام زين العابدين عليه السلام إلى الله - عزّ وجلّ -، بطلب غايات ومحامد ومزايا كل إنسان مؤمن يرنو ويرجو من الله أن يصل إليها، مثل إعمار القلب بالطاعة، وعدم الخزي بإقتراف المعصية، ومواساة الفقراء، "اللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاعْمُرْ قَلْبي بِطاعَتِكَ، وَلا تُخْزِني بِمَعْصِيَتِكَ، وَارْزُقْني مُواساةَ مَنْ قَتَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِكَ بِما وَسَّعْتَ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَنَشَرْتَ عَلَيَّ مِنْ عَدْلِكَ"[9].
فمن قدر في هذا الشهر الشريف على الوصول إلى هذه الكمالات الثلاث، فقد حصل على مزايا عظيمة، وعليه أن يدعو الله - عزّ وجلّ - أن يحفظها له، وهي:
إعمار القلب بالطاعة، فكيف يكون القلب عامرًا بالطاعة؟
الابتعاد عن المعصية، فكيف يبتعد الانسان عن المعصية؟
التقرب إلى عيال الله عبر التكافل الاجتماعي، فكيف يكفل الناس؟
تذكرة لمن يخشى...، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، ش محمد باقر، بحار الأنوار، ج 68، ص 221.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 7، ص 316.
[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 24-25.
[4] يرجع إلى رمض الذنوب، أي يحرقها، وهي كلمة مأخوذه من الرمضاء، وهي شدة الحر.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 114.
[6] سمي بهذا الاسم لتشعب الناس بحثًا عن الكلأ والمرعى بعد قعودهم عن القتال في رجب. وقيل: بل لتفرقهم وتشعبهم في طلب المياه. ويعزو بعضهم تسميته إلى تشعب الأغصان في الوقت الذي سمي فيه تماماً كما سمي جمادى، لأن الماء كان يجمد فيهما زمن تسميتهما. وقال اللغوي أحمد بن يحيى ثعلب: قال بعضهم: إنما سمي شعبانُ شعبانَ لأنه شَعَب، أي ظهر من بين شهري رمضان ورجب. ولما كانت العرب تُنْسِئ تؤجل الأشهر الحُرُم كانت تُدخل رجب في شعبان، ويطلقون عليهما الرجبَين.
[7] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 94، ص 69.
[8] ابن رجب، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي، لطائف المعارف، ج1، ص 135.
[9] من أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.
28-02-2022